Sunday 20 March 2022

قراءة في أحاديث رياض الصالحين– ج 8 - من باب 89- 91 - في آداب الوعظ للعالم والمتعلم

  


-   باب استحباب بيان الكلام وإيضاحه للمخاطب وتكريره ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك

696- عن أنس رضي الله عنه أن النبى : "كان إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثًا، حتى تُفْهَمَ عنه، وإذا أتى على قومٍ فسلَّمَ عليهم، سلَّمَ عليهم ثلاثًا "‏.‏ (‏رواه البخاري)‏‏.‏

كان النبيَّ كانَ يُكرِّرُ كَلامَه ثلاثًا إذا أرادَ المَوعظة؛ مِن أجلِ أن يفهمَه المخاطَبون ويَستوعِبوا معناه؛ لأنّ التَّكرارَ يعين على الحفظِ، وبه يتَّضِحُ اللفظُ، وخاصَة إذا خشِيَ ألَّا يُفهَمَ كَلامه، أو لا يُسمَع، أو إذا أرادَ الإبلاغَ في التَّعليمِ، أو الزَّجرِ ِ،  وهذا مِن أُصولِ التَّربيةِ التعليميةِ في الإسلام؛ لأنَّ الإعادة ثلاثا أحرى للبيانُ والإعذارُ.

إذا أتى على قومٍ سلَّمَ عليهم ثلاثًا"، ولعلَّ هذا كان هَدْيَه في السَّلامِ على الجمْعِ الكثيرِ الَّذين لا يَبلُغُهم سَلامٌ واحدٌ، أو هَدْيَه في إسماعِ السَّلام ،  أو يكونُ إعادةُ السَّلامِ مُرادًا به الاستئذانُ إذا لم يَسمَعِ السَّلامَ الأوَّلَ ولم يُجِبْ.

فأمَّا إذا مرَّ على مَجلسٍ فعَمَّهم بالسَّلامِ، أو أتى دارًا فسلَّمَ فأجابوا؛ فلا وَجْهَ للإعادةِ.،، او أنَّ يكون إذا أتَى على قَومٍ سلَّمَ تسليمةَ الاستئذانِ، وإذا دخَلَ سلَّمَ تَسليمةَ التَّحيَّةِ، ثُمَّ إذا قام مِنَ المجلسِ سلَّم تسليمةَ الوداعِ، وهي في معنى الدُّعاءِ.

وفي الحديث أنه  قال: " إذا انْتَهَى أحَدُكُمْ إلى مجلِسٍ، فأرادَ أنْ يجلِسَ فَلْيُسلِّمْ، فإذا قامَ والقومُ جُلوسٌ فَلْيُسلِّمْ، فإنَّ الأُولَى ليسَتْ بأحقَّ مِنَ الآخِرةِ."( قال عنه شعيب الأرناؤوط أنه حسن)

697- وعن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان كلام رسول الله : "كلامًا فصلًا يَفهَمُهُ كلُّ مَن يسمَعُهُ.‏"‏‏ (‏رواه أبو داود‏- حديث حسن)‏‏.‏

كان النبيُّ أفْصحَ الخَلقِ وأعذَبَهم كلامًا، وأسرَعهم أداءً، وأحلاهم مَنطقًا، حتى كان كلامُه يأخذُ بالقلوبِ ويَسبي الأرواحَ، وكان مِن هَدْيِه التأنِّي والهدوءُ في الحديثِ مع تَوضيحِ كلامِه للنَّاسِ؛ حتى يَفهموا ولا يَفوتَهم شيءٌ من قولِه، كما في هذا الحديثِ، حيث تقولُ عائشةُ زَوجُ النبيِّ : "كانَ كلامُ رَسولِ اللهِ أي: في خُطَبِه ومواعِظه معَ الناسِ "كلامًا فَصلًا"، أي: كانَ كلامُه مُفصَّلًا واضحًا مع بَيانِ حُروفِه وألفاظِه. وقيلَ: فاصِلًا بينَ الحقِّ والباطلِ، أوْ مَصونًا عَنه؛ فليسَ في كلامِه باطلٌ أصْلًا، فلا تَلتبِسُ ألفاظُه على أحدٍ، "يَفْهمُه كلُّ مَن سمِعَه"، أي: فيَستطيعُ السَّامعُ فَهْمَه وحِفظَه؛ لِكمال فَصاحتِه على إيضاحِ الكلامِ وتَبيِينِه، وقد أعطاه اللهُ سبحانَه جوامِعَ الكَلِمِ.

وفيه: إرشادٌ للدَّاعيةِ أنْ يكونَ حَسَنَ المنطقِ، وأنْ يُوضِّحَ كلامَه ويُبيِّن ألفاظَه وحُروفَه للنَّاسِ؛ ليصِلَ إلى مُرادِه في دَعوتِه ويُفهِّم المتلقِّي.

٩٠- باب إصغاء الجليس لحديث جليسه الذي ليس بحرام واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه

698- عن جرير بن عبد الله :قالَ لي رَسولُ اللَّهِ في حَجَّةِ الوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتِ النَّاسَ ثُمَّ قالَ: لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"  ‏‏‏(‏متفق عليه).

في هذا الحَديثِ يَرْوي جَريرُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَليُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ أمَرَهُ في حَجَّةِ الوداعِ أنْ يَأمُرَ النَّاسَ بالإنصاتِ والإصغاء إلى النبيِّ ، والاستماعِ إلى ما سَيَقولُه لهم بقلْبٍ حاضرٍ وأُذُنٍ واعيةٍ، فلمَّا أنْصَتوا خَطَبَ فيهم وحذَّرَهم أنْ يَرجِعوا بعْدَه كفَّارًا يَضرِبُ بَعضُهم رِقابَ بَعضٍ؛ وذلك بأنْ تَحمِلَهم العداوةُ والبَغضاءُ فيما بيْنهم على استحلالِ بَعضِهم دِماءَ بعضٍ.

 ويَحتمِلُ أنَّه عَلِمَ أنَّ هذا لا يكونُ في حَياتِه، فنَهاهُم عنه بعْدَ وَفاتِه، يعني إذا فارقْتُ الدُّنيا فاثْبُتوا بَعْدي على ما أنتمْ عليه مِن الإيمانِ والتَّقوى، ولا تُحارِبوا المسلِمينَ، ولا تَأخُذوا أموالَهُم بالباطلِ، وقيل: لا تكُنْ أفعالُكم شَبيهةً بأفعالِ الكُفَّارِ في ضَرْبِ رِقابِ المسلمينَ.

وفي الحديثِ: إصْغاءُ الإنسانِ إلى جَليسِه إذا لم يكُنْ يَتكلَّمُ بشَيءٍ مُحرَّمٍ.

٩١- باب الوعظ والأقتصاد فيه

قال الله تعالى‏:‏ {دْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ }‏(‏النحل‏١٢٥‏)‏‏ ‏

هذه الآية نزلت بمكة في وقت الأمر بمهادنة قريش، وأمره أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف ولين دون مخاشنة وتعنيف، وهكذا ينبغي أن يوعظ المسلمون إلى يوم القيامة، ومن احتاج منهم إلى مناظرة وجدال، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، والموعظة الحسنة فيها أن لا يطيل الكلام مع الطرف الآخر.

699- عن أبى وائل شقيق بن سلمة قال كانَ عبدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ في كُلِّ خَمِيسٍ فقالَ له رَجُلٌ: يا أبا عبدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أنَّكَ ذَكَّرْتَنا كُلَّ يَومٍ؟ قالَ: أما إنَّه يَمْنَعُنِي مِن ذلكَ أنِّي أكْرَهُ أنْ أُمِلَّكُمْ، وإنِّي أتَخَوَّلُكُمْ بالمَوْعِظَةِ، كما كانَ النبيُّ يَتَخَوَّلُنا بها، مَخافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنا.) (‏متفق عليه‏)‏ ‏.‏

كان النبيُّ أحسنَ الناسِ تَعليمًا وتربيةً لأصحابِه؛ فكان يُعلِّمُهم بالقولِ والفِعلِ، وقد نقَلَ الصَّحابةُ الكِرامُ هَدْيَه في الموعظةِ.وفي هذا الحديثِ يَحكي عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النبيَّ كان مِن شِدَّةِ حِرصِه على انتفاعِ أصحابِه واستفادتِهم مِن وَعْظِه وإرشادِه؛ أنَّه لم يكُنْ يُكثِرُ عليهم مِن ذلك، وإنَّما يَتعهَّدُهم بالمَوعظةِ في بعضِ الأيَّامِ دونَ بعضٍ، ويَتحرَّى الأوقاتَ المناسبةَ، الَّتي هي مَظنَّةُ استعدادِهم النَّفسيِّ لها، وإنَّما كان يَقتصِرُ على الوقتِ المناسبِ خَوفًا على نُفوسِهم مِن الضَّجَرِ والملَلِ، الَّذي يُؤدِّي إلى استثقالِ المَوعظةِ وكَراهتِها ونُفورِها، فلا تَحصُلُ الفائدةُ المَرجوَّةُ.وفي الحديثِ: بيانُ رِفقِ النبيِّ وعَظيمِ شَفقتِه بأُمَّتِه؛ ليَأخُذوا الأعمالَ بنَشاطٍ وحِرصٍ عليها، لا عن ضَجَرٍ ومَلَلٍ.

700- وعن أبى اليقظان عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال‏:‏ سمعت رسول الله يقول‏:‏ ‏"‏ إنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ، فأطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الخُطْبَةَ، وإنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا. ‏"‏ ‏‏‏(‏رواه مسلم‏)‏

وقد كانتْ صَلاةُ النَّبيِّ وخطبتُه معتدلتَينِ، ليس فيهما تَطويلٌ مُملٌّ، ولا تَقصيرٌ مُخلٌّ، وعلى هذا سارَ صحابةُ النَّبيِّ ﷺ،  فهذا عمَّارٌ خطَبَ النَّاسَ فأوجَزَ وأبلَغَ، وأوصَلَ ما أرادَهُ بألفاظٍ قَليلةٍ، فلمَّا نزَل مِن على المِنبَرِ قالَ النَّاسُ له: يا أبا اليَقظانِ- وهيَ كنيةُ عمَّارٍ- لقد أبلغَتَ وأوجزْتَ، فلو كُنتَ تنفَّستَ، أي: أطلْتَ قَليلاً، فقالَ: إنِّي سمعتُ رسولَ اللهِ يقولُ: "إنَّ طولَ صَلاةِ الرَّجلِ وقِصَرَ خُطبتِهِ" الحديث، والمَقصودُ: أنَّ تُطوَّلَ الصَّلاةُ عن الخُطبةِ، تَطويلاً لا يَشقُّ على المأمومينَ، حتَّى تكونَ مُعتدلةً بينَ التَّطويلِ والتَّقصيرِ. وقولُه: "مئنَّة مِن فقهِه"، أي: علامَةٌ يُستدَلُّ بها على فقهِ الخَطيبِ.  وقوله:" وإنَّ مِنَ البَيَانِ سِحْرًا ‏"‏: البَيانُ إظهارُ المقصودِ بأبلغِ لفظٍ، وهو مِن الفَهمِ وذَكاءِ القَلبِ

701- وعن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال‏:‏ "‏ بيْنَا أنَا أُصَلِّي مع رَسولِ اللهِ ﷺ، إذْ عَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ، فَقُلتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي القَوْمُ بأَبْصَارِهِمْ، فَقُلتُ: واثُكْلَ أُمِّياهْ، ما شَأْنُكُمْ؟ تَنْظُرُونَ إلَيَّ، فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ بأَيْدِيهِمْ علَى أفْخَاذِهِمْ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُونَنِي لَكِنِّي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رَسولُ اللهِ ﷺ، فَبِأَبِي هو وأُمِّي، ما رَأَيْتُ مُعَلِّمًا قَبْلَهُ ولَا بَعْدَهُ أحْسَنَ تَعْلِيمًا منه، فَوَاللَّهِ، ما كَهَرَنِي ولَا ضَرَبَنِي ولَا شَتَمَنِي، قالَ: إنَّ هذِه الصَّلَاةَ لا يَصْلُحُ فِيهَا شيءٌ مِن كَلَامِ النَّاسِ، إنَّما هو التَّسْبِيحُ والتَّكْبِيرُ وقِرَاءَةُ القُرْآنِ"  أَوْ كما قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي حَديثُ عَهْدٍ بجَاهِلِيَّةٍ، وقدْ جَاءَ اللَّهُ بالإِسْلَامِ، وإنَّ مِنَّا رِجَالًا يَأْتُونَ الكُهَّانَ، قالَ: فلا تَأْتِهِمْ قالَ: ومِنَّا رِجَالٌ يَتَطَيَّرُونَ، قالَ: ذَاكَ شيءٌ يَجِدُونَهُ في صُدُورِهِمْ، فلا يَصُدَّنَّهُمْ، قالَ ابنُ الصَّبَّاحِ: فلا يَصُدَّنَّكُمْ، قالَ قُلتُ: ومِنَّا رِجَالٌ يَخُطُّونَ، قالَ: كانَ نَبِيٌّ مِنَ الأنْبِيَاءِ يَخُطُّ، فمَن وافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ قالَ: وكَانَتْ لي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لي قِبَلَ أُحُدٍ والْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَومٍ فَإِذَا الذِّيبُ قدْ ذَهَبَ بشَاةٍ مِن غَنَمِهَا، وأَنَا رَجُلٌ مِن بَنِي آدَمَ، آسَفُ كما يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً، فأتَيْتُ رَسولَ اللهِ فَعَظَّمَ ذلكَ عَلَيَّ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفلا أُعْتِقُهَا؟ قالَ: ائْتِنِي بهَا فأتَيْتُهُ بهَا، فَقالَ لَهَا: أيْنَ اللَّهُ؟ قالَتْ: في السَّمَاءِ، قالَ: مَن أنَا؟ قالَتْ: أنْتَ رَسولُ اللهِ، قالَ: أعْتِقْهَا، فإنَّهَا مُؤْمِنَةٌ. ‏‏(‏رواه مسلم‏)‏‏

702- عن العرباض بن سارية قال: وعظنا رسولُ اللهِ موعظةً بليغةً وَجِلَت منها القلوبُ وذرفت منها العيونُ فقلنا: يا رسولَ اللهِ كأنها موعظةُ مودِّعٍ فأوصِنا " وذكر الحديث وقد سبق بكماله في باب الأمر بالمحافظة على السنة، وذكرنا أن الترمذي قال‏:‏ ‏‏‏(‏إنه حديث حسن صحيح‏)‏‏.‏

الحديث: وَعَظَنا رسولُ اللهِ موعِظَةً بليغَةً، وَجِلتْ منها القلوبُ، وذَرَفتْ منها العُيونُ، فقُلنا: يا رسولَ اللهِ كأنَّها موعِظَةُ مُودِّعٍ فأوْصِنا. قال: "أُوصيكُم بتَقوى اللهِ، والسَّمعِ والطاعَةِ وإنْ تأمَّر عليكم عبدٌ حبشيٌّ، وأنَّه مَن يَعِشْ منكم فسَيَرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الراشِدينَ المْهدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجِذِ، وإياكم ومُحدثاتِ الأُمورِ؛ فإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ ".

No comments:

Post a Comment