Monday 7 March 2022

تفسير سورة البقرة ح١٠ من هم القوم الناجون قصة البقرة

   
 

تفسير سورة البقرة- ح ١٠ – هل اليهود والنصارى والصابئة اليوم ممن لا خوف عليهم يوم القيامة؟ وقصة البقرة

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-       بيان من هم الناجون عبر الزمان من عذاب النار، وهل يلزم ذلك أهل هذا الزمان.

-       بيان فضل الله ونعمه على بني إسرائيل بأن أنزل لهم التوراة، وأخذ عليهم العقود الغليظة بأن يؤمنوا به .

-       ذكر غير مفصل- التفصيل في سورة الأعراف- لمخس فئة منهم قردة وخنازير، هل مسخوا على الحقيقة؟

-       عبرة مهمة من أصحاب هذه القرية.

-       قصة البقرة التي يفتح بها الله ما أغلق على بني إسرائيل من معرفة سعوا إليها.

-       بيان صفة من صفات بني إسرائيل وهي العناد على الله، وعدم امتثالهم لأمر الله مباشرة.

 

التفسير:

 

قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (

لما بين الله تعالى حال من خالف أوامره وارتكب زواجره، وتعدى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم، وما أحلّ بهم من النكال، نبه تعالى على أن مَنْ أحسن من الأمم السالفة وأطاع، فإن له جزاء الحسنى، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة؛ كُلّ من اتبع الرسول النبي الأمي فله السعادة الأبدية، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه، ولا هُمْ يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه، كما قال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)  (يونس٦٢) ، وكما تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت٣٠) .

روى ابن أبي حاتم الرازي في تفسيره: قال سلمان- الفارسي-:سألت النبي ﷺ عن أهل دين كنت معهم، فذكرتُ من صلاتهم وعبادتهم، فنـزلت: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) إلى آخر الآية.

وقال السدي: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) الآية: نـزلت في أصحاب سلمان الفارسي، بينا هو يحدث النبي ﷺ  إذْ ذكر أصحابه، فأخبره خبرهم، فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيًا، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي اللهﷺ: « يا سلمان، هم من أهل النار » . فاشتد ذلك على سلمان، فأنـزل الله هذه الآية، فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى، فلم يدعها ولم يتبع عيسى، كان هالكًا. وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل وشرائع عيسى منهم كان مؤمنًا مقبولا منه حتى جاء محمد ﷺ، فمن لم يتبعْ محمدًا ﷺ منهم ويَدَعْ ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا.

قال ابن كثير: وهذا لا ينافي ما روى عن ابن عباس أنه لما نزل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) الآية، واغتر بها السفهاء، فأنـزل الله بعد ذلك: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران٨٥).

فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقة ولا عملا إلا ما كان موافقًا لشريعة محمد ﷺ بعد أن بعثه الله بما بعثه به، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة، فاليهود أتباع موسى، عليه السلام، الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم.

وتسمية اليهود؛  من الهوادة وهي المودة، أو التهود وهي التوبة؛ كقول موسى عليه السلام: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) (الأعراف١٥٦) أي:تبنا، فكأنهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض.

وقيل: لنسبتهم إلى يهوذا أكبر أولاد يعقوب عليه السلام، وقيل: لأنهم يتهودون، أي: يتحركون عند قراءة التوراة وفي صلاتهم   .

فلما بعث عيسى ﷺ وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى، وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم، وقد يقال لهم: أنصار أيضًا، كما قال عيسى، عليه السلام: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) (آل عمران٥٢) وقيل:إ نهم إنما سُمّوا بذلك من أجل أنهم نـزلوا أرضًا يقال لها ناصرة- بلدة الناصرة التي ولد فيها عيسى عليه السلام- وذلك والله أعلم .

وأما الصابئون فقد اختلف فيهم فقال مجاهد: الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دين، وقال أبو العالية والضحّاك: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور، ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق: لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم، وقال أبو جعفر الرازي: بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرءون الزبور ويصلُّون للقبلة،  

فلما بعث اللّه محمداً ﷺ خاتما للنبيين ورسولا إلى بني آدم على الإطلاق، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، والانكفاف عما عنه زجر، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً وسمِّيت أُمّة محمد ﷺ مؤمنين لكثرة إيمانهم، وشدة إيقانهم، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء السابقة والغيوب الآتية. والله أعلم.

متشابهات:

وردت هذه الآية ثلاث مرات بتغيير بين النصارى ، والصابئين، الآيات:

1.(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ﴿البقرة ٦٢﴾‏

2. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)  ﴿المائدة ٦٩﴾‏

3. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) ﴿الحج ١٧﴾‏

في سورة البقرة فقط يأتي بالنصارى قبل الصابئين.

وقد ذكرت هذه الآية في السياق الذي ذكر بني إسرائيل وذمهم، وذكر معاصيهم وقبائحهم، لأنه ربما يكون قد وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم، فأراد الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه، ولما كان أيضا ذكر بني إسرائيل خاصة يوهم الاختصاص بهم. ذكر تعالى حكما عاما يشمل الطوائف كلها ليتضح الحق، ويزول التوهم والإشكال، فسبحان من أودع في كتابه ما يبهر عقول العالمين.

ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (٦٤).

يقول تعالى مذكِّراً بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق، بالإيمان وحده لا شريك له، واتباع رسله، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رءوسهم، ليقروا بما عوهدوا عليه يأخذوه بقوة وحزم وامتثال كما قال تعالى: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأعراف١٧١) ، وهنا  نتقناه أي: رفعناه. قال ابن الأعرابي : الناتق الرافع، والناتق الفاتق. وقيل: قلع من أصله.

واختلف في الطور، فقيل : الطور اسم للجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام وأنزل عليه فيه التوراة دون غيره، وقيل: أن الطور ما أنبت من الجبال خاصة دون ما لم ينبت. وقال مجاهد وقتادة: أي جبل كان. وقال : هو اسم لكل جبل بالسريانية.

وقال السدي: فلما أبوا أن يسجدوا أمر اللّه الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجداً فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم اللّه فكشفه عنهم ، فقالوا: واللّه ما سجدة أحب إلى اللّه من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك، وذلك قول اللّه تعالى: (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ) ، يعني ما آتيناكم وهو التوراة، وقوله: بقوة:  أي بطاعة، وقال مجاهد: بقوة بعملٍ بما فيه، وقال: القوة: الجد وإلا قذفته عليكم، قال: فأقروا أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة، خوفا، وفي الآية مضمر  وهو. وإلا قذفته عليكم أي أسقطته عليكم، يعني الجبل، فبعد التهديد لهم عملوا بما أمروا به، وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ،يقول: اقرءوا ما في التوراة وتدبروه واحفظوا أوامره ووعيده، ولا تنسوه ولا تضيعوه. واعملوا به، وعلموا الجاهل منكم، وقوله تعالى: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، يقول تعالى ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم، توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه (فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ)  أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة.

متشابهات:

وردت مثل هذه الآية في السورة في الآية (٩٣)

-( وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )﴿٩٣ البقرة﴾‏

ولم ترد في موقع غيره. ولكن ورد أخذ الميثاق لغير نزول التوراه، في الآية (٨٤)

-(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ ) ﴿٨٤البقرة﴾

-(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ..) ﴿ البقرة٨٣﴾‏

عودة للتفسير:

قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) ولقد تقرر عندكم وتأكدتم من حالة (الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ) وهم الذين ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف في قوله: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ ..) الآيات (الأعراف ١٦٣)

يقول تعالى ولقد علمتم يا معشر اليهود ما حل من البأس بأهل القرية التي عصت أمر اللّه وخالفوا عهده وميثاقه، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره، إذا كان مشروعاً لهم. فتحايلوا على اصطياد الحيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحبائل والبرك قبل يوم السبت، فإذا جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت، فلما فعلوا ذلك مسخهم اللّه إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن، كان جزاؤهم من جنس عملهم.فأوجب لهم هذا الذنب العظيم، أن غضب الله عليهم وجعلهم ( قِرَدَةً خَاسِئِينَ ) حقيرين ذليلين.

وقال السدي: أهل هذه القرية هم أهل أيلة- آيلة: هي مدينة قديمة إسلامية التي أنشئت على الموقع الحالي لمدينة العقبة الموجودة في جنوب الأردن، كانت أول مدينة إسلامية تأسست خارج الجزيرة العربية.

وإيلات الحديثة الواقعة مباشرة إلى غرب العقبة فسيطر عليها الكيان الصهيوني في نهاية حرب السنة ٤٨،  وأسست مدينة عليها سميت نسبة لآيلة القديمة.

وقوله تعالى: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)، قال مجاهد: مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مَثَلٌ ضربه اللّه: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ) (الجمعة٥)، وهذا سند جيّد عن مجاهد، وقولٌ غريب، وهوو  خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام، وفي غيره قال اللّه تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ ۚ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) ( المائدة٦٠) الآية، وقال ابن عباس: (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ): فجعل اللّه منهم القردة والخنازير، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير. وقال قتادة (فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ): فصار القوم قردة تعاوى، لها أذناب بعدما كانوا رجالاً ونساء.

فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فُلان، يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برءوسهم أي بلى، وقال ابن عباس: فمسخهم اللّه قردة بمعصيتهم، يقول: لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام، قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم يتناسل.

وجعل الله هذه العقوبة ( فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) أي: لمن حضرها من الأمم وبلغه خبرها، ممن هو في وقتهم. ( وَمَا خَلْفَهَا ) أي: من بعدهم، فتقوم على العباد حجة الله، وليرتدعوا عن معاصيه، ولكنها لا تكون موعظة نافعة إلا للمتقين، وأما من عداهم فلا ينتفعون بالآيات.

وقوله تعالى: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا)  قال بعضهم: الضمير في فجعلناها عائد إلى القردة، وقيل على الحيتان ، وقيل على العقوبة، وقيل على القرية وهو الصحيح، أي فجعل اللّه هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم نكالا أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة،  وقوله تعالى: (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي من القرى، قال ابن عباس: يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرةً لما حولها من القرى كما قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأحقاف  ٢٧) ، فالمراد لما بين يديها وما خلفها في المكان. وقوله: (وموعظة للمتقين) وهم أمّة محمدﷺ  قلت المراد بالموعظة ههنا الزاجر، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم اللّه وما تحيلوا به من الحيل، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم كما روي عن أبي هريرة أن رسول اللّه ﷺ قال: "لا ترتَكِبوا ما ارتكبَتِ اليهودُ فتستحِلُّوا محارمَ اللهِ تعالَى بأدنَى الحِيَلِ" (اسناده صحيح- وقيل صحيح)

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )

في هذه الآية عبرة ؛  أي فاذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة، وبيان القاتل من هو بسببها، وإحياء اللّه المقتول ونصه على من قتله منهم.

ذكر بسط القصة عن عبيدة السلماني، قال: كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له، وكان له مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض، فقال ذوو الرأي منهم والنُّهى: علام يقتل بعضكم بعضاً وهذا رسول اللّه فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له، فقال: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، قال: فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها، فقال: واللّه لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً، فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها فضربوه ببعضها فقام، فقالوا: من قتلك؟ فقال: هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتاً، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد. "رواه ابن أبي حاتم وابن جرير عن عبيدة السلماني"

 وقوله تعالى: (قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) يعني لا هرمة، (وَلا بِكْرٌ ) يعني ولا صغيرة، (عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ) أي نَصَفٌ بين البكر والهرمة، قال: (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) ولكنهم تماطلوا،  و(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ.)  أي صاف لونها، تسر الناظرين أي تعجب الناظرين، (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)  قال إنه يقول (إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) أي لم يذللها العمل، (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ) يعني وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث (مُسَلَّمَةٌ) يعني مسلَّمة من العيوب (لَّا شِيَةَ فِيهَا ) يقول لا بياض فيها ، (قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)، ولو أن القوم حين أمروا بذبح بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد اللّه عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: (وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ) لما هُدوا إليها أبداً.

رواية أخرى في البقرة:  قال السُّدي: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)، قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال فكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوجه، فغضب الفتى وقال: واللّه لأقتلن عمي ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته ولآكلن ديّته، فأتاه الفتى - وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل - فقال: يا عم انطلِق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلّي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني، فخرج العم مع الفتى ليلاً، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمّه كأنه لا يدري أين هو فلم يجده، فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم، وقال: قتلتم عمي فأدّوا إليَّ ديَته، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي: واعمّاه، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية. فقالوا له: يا رسول اللّه ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية، فواللّه إن ديته علينا لهيِّنة، ولكن نستحيي أن نعيَّر به. فذلك حين يقول تعالى: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) ، فقال لهم موسى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً)، قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا؟ (قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنْ شدَّدوا وتعنَّتوا على موسى فشدَّد الله عليهم. والفارض الهرمة التي لا تولد، والبكر التي لم تلد إلا ولداً واحداً، والعَوَان النْصَفُ التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها (فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ *قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)، قال نقي لونها، (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)،....... الباقي كما قلنا:  فطلبوها - من صاحبها - وأعطوا وزنها ذهباً فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهباً فباعهم إيّاها وأخذ ثمنها فذبحوها، قال: اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته، فأخذوا الغلام فقتلوه "،  وقال: (وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ) بسبب التعنت الذي جرى منهم.

قال ابن كثير: وهذه الروايات عن عبيدة  والسدي، مأخوذة من كتب بني إسرائيل وهي مما يجوز نقلها ولكن لا تصدَّق ولا تكذَّب"

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 74 ) .

( ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) أي: اشتدت وغلظت، فلم تؤثر فيها الموعظة، (مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ) أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم، لأن ما شاهدتم مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ) التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ذاب بخلاف الأحجار.

وقوله: ( أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ) أي: إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار، وليست « أو » للتخيير، بل بمعنى « بل » ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم، فقال: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) فبهذه الأمور فضلت قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها، وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.

No comments:

Post a Comment