Friday 14 January 2022

تفسير سورة البقرة ج3 شر الفئات الثلاثة ثالثهم

   

تفسير سورة البقرة – ج3 – فئة من الناس بينة الخسران، وأخرى يغم أمرها وهي الأشد خطرًا

 

موضوع هذا الجزء من السورة:

- بيان بقية أقسام الناس، فقد سبق ذكر المفلحين، ويتبع بذكر فئتين غيرهم ؛

-فئة منهم واضح حالهم، لم يخفوها، فهم يجهرون بها، وهؤلاء  شر الناس ، وأمرهم هين .

- وفئة متلونه، لا يظهر لهم حال، يميلوا حيث يناسب المقام، فهؤلاء يلزم توضيح أمرهم ، والتمثيل لهم، لينجلي لكم الحال.

-ترسيخ الإيمان بأن لا شيء يخرج عن علم الله وإرادته.

- ترسيخ وتوضيح لحيثيات الإيمان.

التفسير:

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُون} 

 

قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي: غَطوا الحق وستروه، وقد كتب الله تعالى عليهم ذلك، سواء عليهم إنذارك وعدمه، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [ يونس٩٦-٩٧ ] وقال في حق المعاندين من أهل الكتاب: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ ...) الآية [ البقرة١٤٥]

وهنا بيان من الله لترسيخ عقيدة المؤمن بأن لا شيء يخرج عن إرادة الله ومشيئته، فإن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مُسْعِد له، ومن أضلَّه الله فلا هادي له.

وفيها أيضا تسلية للنبيﷺ الحريص على إيمان الناس جميعًا بأنه مهما فعل، فمن كتبت عليه الشقاوة فلا منقذ له، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وبلّغهم الرّسالة، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر، ومن تولى فلا تحزن عليهم ولا يُهْمِنَّك ذلك، فما عليك إلا كما قيل لك:( فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ) [ الرعد٤٠]، وقال: (إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) [هود١٢] .

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) قال:كان رسول الله ﷺ يحرصُ أن يؤمن جميع النَّاس ويُتَابعوه على الهدى، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأوّل، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل.

وكما ذكرنا الحديث: قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، بسنده عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ وقيل له:يا رسول الله، إنا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ من القرآن فنكاد أن نيأس، أو كما قال. قال:فقال: « أفلا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ » . قالوا:بلى يا رسول الله. قال: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ...} إلى قوله تعالى: {الْمُفْلِحُونَ} هؤلاء أهل الجنة » . قالوا: إنا نرجو أن نكون هؤلاء. ثم قال:  {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ...إلى قوله: عَظِيمٌ}  هؤلاء أهل النار » . قالوا: لسنا هم يا رسول الله. قال: « أجل » .

وقوله تعالى: (لا يُؤْمِنُونَ) محله من الإعراب أنه جملة مؤكدة للتي قبلها: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أي هم كفار في كلا الحالين؛ فلهذا أكد ذلك بقوله: (لا يُؤْمِنُونَ) ويحتمل أن يكون ( لا يُؤْمِنُونَ ) خبرًا لأن تقديره: إن الذين كفروا لا يؤمنون، ويكون قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ ) جملة معترضة، والله أعلم   .

 

قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (

قال السّدي: (خَتَمَ اللَّهُ) أي:طبع الله، وقال قتادة في هذه الآية: استحوذ عليهم الشيطان إذ أطاعوه؛ فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فهم لا يبصرون هدى ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون.

وقال ابن جُرَيْج:قال مجاهد: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ) قال: نبئت أن الذنوب على القلب تحف به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطبع، والطبع الختم، قال ابن جريج: الختم على القلب والسمع.

قال ابن جُرَيْج:وحدثني عبد الله بن كَثير، أنه سمع مجاهدًا يقول: الرّانُ أيسر من الطبع، والطبع أيسر من الأقفال، والأقفال أشد من ذلك كله.

 

وقال الأعمش:أرانا مجاهد بيده فقال:كانوا يرون أن القلب في مثل هذه - يعني:الكف- فإذا أذنب العبد ذنبًا ضُمَّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضَمّ. وقال بأصبع أخرى، فإذا أذنب ضُمّ. وقال بأصبع أخرى وهكذا، حتى ضم أصابعه كلها، ثم قال :يطبع عليه بطابع.

وقال مجاهد:كانوا يرون أن ذلك: الرين.

قال ابن جرير:وقال بعضهم:إنما معنى قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) إخبار من الله عن تكبرهم، وإعراضهم عن الاستماع لما دُعُوا إليه من الحق، كما يقال: إن فلانًا لأصَمّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه، ورفع نفسه عن تفهمه تكبرًا.

قال:وهذا لا يصح؛ لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم.

وهو مثل قوله تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف  ٥]  وقوله: (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام ١١٠]

وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاءً وفاقًا على تماديهم في الباطل وتركهم الحق، وهذا عدل منه تعالى حسن وليس بقبيح، فلو أحاط علمًا بهذا لما قال ما قال، والله أعلم.

 

قال القرطبي:وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل قد وصف نفسه بالختم والطبع على قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ) [النساء١٥٥] ‏

وذكر حديث تقليب القلوب: « ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك » ، وفي الصحيح من حديث حذيفة  قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: (تُعْرَضُ الفِتَنُ علَى القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتَّى تَصِيرَ علَى قَلْبَيْنِ، علَى أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلَّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ. » ( مسلم).

قال القرطبي : والحق عندي في ذلك ما صَحّ بنظيره الخبرُ عن رسول الله ﷺ، عن أبي هريرة، قال:قال رسول الله ﷺ: ( إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتة سوداء في قلبه فإن تاب ونـزعَ واستعتب صقل قلبه، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي قال الله تعالى: (كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [ المطففين١٤] .( رواه الترمذي وقال: حسن صحيح)

 

ثم قال ابن جرير:فأخبر رسول الله ﷺ أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله تعالى والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلك، ولا للكفر عنها مخلص، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكر في قوله تعالى: ( خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ)

واعلم أن الوقف التام على قوله تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ)، وقوله ( وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ) جملة تامة، فإن الطبع يكون على القلب وعلى السمع، والغشاوة - وهي الغطاء- تكون على البصر، كما قال السدي في تفسيره عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ) يقول:فلا يعقلون ولا يسمعون، ويقول:وجعل على أبصارهم غشاوة، يقول: على أعينهم فلا يبصرون.

وعن ابن جريج قال:الختم على القلب والسمع، والغشاوة على البصر، قال الله تعالى: (فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ) [الشورى٢٤]، وقال سبحانه: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً) [الجاثية٢٣] .

ثم شرع ربنا تبارك وتعالى في بيان حال المنافقين الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، ولما كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس أطنب في ذكرهم بصفات متعددة، كل منها نفاق، كما أنـزل سورة براءة فيهم، وسورة المنافقين فيهم، وذكرهم في سورة النور وغيرها من السور، تعريفا لأحوالهم لتجتنب، ويجتنب من تلبس بها أيضًا، فقال تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ* يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)

النفاق:هو إظهار الخير وإسرار الشر، وهو أنواع:

-اعتقادي، وهو الذي يخلد صاحبه في النار.

- وعملي وهو من أكبر الذنوب، وهذا كما قال ابن جريج: المنافق يخالف قَوْلُه فِعْلَهُ، وسِرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مَغِيبه.

بداية ظهور النفاق في المدينة

وقد يسأل السائل: لماذا نـزلت صفات المنافقين في السّور المدنية؟

نقول: لأن مكة لم يكن فيها نفاق، بل كان خلافه، من الناس من كان يظهر الكفر مُسْتَكْرَها، وهو في الباطن مؤمن.

 فلمَّا هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، وكان بها الأنصار من الأوس والخزرج، وكانوا في جاهليتهم يعبدون الأصنام، على طريقة مشركي العرب.

 وبها اليهود من أهل الكتاب على طريقة أسلافهم، وكانوا ثلاث قبائل: بنو قَيْنُقَاع حلفاء الخزرج، وبنو النَّضِير، وبنو قُرَيْظَة حلفاء الأوس.

 فلمَّا قدم رسول الله ﷺ المدينة، وأسلم من أسلم من الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج، وقل من أسلم من اليهود إلا عبد الله بن سَلام، رضي الله عنه، ولم يكن إذ ذاك نفاق أيضا؛ لأنه لم يكن للمسلمين بعد شوكة تخاف، بل قد كان، ﷺ وَادَعَ اليهود وقبائل كثيرة من أحياء العرب حوالي المدينة.

 فلما كانت وقعة بدر العظمى وأظهر الله كلمته، وأعلى الإسلام وأهله، قال عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وكان رأسا في المدينة، وهو من الخزرج، وكان سيد الطائفتين في الجاهلية، وكانوا قد عزموا على أن يملّكوه عليهم، فجاءهم الخير وأسلموا، واشتغلوا عنه، فبقي في نفسه من الإسلام وأهله، فلما كانت وقعة بدر قال: هذا أمر قد تَوَجَّه، أي ظهر وقوي؛ فأظهرَ الدخول في الإسلام في السنة الثانية للهجرة بعد بدر، ودخل معه طوائف ممن هو على طريقته ونحلته، وآخرون من أهل الكتاب، فمن ثَمّ وُجِد النفاق في أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فأما المهاجرون فلم يكن فيهم أحد، لأنه لم يكن أحد يهاجر مكرَهًا، بل يهاجر ويترك ماله، وولده، وأرضه رغبة فيما عند الله في الدار الآخرة.

قال محمد بن إسحاق: عن ابن عباس: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) يعني: المنافقين من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم.

ومن هنا نبَّه الله سبحانه، على صفات المنافقين لئلا يغترّ بظاهر أمرهم المؤمنون، فيقع بذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم، ومن اعتقاد إيمانهم، وهم كفار في نفس الأمر، وهذا من المحذورات الكبار، أن يظن بأهل الفجور خَيْر، فقال تعالى: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ) أي:يقولون ذلك قولا ليس وراءه شيء آخر، كما قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) [ المنافقون١] أي: إنما يقولون ذلك إذا جاؤوك فقط، لا في نفس الأمر؛ ولهذا يؤكدون في الشهادة بإنَّ ولام التأكيد في خبرها؛  كما أكَّدوا قولهم: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) وليس الأمر كذلك، كما أكْذبهم الله في شهادتهم، وفي خبرهم هذا بالنسبة إلى اعتقادهم، بقوله: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [ المنافقون١]، وبقوله ( وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ )

متشابهات:

ورد التأكيد على الإيمان باليوم الآخر ( بتكرار حرف الجر بـــــ إليه)  في ثلاث مواضع هي:

1.وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ﴿البقرة: ٨﴾‏

2. وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴿النساء: ٣٨﴾‏

3. قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴿التوبة: ٢٩﴾‏

ولنتذكر أنها في كل من هذه السور تكون فيها أول مرة في السورة يذكر اليوم الآخر .

وقوله تعالى: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) أي: بإظهارهم ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر، يعتقدون بجهلهم أنهم يخدعون الله بذلك، وأن ذلك نافعهم عنده، وأنه يروج عليه كما يروج على بعض المؤمنين، كما قال تعالى: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [ المجادلة١٨] ؛ ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) أي: وما يَغُرُّون بصنيعهم هذا ولا يخدعون إلا أنفسهم، وما يشعرون بذلك من أنفسهم، كما قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ) [ النساء ١٤٢] .

 

قال ابن جرير: فإن قال قائل:كيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعًا؟ وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟

قيل:لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي في ضميره تقية، لينجو مما هو له خائف، مخادعا، وخصوصا إذا أظهر الخير، وكتم في نفسه شر.

 فكذلك المنافق، سمي مخادعا لله وللمؤمنين، بإظهاره ما أظهر بلسانه تقية، مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر، مستبطن، وذلك من فعلِه.

 وإن كان خداعًا للمؤمنين في عاجل الدنيا- فهو لنفسه بذلك من فعله خادع، لأنه يُظْهِر لها بفعله ذلك بها أنَّه يعطيها أمنيّتها، ويُسقيها كأس سرورها، وهو موردها حياض عطبها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبَلَ لها به، فذلك خديعته نفسه، ظنًا منه أنه إليها محسن، كما قال تعالى: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) إعلامًا منه عِبَادَه المؤمنين أنّ المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسْخَاطهم عليها ربهم بكفرهم، وشكهم وتكذيبهم، غير شاعرين بما يفعلون، فهم على عمياء من أمرهم مقيمون .

وقال ابن أبي حاتم: عن ابن جُرَيْج، في قوله تعالى: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ ) قال:يظهرون « لا إله إلا الله » يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم، وفي أنفسهم غير ذلك .

وقال سعيد، عن قتادة: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) نُعت المنافق عند كثير بأنه: خَنعُ الأخلاق؛  يصدّق بلسانه وينكر بقلبه ويخالف بعمله، يصبح على حال ويمسي على غيره، ويمسي على حال ويصبح على غيره، ويتكفأ تكفأ السفينة كلما هبَّت ريح هبّ معها.

وقوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (

قال السدي، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي ﷺ في هذه الآية: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال: شَكٌّ، (فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) قال: شكًّا. وكذلك قال ابن عباس ، وابن جبير، وغيرهم.

وقال عكرمة، وطاوس: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) يعني:الرياء.

وقال الضحاك، عن ابن عباس قال: نفاق ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) قال:نفاقا، وهذا كالأول.

 

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) قال:هذا مرض في الدين، وليس مرضًا في الأجساد، وهم المنافقون. والمرض: الشك الذي دخلهم في الإسلام ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ) قال:زادهم رجسًا، وقرأ: و(َإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ *وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) [التوبة ١٢٤- ١٢٥] قال: رِجْسًا : أي شرًا إلى شرهم وضلالة إلى ضلالتهم.

وهذا الذي قاله حسن، وهو الجزاء من جنس العمل، وكذلك قاله الأولون، وهو نظير قوله تعالى أيضًا: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [ محمد ١٧ ] .

وقوله ( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ) وقرئ: « يكذّبون » ، وقد كانوا متصفين بهذا وهذا، فإنهم كانوا كذبة يكذبون بالحق يجمعون بين هذا وهذا.

وقد سئل القرطبي وغيره من المفسرين عن حكمة كفه، عليه السلام، عن قتل المنافقين مع علمه بأعيان بعضهم، وذكروا أجوبة عن ذلك منها ما ثبت في الصحيحين:أنه قال لعمر: « أكره أن يتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه »

ومعنى هذا خشية أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ولا يعلمون حكمة قتله لهم، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون: إن محمدًا يقتل أصحابه.

قال القرطبي:وهذا قول علمائنا وغيرهم كما كان يعطي المؤلفة قلوبهم مع علمه بشر اعتقادهم. قال ابن عطية:وهي طريقة أصحاب مالك، قال مالك، رحمه الله: إنما كف رسول الله ﷺ عن المنافقين ليبين لأمته أن الحاكم لا يحكم بعلمه.

قال القرطبي:وقد اتفق العلماء عن بكرة أبيهم على أن القاضي لا يقتل بعلمه، وإن اختلفوا في سائر الأحكام

وقال: ومنها ما قال الشافعي:إنما منع رسول الله ﷺ من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم؛ لأن ما يظهرونه يجبّ ما قبله. ويؤيد هذا قوله ﷺ في الحديث المجمع على صحته في الصحيحين وغيرهما: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله، عز وجل » .

ومعنى هذا: أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهرًا، فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الدار الآخرة، وإن لم يعتقدها لم ينفعه في الآخرة جريان الحكم عليه في الدنيا، وكونه كان خليط أهل الإيمان: ( يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ...) الآية [الحديد١٤] ، فهم يخالطونهم في بعض المحشر، فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم.

قول من قال:كانﷺ يعلم أعيان بعض المنافقين إنما مستنده حديث حذيفة بن اليمان في تسمية أولئك الأربعة عشر منافقًا في غزوة تبوك الذين هموا أن يفتكوا برسول الله ﷺفي ظلماء الليل عند عقبة هناك؛ عزموا على أن ينفروا به الناقة ليسقط عنها فأوحى الله إليه أمرهم فأطلع على ذلك حذيفة بن اليمان، وقيل: ولعل الكف عن قتلهم كان لمدرك من هذه المدارك أو لغيرها والله أعلم.

 

فأما غير هؤلاء من المنافقين فقد صرح الله في  مواضع كثيرة من القرآن أن النبيﷺ لا يعلمهم، فقد قال تعالى: (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ...) الآية[ التوبة ١٠١] ، وقال تعالى: ( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا..) [ الأحزاب ٦٠]،  ففيها دليل على أنه لم يغر بهم ولم يدرك على أعيانهم وإنما كانت تذكر له صفاتهم فيتوسمها في بعضهم كما قال تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ..) [محمد  ٣٠]

وقد كان من أشهرهم بالنفاق عبد الله بن أبي بن سلول وقد شهد عليه زيد بن أرقم بذلك الكلام الذي سبق في صفات المنافقين ومع هذا لما مات [ صلى عليه ] ﷺ وشهد دفنه كما يفعل ببقية المسلمين، وقد عاتبه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فيه فقال: « إني أكره أن تتحدث العرب أن محمدًا يقتل أصحابه » وفي رواية في الصحيح « إني خيرت فاخترت » وفي رواية « لو أني أعلم لو زدت على السبعين يغفر الله له لزدت » .

(وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ (

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مُرّة الطيب الهمداني، عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب رسول الله ﷺ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ) أما لا تفسدوا في الأرض، قال:الفساد هو الكفر، والعمل بالمعصية.

عن أبي العالية (... لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ) قال:يعني:لا تعصُوا في الأرض، وكان فسادهم ذلك معصية الله؛ لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض؛ لأن صلاح الأرض والسماء بالطَّاعة.

وقال ابن جُرَيْج، عن مجاهد: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ) قال: إذا ركبوا معصية الله، فقيل لهم:لا تفعلوا كذا وكذا، قالوا:إنما نحن على الهدى، مصلحون.

وقد قال وَكِيع، عن سلمان الفارسي: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)  قال سلمان:لم يجئ أهل هذه الآية بعد.

وهذا الذي قاله حسن، فإن من الفساد في الأرض اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ )[ الأنفال٧٣] فقطع الله الموالاة بين المؤمنين والكافرين كما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا )[ النساء١٤٤] ، ثم قال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ) [ النساء١٤٥]

فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين، فكأن الفساد من جهة المنافق حاصل؛ لأنه هو الذي غَرّ المؤمنين بقوله الذي لا حقيقة له، ووالى الكافرين على المؤمنين، ولو أنه استمر على حالته الأولى لكان شرّه أخف، ولو أخلص العمل لله وتطابق قوله وعمله لأفلح وأنجح؛ ولهذا قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي:نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء، وعن ابن عباس: أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. يقول الله: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ) يقول: ألا إن هذا الذي يعتمدونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فسادًا.

وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ (

يقول الله تعالى:وإذا قيل للمنافقين: ( آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ) أي: كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت والجنَّة والنَّار وغير ذلك، مما أخبر المؤمنين به وعنه، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر وترك الزواجر (قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ) يعنون - لعنهم الله- أصحابَ رسول الله ﷺ ورضي الله عنهم، يقولون: أنصير نحن وهؤلاء بمنـزلة واحدة وعلى طريقة واحدة وهم سفهاء!!

 

والسفهاء:جمع سفيه، كما أن الحكماء جمع حكيم [ والحلماء جمع حليم ] والسفيه:هو الجاهل الضعيف الرّأي القليل المعرفة بمواضع المصالح والمضار؛ ولهذا سمى الله النساء والصبيان سفهاء، في قوله تعالى: (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا )[ النساء٥] قال عامة علماء السلف: هم النساء والصبيان !!

السَّفه: نقْص في العقل وخِفَّة فيه.

 يقول ابن كثير: الحَجر على أقسام ؛ تارة للصغر، وتارة للجنون، وتارة لسوء التصرُّف؛ لنقص العقل أو الدين؛ أي: إن السفيه هو الذي يُبذِّر ويُبدِّد مالَه في ما يضره ويضر الناس، أو على الأقل في ما لا ينفعه.

وقد تولى الله، سبحانه، جوابهم في هذه المواطن كلها، فقال ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ) فأكد وحصر السفاهة فيهم.

( وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) يعني:ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل، وذلك أردى لهم وأبلغ في العمى، والبعد عن الهدى.

 

وقوله تعالى: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (

يقول [ الله ] تعالى:وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا: ( آمَنَّا ) أي:أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة، غرورًا منهم للمؤمنين ونفاقا ومصانعة وتقية، ولِيَشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم، ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) يعني: وإذا انصرفوا وذهبوا وخلصوا إلى شياطينهم. فضمن (خَلَوْا ) معنى انصرفوا؛ لتعديته بـــ إلى، ليدل على الفعل المضمر والفعل الملفوظ به. ومنهم من قال: « إلى » هنا بمعنى « مع » ، والأول أحسن، وعليه يدور كلام ابن جرير.

وقال السدي عن أبي مالك: ( خَلَوْا ) يعني:مضوا، و ( شَيَاطِينِهِمْ ) يعني:سادتهم وكبراءهم ورؤساءهم من أحبار اليهود ورؤوس المشركين والمنافقين.

قال السدي في تفسيره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرّة عن ابن مسعود، عن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:  (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) يعني:هم رؤوسهم من الكفر.

عن ابن عباس: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ) يعني:إلى رؤوسهم من أهل الكفر.، أو  من يهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول.

وقال مجاهد: ( وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) إلى أصحابهم من المنافقين والمشركين.

قال ابن جرير: وشياطين كل شيء مَرَدَتُه، العتاة، وتكون الشياطين من الإنس والجن، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) [ الأنعام١١٢ ] .

وفي المسند عن أبي ذر قال:قال رسول اللهﷺ: « نعوذ بالله من شياطين الإنس والجن » . فقلت:يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: « نعم » .

وقوله تعالى: ( قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ) قال محمد بن إسحاق، عن  سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أي إنا على مثل ما أنتم عليه ( إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) أي:إنما نحن نستهزئ بالقوم ونلعب بهم، ساخرون بأصحاب محمد ﷺ.

وقوله تعالى جوابًا لهم ومقابلة على صنيعهم: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

وقال ابن جرير:أخبر الله تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة، في قوله: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ...) الآية [ الحديد١٣]

 وقوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) [ آل عمران ١٧٨] . قال:فهذا وما أشبهه، من استهزاء الله، تعالى ذكره، وسخريته ومكره وخديعته للمنافقين، وأهل الشرك به عند قائل هذا القول، ومتأول هذا التأويل.

قال:وقال آخرون:بل استهزاؤه بهم توبيخه إياهم، ولومه لهم على ما ركبوا من معاصيه، والكفر به.

قال:وقال آخرون:هذا وأمثاله على سبيل الجواب، كقول الرّجل لمن يخدعه إذا ظفر به:أنا الذي خدعتك. ولم تكن منه خديعة، ولكن قال ذلك إذ صار الأمر إليه، قالوا:وكذلك قوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ آل عمران٥٤] و ( اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ) على الجواب، والله لا يكون منه المكر ولا الهزء، والمعنى:أن المكر والهُزْء حَاق بهم.

وقال آخرون:قوله: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وقوله: ( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ )[ النساء:١٤٢] ، وقوله: ( فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ )[ التوبة٧٩ ] ، وما أشبه ذلك، وهو  إخبار من الله تعالى أنه يجازيهم جَزَاءَ الاستهزاء، ويعاقبهم عقوبة الخداع فأخرج خبره عن جزائه إياهم وعقابه لهم مُخرج خبره عن فعلهم الذي عليه استحقوا العقاب في اللفظ.

 وإن اختلف المعنيان كما قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) [ الشورى٤٠] ، وقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) [ البقرة١٩٤ ]، فالأول ظلم، والثاني عدل، فهما وإن اتفق لفظاهما فقد اختلف معناهما.

يتبع إن شاء الله

No comments:

Post a Comment