Tuesday, 17 December 2024

قراءة في رياض الصالحين ح6 تابع باب الصبر


قراءة في رياض الصالحين
ح 5
تابع : باب الصبر:

14/38 ــ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىٰ النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ يُوعَكُ، فَقُلْتُ: " يَا رَسُولَ الله إِنَّكَ تُوعَكُ وَعْكاً شَدِيداً، قَالَ:  "أجَلْ، إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُمْ"، قُلْتُ: ذلِكَ أنَّ لَكَ أجْرَيْنِ؟ قَالَ:  "أجَلْ ذَلِكَ كَذلِكَ، مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أذىً، شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا إلَّا كَفَّرَ اللهُ بِهَا سَيِّئاتِهِ، وَحُطَّتْ عَنْهُ ذُنُوبُهُ كَمَا تحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا"   (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.)
و(الوَعْكُ): مَغْثُ الْحُمَّى، وَقِيلَ: الْحُمَّى.
غريب الحديث:
نصب: تعب.
هداية الأحاديث:
1) من رحمة الله بعبده المؤمن، أنه يكفر عَنْهُ بما يصيبه من الهم والغم، والتعب والمرض، وغير ذلك.
2) كلما اشتد المرض والأذىٰ بالعبد المؤمن فصبر، ضاعف الله له الأجر وكفر عَنْهُ الخطايا. قال رسول الله: "
إذا أحَبَّ اللهُ عَبدًا عَسَلَه. قالَ: يا رَسولَ اللهِ، وما عَسَلَه؟ قالَ: يُوَفِّقُ له عَمَلًا صالِحًا بيْنَ يَدَي أجَلِه حتَّى يَرضى عنه جيرانُه -أو قالَ: مَن حَولَه-" ( صحيح الترغيب والترهيب)
3)علىٰ الإنسان ألاّ يجمع علىٰ نفسه بين الأذىٰ وتفويت الثواب، فالواجب عند المصيبة لزوم الصبر وعدم التسخط.
15/39 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ
"مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْراً يُصِبْ مِنْهُ" (رَوَاه البُخَارِيّ).   وَضَبَطُوا (يُصَبْ): بفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا.
غريب الحديث:
يُصِب منه: أي أن الله يُقدّر عليه المصائب.
هداية الحديث:
1) إن مقابلة الابتلاء بالصبر والاحتساب، يرفع الله به الدرجات، ويكفر الخطيئات.
2) المصائب التي تنزل بالمؤمن دليل علىٰ أن الله يحبه، ويريد به الخير.
16/40 ــ وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ:
" لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أحَدكُمُ الْمَوْتَ لضُرٍّ أصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لابُدَّ فَاعِلاً فَلْيقُل: اللهم أحْيِني مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّني إذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْراً لِي". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
 هداية الحديث:
1) النهي عن تمني الموت عند الفتن والمصائب؛ لأن هذا يخالف واجب الصبر، ويدل علىٰ جزع صاحبها.
2)العبد المؤمن يفوض جميع أموره إلىٰ الله، مَعَ حب لقاء الله عز وجل.
"وخيرُ الناس من طالَ عمرُه، وحَسُنَ عملُه،  قال : فأيُّ الناسِ شرٌ ؟ قال : مَن طالَ عمرُه، وساءَ عملُه .          ( صحيح الترغيب والترهيب)
17/41 ــ وَعَنْ أبِي عَبْدِ الله خَبَّابِ بْنِ الأرَتِّ رضي الله عنه قَالَ:
شَكَوْنَا إِلَىٰ رَسُولِ الله ﷺ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: ألاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ ألاَ تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأرْضِ فَيُجْعَلُ فِيها، ثُمَّ يُؤْتَىٰ بالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَىٰ رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ ليُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الأمْرَ حَتَّىٰ يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَىٰ حَضْرَمَوْتَ لاَ يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَىٰ غَنَمِهِ، وَلكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ"   (رَوَاهُ البُخَارِيّ. )
وَفِي رِوايَة: "وَهُوَ مُتَوَسِّد بُرْدَةً وَقَدْ لَقِينَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً".
غريب الحديث:
متوسد بردة:  جعلها تحت رأسه كالوسادة.
هداية الحديث:
1)وجوب الصبر علىٰ أذية أعداء المسلمين، مَعَ الأخذ بأسباب النصر والفرج.
2)من دلائل النبوة: صدق ما أخبر به ﷺ؛ حيث كَانَ عاقبة الصبر ما بَشَّر به من إتمام أمر الدين.

18/42 ــ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ:
"لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ الله ﷺ نَاساً في الْقِسْمَةِ، فَأعْطَىٰ الأقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مائَةً مِنَ الإبِلِ، وَأعْطَىٰ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِثْلَ ذلِكَ، وَأعْطَىٰ نَاساً مِن أشْرَافِ الْعَرَب، وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللهِ إنَ هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ الله، فَقُلْتُ: وَاللهِ لأُخْبِرَنَّ رَسُولَ الله ﷺ، فَأتَيْتُهُ فَأخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ، فَتَغيَّرَ وَجْهُهُ حَتَىٰ كَانَ كَالصِّرفِ. ثُمَّ قَالَ: "فَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللهُ وَرَسُولُهُ"؟ ثُمَّ قَالَ: "يَرْحَمُ اللهُ مُوسَى، قَدْ أُوْذِي بِأكْثَرَ مِنْ هذَا فَصَبَرَ". فَقُلْتُ: لا جَرَمَ لا أرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَهَا حَدِيثاً. (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ )
وَقَوْلُهُ: (كَالصِّرْفِ) هُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: وَهُوَ صِبْغٌ أحْمَر.
غريب الحديث:
لا جرم: حقّاً، بمعنىٰ تحقق الشيء.
هداية الحديث:
1) جواز أن يعطي ولي الأمر من يَرىٰ في إعطائه المصلحة، كَأنْ يكون في ذلك تأليفاً للقلوب.
2) علىٰ العبد أن يقتدي بالأنبياء في الصبر علىٰ الأذى، وأن يحتسب الأجر عند الله تعالىٰ، فإن أوذي فإنه يسلي نفسه بما أصاب الأنبياء قَبْلنا صلوات الله وسلامه عليهم.
19/43 ــ وَعَنْ أنسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ :
"إِذَا أرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ خَيْراً عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَإِذَا أرَادَ اللهُ بِعَبْدِهِ الشَرَّ أمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّىٰ يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: "إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاء، وَإنَّ اللهَ تَعَالَىٰ إِذَا أحَبَّ قَوْماً ابْتَلاهُم، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضى، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ"
(رَوَاهُ التّرمذي وَقَالَ: حَدِيث حَسَنٌ. )
هداية الحديث:
1) العقوبات تكفّر السيئات.
2) إن إمهال الله عز وجل للعاصين هو استدراج لهم، فالعقوبة تؤخر لحكمةٍ وموعدٍ قدّره الله تعالىٰ:
{حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} ‎﴿الأنعام- ٤٤﴾‏  
فائدة:
في هذه الأحاديث دلالة صريحة علىٰ أن المؤمن كلما كان أقوىٰ إيماناً، ازداد ابتلاءً وامتحاناً، وكلما ضعف إيمانه، خف ابتلاؤه وامتحانه، ففي هذا ردٌّ علىٰ ضعفاء العقول والأحلام الذين يظنون أن المؤمن إذا أصيب ببلاء فإنه غير مرضي عند ربه، وهو ظن باطل ومقاييس فاسدة، لربط الرضىٰ في الآخرة، بالسعة والرخاء في الدنيا.
{أَيَحۡسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِۦ مِن مَّالٖ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمۡ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِۚ بَل لَّا يَشۡعُرُونَ} ( المؤمنون ٥٥ -٥٦)
20/44 ــ وَعَنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: كَانَ ابْنٌ لأبي طَلْحَةَ رضي الله عنه يَشْتكِي، فَخَرَجَ أبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أبُو طَلْحَةَ قَال:
مَا فَعَلَ ابْنِي؟ قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ وَهِيَ أُمُّ الصَبيِّ: هُوَ أسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ الْعَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ:  "وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أصْبَحَ أبُو طَلْحَةَ أتىٰ رَسُولَ الله ﷺ فَأخْبَرَهُ، فَقَالَ: "أعَرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟"  قَالَ: نَعَم، قَالَ: "اللهم بَارِكْ لَهُمَا؟" فَوَلَدَتْ غُلاماً، فَقَالَ لِي أبُو طَلْحَةَ: احْمِلْهُ حَتَّىٰ تَأْتِي بِهِ النَّبِيَّ ﷺ ، وَبَعَثَ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَقَالَ: «أمَعَهُ شَيْءٌ؟» قَالَ: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأخَذَها النَّبِيُّ ﷺ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أخَذَهَا مِنْ فِيهِ فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبيِّ، ثُمَّ حَنَّكَهُ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ الله."  (مُتَّفَق عَليْه.)
وَفِي رِوَايَةٍ للْبُخَارِيِّ: قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ:
فَرَأيْتُ تِسْعَةَ أوْلادٍ كُلَّهُمْ قَدْ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ، يَعْنِي مِنْ أوْلادِ عَبْدِ الله الْمَوْلُودِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: مَاتَ ابْنٌ لأبي طَلْحَةَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَتْ لأهْلِهَا: لا تُحَدِّثُوا أبَا طَلْحَةَ بابنِهِ حَتَّىٰ أكُونَ أنا أُحَدِّثُهُ، فَجَاءَ فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ عَشَاءً فَأكَلَ وَشَرِبَ، ثُمَّ تَصَنَّعَتْ لَهُ أحْسَنَ مَا كَانَتْ تَصَنَّعُ قَبْلَ ذلِكَ، فَوَقَعَ بِهَا، فَلَمَّا أنْ رَأتْ أنّهُ قَدْ شَبِعَ وَأصَابَ مِنْهَا قَالَتْ:  "يَا أبَا طَلْحَةَ، أرَأيْتَ لَوْ أنَّ قَوْماً أعَارُوا عَارِيَتَهُمْ أهْلَ بَيْتٍ فَطَلَبُوا عَارِيَتَهُمْ، أَلَهُم أنْ يَمْنَعُوهُمْ ؟" قَالَ: لا، فَقَالَتْ: فَاحْتَسِبِ ابْنَكَ. قَالَ: فَغَضِبَ، ثُمَّ قَالَ: تَرَكْتِني حَتَّىٰ إذَا تَلَطَّخْتُ ثُمَّ أخْبَرْتِني بابْني! فَانْطَلَقَ حَتَّىٰ أتَىٰ رَسُولَ الله ﷺ فَأخْبَرَهُ بِمَا كَانَ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ: 
"بَارَكَ اللهُ في لَيْلَتِكُما"  قَال: فَحَمَلَتْ، قَال: وَكَانَ رَسُولُ الله ﷺ في سَفَرٍ وَهِيَ مَعَهُ، وَكَانَ رَسُولُ الله ﷺ إذَا أتىٰ الْمَدِينَةَ مِنْ سَفَرٍ لا يَطْرُقُهَا طُرُوقاً فَدَنَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَضَرَبَهَا الْمَخَاضُ، فَاحْتَبَسَ عَلَيْهَا أبُو طَلْحَةَ، وَانْطَلَقَ رَسُولُ الله ﷺ، قَالَ: يَقُولُ أبُو طَلْحَةَ: إِنَّكَ لَتَعْلَمُ يَا رَبِّ أنّهُ يُعْجِبُنِي أنْ أخْرُجَ مَعَ رَسُولِ الله ﷺ إذا خَرَجَ، وَأدْخُلَ مَعَهُ إذَا دَخَلَ، وَقَد احْتبَسْتُ بِمَا تَرَى، تَقُولُ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا أبَا طَلْحَةَ مَا أجِدُ الذي كُنْتُ أجِدُ، انْطَلِقْ، فانطَلَقْنَا، وَضَرَبَهَا المَخَاضُ حِينَ قَدِمَا فَوَلَدَتْ غُلاماً. فَقَالَتْ لِي أُمِّي: يَا أنَسُ لا يُرْضِعُهُ أحَدٌ حَتَّىٰ تَغْدُوَ بِهِ عَلَىٰ رَسُولِ ﷺ، فَلَمَّا أصْبَحَ احْتَمَلْتُه فَانْطَلَقْتُ بِهِ إلَىٰ رَسُولِ الله ﷺ وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ.
غريب الحديث:
أعَرّستم الليلة؟: أعرس الرجل: دخل بامرأته عند بنائه بها.
تلطخت: كناية عن التلوث بالجماع.           لا يطرقها طروقاً: لا يأتيها ليلاً.
 هداية الحديث:
1) علىٰ النساء اليوم اتخاذ القدوات من الصحابيات رضي الله عنهنّ في صبرهن؛ كأم سليم رضي الله عنها.  
2) من صبر واحتسب عند المصيبة أبدله الله عز وجل خيراً مما أصابه في نفسه وأهله.
21/45 ــ وَعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ:
"لَيْسَ الشدِيدُ بالصُّرَعةِ، إنَّمَا الشَّديدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنْدَ الْغَضَبِ". (مُتَّفَقٌ عَلَيْه.)
(وَالصُّرَعَةُ) بِضَمِّ الصَّادِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَأصْلُهُ عِنْدَ الْعَرَبِ مَنْ يَصْرَعُ النَّاسَ كَثِيراً، فيطرحهم ويغلبهم في المصارعة، هذا يقال عنه عند الناس: إنه شديد وقوي، لكن النبي ﷺ يقول: ليس هذا الشديد حقيقة.
22/46 ــ وعَنْ سُلَيْمانَ بْنِ صُرَد رضي الله عنه قَالَ: "كُنْتُ جَالِساً مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وَرَجُلان يَسْتَبَّانِ، وَأحَدُهُمَا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، وَانْتَفَخَتْ أوْدَاجُهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله ﷺ :
"إنِّي لأعْلَمُ كَلمَةً لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أعُوذُ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ذَهَبَ عنْهُ مَا يَجِدُ". فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: "تَعَوَّذْ بالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ".  مُتَّفَقٌ عَلَيْه.

Monday, 16 December 2024

تفسير سورة الكهف ح 3 أصحاب الكهف وما كان من أمرهم

 
  
 
تفسير سورة الكهف ح 3 أصحاب الكهف وما كان من أمرهم
التفسير :
{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } ( ٩ )
وهذا الاستفهام بمعنى النفي، والنهي. أي: لا تظن أن قصة أصحاب الكهف، وما جرى لهم، غريبة على آيات الله، وبديعة في حكمته، وأنه لا نظير لها، ولا مجانس لها، بل لله تعالى من الآيات العجيبة الغريبة ما هو كثير، من جنس آياته في أصحاب الكهف وأعظم منها، فلم يزل الله يُري عباده من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، ما يتبين به الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وليس المراد بهذا النفي أن تكون قصة أصحاب الكهف من العجائب، بل هي من آيات الله العجيبة، وإنما المراد أن جنسها كثير جدا، فالوقوف معها وحدها، في مقام العجب والاستغراب، نقص في العلم والعقل، بل وظيفة المؤمن التفكر بجميع آيات الله، التي دعا الله العباد إلى التفكير فيها، فإنها مفتاح الإيمان، وطريق العلم والإيقان. وأضافهم إلى الكهف، و"الكهف " هو : الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون. أما الرقيم أي: الكتاب الذي قد رقمت فيه أسماؤهم وقصتهم، وقيل: الرَّقِيمُ: قرية أصحاب الكهف، أو جبلهم، أَو كلبهم، أو الوادي، أَو الصخرة، أو لوح رصاص نقش فيه نسبهم وأسماؤهم ودينهم ومِمَّ هربوا، أو الدواة، أو اللوح ، ورقيم: مرقوم، مكتوب، مُوشًّى، مختوم ثم قرأ :
( كتاب مرقوم) [ المطففين-  ٩ ]، لملازمتهم له دهرا طويلا. وقيل: هو واد قريب من أيلة.
وقوله تعالى: 
{كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك! يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب، أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
قوله تعالى:
{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (١٠)، يخبر تعالى عن أولئك الفتية، الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منه فلجئوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم: ( فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً) أي : هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا (وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا) أي: وقدر لنا من أمرنا هذا رشدا، أي:يسر لنا كل سبب موصل إلى الرشد، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، فجمعوا بين السعي والفرار من الفتنة، إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرعهم وسؤالهم لله تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم وعلى الخلق، فلذلك استجاب الله دعاءهم كما جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها، من دعاء رسول الله ﷺ: "وما قضيْتَ لي مِنْ قضاءٍ فاجعل عاقِبَتَهُ رُشْدًا " (صححه الألباني)، وفي المسند من حديث بسر بن أبي أرطاة، عن رسول الله ﷺ أنه كان يدعو : " اللهم أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمورِ كلِّها، وأَجِرْنا من خِزْيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ " (ضعيف).
{ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا }
(١١) أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة، وهي ثلاث مائة سنة وتسع سنين.
 والحكمة في النوم المذكور حفظ لقلوبهم من الاضطراب والخوف، وحفظ لهم من قومهم وليكون آية بينة.

{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}
(١٢)، { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } أي: من نومهم {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } أي: لنعلم أيهم أحصى لمقدار مدتهم، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاما يأكلونه ، كما سيأتي بيانه وتفصيله، {أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} قيل : {أَمَدًا} أي عددا  أو قدر الزمان الذي ناموا فيه. وقيل: غاية فإن الأمد الغاية كقوله: سبق الجواد إذا استولى على الأمد؛ كما قال تعالى: {كَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} الآية، وفي العلم بمقدار لبثهم، ضبط للحساب، ومعرفة لكمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته، فلو استمروا على نومهم، لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم.
{ نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } 
(١٣)
 من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية - وهم الشباب - وهم أقبل للحق، وأهدى للسبيل من الشيوخ، الذين قد عتوا وعسوا في دين الباطل؛ ولهذا كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله ﷺ شبابا. وأما المشايخ من قريش، فعامتهم بقوا على دينهم، ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا .
قال مجاهد: بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة يعني الحلق فألهمهم الله رشدهم وآتاهم تقواهم.
{آمَنُوا بِرَبِّهِمْ }، أي : اعترفوا له بالوحدانية، وشهدوا أنه لا إله إلا هو .
{وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}
: استدل بهذه الآية وأمثالها غير واحد من الأئمة كالبخاري وغيره ممن ذهب إلى زيادة الإيمان وتفاضله، وأنه يزيد وينقص؛ ولهذا قال تعالى: { َزِدْنَاهُمْ هُدًى } كما قال: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [ محمد - 17 ]، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} ‎ [التوبة - 124 ]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ ۗ} [ الفتح - 4 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك .
وقد ذكر أنهم كانوا على دين عيسى ابن مريم عليه السلام، والله أعلم - والظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية بالكلية- وقد تقدم عن ابن عباس: أن قريشا بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة يطلبون منهم أشياء يمتحنون بها رسول الله ﷺ، فبعثوا إليهم أن يسألوه عن خبر هؤلاء، وعن خبر ذي القرنين، وعن الروح، فدل هذا على أن هذا أمر محفوظ في كتب أهل الكتاب،
وأنه متقدم على دين النصرانية ، والله أعلم .

وقوله تعالى: ( وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ إِلَٰهٗاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا ) ﴿١٤﴾
يقول تعالى : وصبَّرناهم على مخالفة قومهم ومدينتهم، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة.
 وقد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم، وأنهم خرجوا يوما في بعض أعياد قومهم، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون فيه في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت، ويذبحون لها، وكان لهم ملك جبار عنيد يقال له : "دقيانوس "، وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه .
فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك، وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم، عرفوا أن هذا الذي يصنعه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها، لا ينبغي إلا لله الذي خلق السموات والأرض. فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه، وينحاز منهم ويبعد عنهم ناحية. فكان أول من جلس منهم [وحده ] أحدهم، جلس تحت ظل شجرة، فجاء الآخر فجلس عنده، وجاء الآخر فجلس إليهما، وجاء الآخر فجلس إليهم ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، وجاء الآخر ، ولا يعرف واحد منهم الآخر ، وإنما جمعهم هناك الذي جمع قلوبهم على الإيمان، كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري تعليقا، من حديث يحيى بن سعيد ، عن عمرة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ:
" الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ." . (أخرجه مسلم)
والغرض أنه جعل كل أحد منهم يكتم ما هو فيه عن أصحابه، خوفا منهم، ولا يدري أنهم مثله، حتى قال أحدهم: تعلمون -والله يا قوم- إنه ما أخرجكم من قومكم وأفردكم عنهم، إلا شيء فليظهر كل واحد منكم ما بأمره . فقال آخر: أما أنا فإني [ والله ] رأيت ما قومي عليه، فعرفت أنه باطل، وإنما الذي يستحق أن يعبد [ وحده ] ولا يشرك به شيء هو الله الذي خلق كل شيء السموات والأرض وما بينهما . وقال الآخر : وأنا والله وقع لي كذلك . وقال الآخر كذلك، حتى توافقوا كلهم على كلمة واحدة، فصاروا يدا واحدة وإخوان صدق، فاتخذوا لهم معبدا يعبدون الله فيه، فعرف بهم قومهم، فوشوا بأمرهم إلى ملكهم، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه فأجابوه بالحق، ودعوه إلى الله عز وجل؛ ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله:
(وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ إِذۡ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَاْ مِن دُونِهِۦٓ) و " لن " لنفي التأبيد، أي: لا يقع منا هذا أبدا؛ لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلا؛ ولهذا قال عنهم: ( لَّقَدۡ قُلۡنَآ إِذٗا شَطَطًا)  أي: باطلا وكذبا وبهتانا .
( هَٰٓؤُلَآءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِۦٓ ءَالِهَةٗۖ لَّوۡلَا يَأۡتُونَ عَلَيۡهِم بِسُلۡطَٰنِۭ بَيِّنٖۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبٗا)﴿١٥﴾،
قالوا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين أي : (هلا أقاموا – أي لو أنهم -جاءوا بدليل على صحة ما ذهبوا إليه واضحا صحيحا ؟! فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا  يقولون هذا: بل إنهم هم الظالمون كاذبون في قولهم ذلك، فيقال: إن ملكهم لما دعوه إلى الإيمان بالله أبى عليهم وتهددهم وتوعدهم، وأمر بنزع لباسهم عنهم الذي كان عليهم من زينة قومهم، وأجلهم لينظروا في أمرهم، لعلهم يراجعون دينهم الذي كانوا عليه . وكان هذا من لطف الله بهم، فإنهم في تلك النظرة توصلوا إلى الهرب منه، والفرار بدينهم من الفتنة .
وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفا على دينه، كما جاء في الحديث :
" يُوشِكُ أنْ يَكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجِبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ." ( البخاري)، ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها؛ لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع، والتوقف عن تبيلغ دعوة الله.
وهم أيضا بينوا أنهم ليسوا على يقين من أمرهم، بل في غاية الجهل والضلال فقالوا:
{لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ} أي: بحجة وبرهان، على ما هم عليه من الباطل، ولا يستطيعون سبيلا إلى ذلك، وإنما ذلك افتراء منهم على الله وكذب عليه، وهذا أعظم الظلم، ولهذا قال: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا }.
وقوله تعالى: {وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا}﴿١٦﴾،  فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله : {وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا يَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ) أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضا بأبدانكم { فَأۡوُۥٓاْ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ يَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ} قوله  {يَنشُرۡ لَكُمۡ} ،أي : يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، {وَيُهَيِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقٗا} [ أي ] الذي أنتم فيه، {مِّرۡفَقٗا}  أي : أمرا ترتفقون به . فعند ذلك خرجوا هرابا إلى الكهف، فأووا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتطلبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعمى الله عليه خبرهم. كما فعل بنبيه محمد ﷺ وصاحبه الصديق، حين لجأ إلى غار ثور ، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي ﷺ حين رأى جزع الصديق في قوله : يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا ، فقال :  " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟ " ،وقد قال تعالى : (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [ التوبة -  ٤٠] فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف ، وقد قيل: إن قومهم ظفروا بهم، وقفوا على باب الغار الذي دخلوه ، فقالوا: ما كنا نريد منهم من العقوبة أكثر مما فعلوا بأنفسهم. فأمر الملك بردم بابه عليهم ليهلكوا مكانهم ففعل [ لهم ] ذلك. وفي هذا نظر، والله أعلم؛ فإن الله تعالى قد أخبر أن الشمس تدخل عليهم في الكهف بكرة وعشيا، والله أعلم.
 

Thursday, 12 December 2024

تفسير سورة الكهف - ح 2 -الحمد كله لله تعالى عند فواتح الأمور وخواتيمها


تفسير سورة الكهف- ح 2    
  الحمد كله لله تعالى عند فواتح الأمور وخواتيمها  

 
التفسير :
 
قوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } (١)
بدأت السورة – وأربع سور معها مثلها- بحمد الله، الإله الواحد الخالق القهار، إنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله تبارك وتعالى، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه، ومرجعه إليه إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه سبحانه هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
هو الرب الإله المحمود في الدنيا والآخرة.. المحمود قبل أن يَخْلِق وبعد ما يَخْلِق، وبعد إفناء الخلق وبعد بعثهم
(وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص-٧٠).
عن رسول الله ﷺ :
(أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)،
وفي الحديث أيضا عن رسول الله ﷺ:
(فإذا قالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يقولُ اللَّهُ: حمِدَني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقولُ اللَّهُ: أثنى عليَّ عَبدي.) (رواه مسلم).
والحمد باق إلى يوم الدين ، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ لما ذكر الشفاعة قال:
« فأخِرُّ ساجِدًا فأحمَدُ ربِّي بمحامِدَ يفتحُها عليَّ لا أُحصيها الآنَ» (مسلم) ، وعنه ﷺ أنه يبعث حامل لواء الحمد، (أنا حَبيبُ اللهِ ولا فَخرَ وأنا حامِلُ لِواءِ الحَمدِ يومَ القيامَةِ ولا فخر) (رواه الألباني)
فهو تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، الحمد لله، كلمةُ مباركة، وهي ثناء في دعاء، ودعاء في ثناء. تجري على الألسنة بسهولة ويسر.
وهذا من فضل الله على عباده. أن الكلمة التي اختارها الله فاتحةً لكتابه العزيز، لأن أسرارها وكنوزها عظيمة، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال:
(وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي : لم يجعل فيه إعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه:
"أعلم أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، فقد يمدح الرجل لعقله، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله.
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، على ما يصدر منه من الإنعام، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء أكان ذلك الإنعام واصلا إليك أم إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك، فثبت أن الحمد أعم من الشكر"

وكان قوله
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) تصريحا بأن المؤثر في وجود العالم هو الفاعل المختار، الذي وصلت نعمه إلى جميع خلقه، لا إلى بعضهم.
وقوله:
(الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.)
بيان للأسباب التي توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله تبارك وتعالى وحده، إذ الوصف بالموصول، يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله.
والعِوج- بكسر العين-
( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أكثر ما يكون استعمالا في المعاني، تقول، هذا كلام لا عوج فيه، أى: لا ميل فيه.
أ
ما العَوج: - بفتح العين- فأكثر ما يكون استعمالا في الأعيان الأشياء، تقول: هذا حائط فيه عَوج.
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال:
( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي: لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
﴿ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾(  ٢) ، ولهذا قال : { قَيِّمًا } أي: مستقيما .
{لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأسا شديدا، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة {مِّن لَّدُنْهُ} أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد .
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح يبشر هؤلاء { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي مثوبة عند الله جميلة، ويبشر المؤمنين الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}  أي مثوبة عند الله جميلة
﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾( ٣)، أي: في ثوابهم عند الله ماكثين فيه – أي في الجنة- لا يحيدون عنه، خالدين فيه { أَبَدًا } دائما لا زوال له ولا انقضاء،  لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح.
﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾( ٤ ) ،ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله .
فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد .
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ ( ٥ )
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ " من " صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل  ﴿وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ ﴾  أي أسلافهم .
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ كلمة نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة .
أو عظمت كلمة ؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا، يقال: كبر الشيء إذا عظم وكبر الرجل إذا أسن .
(تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ) في موضع الصفة .﴿إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾  أي ما يقولون إلا كذبا .
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ..} (الأعراف ٣٧) ولهذا قال هنا: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء.
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.
قوله تعالى:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } (٦)
ولما كان النبي ﷺ حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان ﷺ يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه ﷺ عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}  (الشعراء  ٣)، وقال { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } ( فاطر -٨ )، وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك.
وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي ﷺ يقول الله له:
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص- ٥٦]. وموسى عليه السلام يقول: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ } (المائدة ٢٥)، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (٢٢سورة الغاشية) .
وقوله تعالى:
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (٧)
ثم أخبر تعالى أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، دارا فانية مزينة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال :
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال:
" إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي روايةٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ." (صحيح مسلم)
وقال العليِّ الكبير:
{ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: أخلصهم وأصوبهم عملا، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.
وقوله تعالى:
{ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } (٨)
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم.

قراءة في رياض الصالحين - ح 4-5 - تتمة: باب الصبر

   
سورة الكهف
التفسير  – ح 2
سبحانه وتعالى له الحمد كله
وهو يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها


التفسير :
قوله تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } (١)
بدأت السورة – وأربع سور معها مثلها- بحمد الله، الإله الواحد الخالق القهار، إنما كان الحمد مقصورا في الحقيقة على الله تبارك وتعالى، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه، ومرجعه إليه إذ هو الخالق لكل شيء، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو في الحقيقة حمد لله، لأنه سبحانه هو الذي وفقهم لذلك، وأعانهم عليه.
هو الرب الإله المحمود في الدنيا والآخرة.. المحمود قبل أن يَخْلِق وبعد ما يَخْلِق، وبعد إفناء الخلق وبعد بعثهم
(وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص-٧٠).
عن رسول الله ﷺ :
(أحب الكلام إلى الله تعالى أربع لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)،
وفي الحديث أيضا عن رسول الله ﷺ: (فإذا قالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ يقولُ اللَّهُ: حمِدَني عبدي، فإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يقولُ اللَّهُ: أثنى عليَّ عَبدي.) (رواه مسلم).
والحمد باق إلى يوم الدين ، وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ لما ذكر الشفاعة قال:
« فأخِرُّ ساجِدًا فأحمَدُ ربِّي بمحامِدَ يفتحُها عليَّ لا أُحصيها الآنَ» (مسلم) ، وعنه ﷺ أنه يبعث حامل لواء الحمد، (أنا حَبيبُ اللهِ ولا فَخرَ وأنا حامِلُ لِواءِ الحَمدِ يومَ القيامَةِ ولا فخر) ( رواه الألباني)
فهو تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، الحمد لله، كلمةُ مباركة، وهي ثناء في دعاء، ودعاء في ثناء. تجري على الألسنة بسهولة ويسر.
وهذا من فضل الله على عباده. أن الكلمة التي اختارها الله فاتحةً لكتابه العزيز، لأن أسرارها وكنوزها عظيمة، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة ؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم محمد ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال:
(وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي : لم يجعل فيه إعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
وقد بين بعض المفسرين الحكمة في افتتاح بعض السور بلفظ الحمد دون المدح أو الشكر فقال ما ملخصه: «أعلم أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر، أما بيان أن المدح أعم من الحمد، فلأن المدح يحصل للعاقل ولغير العاقل، فقد يمدح الرجل لعقله، ويمدح اللؤلؤ لحسن شكله.
وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار، على ما يصدر منه من الإنعام، فثبت أن المدح أعم من الحمد.
وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء أكان ذلك الإنعام واصلا إليك أم إلى غيرك، وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك وحدك، فثبت أن الحمد أعم من الشكر.
وكان قوله
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) تصريحا بأن المؤثر في وجود العالم هو الفاعل المختار، الذي وصلت نعمه إلى جميع خلقه، لا إلى بعضهم.
وقوله: (الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً.)
بيان للأسباب التي توجب على الناس أن يجعلوا حمدهم وعبادتهم لله تبارك وتعالى وحده، إذ الوصف بالموصول، يشعر بعلية ما في حيز الصلة لما قبله.
والعِوج- بكسر العين
-( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أكثر ما يكون استعمالا في المعاني، تقول، هذا كلام لا عوج فيه، أى: لا ميل فيه.
أما العَوج: - بفتح العين- فأكثر ما يكون استعمالا في الأعيان الأشياء، تقول: هذا حائط فيه عَوج.
قد تقدم في أول التفسير أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة عند فواتح الأمور وخواتيمها، فإنه المحمود على كل حال، وله الحمد في الأولى والآخرة؛ ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم ﷺ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ؛ إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتابا مستقيما لا اعوجاج فيه ولا زيغ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، بيِّنا واضحا جليا نذيرا للكافرين وبشيرا للمؤمنين؛ ولهذا قال:
( وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ } أي: لم يجعل فيه اعوجاجا ولا زيغا ولا ميلا بل جعله معتدلا مستقيما.
﴿ قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا﴾(  ٢) ، ولهذا قال : { قَيِّمًا } أي: مستقيما .
{لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ} أي: لمن خالفه وكذبه ولم يؤمن به، ينذره بأسا شديدا، عقوبة عاجلة في الدنيا وآجلة في الآخرة {مِّن لَّدُنْهُ} أي: من عند الله الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد .
{ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: بهذا القرآن الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح يبشر هؤلاء { أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا} أي مثوبة عند الله جميلة، ويبشر المؤمنين الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا}  أي مثوبة عند الله جميلة
﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا﴾( ٣)، أي: في ثوابهم عند الله ماكثين فيه – أي في الجنة- لا يحيدون عنه، خالدين فيه { أَبَدًا } دائما لا زوال له ولا انقضاء،  لا يزول عنهم، ولا يزولون عنه، بل نعيمهم في كل وقت متزايد، وفي ذكر التبشير ما يقتضي ذكر الأعمال الموجبة للمبشر به، وهو أن هذا القرآن قد اشتمل على كل عمل صالح، موصل لما تستبشر به النفوس، وتفرح به الأرواح.
﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾( ٤ ) ،ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله ، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله .
فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد .

﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ ( ٥ )
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ﴾ " من " صلة ، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل  ﴿وَلَا لِآبَائِهِمْ ۚ ﴾  أي أسلافهم .
﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ﴾ كلمة نصب على البيان، أي كبرت تلك الكلمة كلمة .
أو عظمت كلمة ؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا، يقال: كبر الشيء إذا عظم وكبر الرجل إذا أسن .

(تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ) في موضع الصفة .﴿إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾أي ما يقولون إلا كذبا .
لا علم منهم، ولا علم من آبائهم الذين قلدوهم واتبعوهم، بل إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس
{ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: عظمت شناعتها واشتدت عقوبتها، وأي شناعة أعظم من وصفه بالاتخاذ للولد الذي يقتضي نقصه، ومشاركة غيره له في خصائص الربوبية والإلهية، والكذب عليه؟ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ..} (الأعراف ٣٧) ولهذا قال هنا: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} أي: كذبا محضا ما فيه من الصدق شيء.
وتأمل كيف أبطل هذا القول بالتدريج، والانتقال من شيء إلى أبطل منه، فأخبر أولا: أنه
{ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ} والقول على الله بلا علم، لا شك في منعه وبطلانه، ثم أخبر ثانيا، أنه قول قبيح شنيع فقال: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } ثم ذكر ثالثا مرتبته من القبح، وهو: الكذب المنافي للصدق.
قوله تعالى:
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } (٦)
ولما كان النبي ﷺ حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان ﷺ يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه ﷺ عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن، كما قال في الآية الأخرى:
{ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}  (الشعراء  ٣)، وقال { فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } ( فاطر -٨ )، وهنا قال { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ} أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك.
وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته، وإذا كان النبي ﷺ يقول الله له:
{ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [القصص- ٥٦]. وموسى عليه السلام يقول: { قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ۖ } (المائدة ٢٥)، فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } (٢٢سورة الغاشية) .
وقوله تعالى:
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (٧)
ثم أخبر تعالى أنه جعل جميع ما على وجه الأرض، من مآكل لذيذة، ومشارب، ومساكن طيبة، وأشجار، وأنهار، وزروع، وثمار، ومناظر بهيجة، ورياض أنيقة، وأصوات شجية، وصور مليحة، وذهب وفضة، وخيل وإبل ونحوها، الجميع جعله الله زينة لهذه الدار، دارا فانية مزينة بزينة زائلة . وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}
عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله ﷺ أنه قال: " إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وإنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كيفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛ فإنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَتْ في النِّسَاءِ. وفي روايةٍ: لِيَنْظُرَ كيفَ تَعْمَلُونَ." (صحيح مسلم)
وقال العليِّ الكبير: { لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } أي: أخلصهم وأصوبهم عملا، ومع ذلك سيجعل الله جميع هذه المذكورات، فانية مضمحلة، وزائلة منقضية.
وقوله تعالى: { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } (٨)
وستعود الأرض صعيدا جرزا قد ذهبت لذاتها، وانقطعت أنهارها، واندرست أثارها، وزال نعيمها، هذه حقيقة الدنيا، قد جلاها الله لنا كأنها
رأي عين، وحذرنا من الاغترار بها، ورغبنا في دار يدوم نعيمها، ويسعد مقيمها، كل ذلك رحمة بنا، فاغتر بزخرف الدنيا وزينتها، من نظر إلى ظاهر الدنيا، دون باطنها، فصحبوا الدنيا صحبة البهائم، وتمتعوا بها تمتع السوائم، لا ينظرون في حق ربهم، ولا يهتمون لمعرفته، بل همهم تناول الشهوات، من أي وجه حصلت، وعلى أي حالة اتفقت، فهؤلاء إذا حضر أحدهم الموت، قلق لخراب ذاته، وفوات لذاته، لا لما قدمت يداه من التفريط والسيئات.
وأما من نظر إلى باطن الدنيا، وعلم المقصود منها ومنه، فإنه يتناول منها، ما يستعين به على ما خلق له، وانتهز الفرصة في عمره الشريف، فجعل الدنيا منزل عبور، لا محل حبور، وشقة سفر، لا منزل إقامة، فبذل جهده في معرفة ربه، وتنفيذ أوامره، وإحسان العمل، فهذا بأحسن المنازل عند الله، وهو حقيق منه بكل كرامة ونعيم، وسرور وتكريم.


Tuesday, 19 November 2024

تابع: تفسير سورة الإسراء--ح٧ -

 تابع: تفسير سورة الإسراء-ح٧

قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا.)(‎ ( 70 ‏

قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) لَمَّا ذَكَرَ مِنَ التَّرْهِيبِ مَا ذَكَرَ بَيَّنَ النِّعْمَةَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا. "كَرَّمْنا" تَضْعِيفُ كَرَمَ، أَيْ جَعَلْنَا لَهُمْ كَرَمًا أَيْ شَرَفًا وَفَضْلًا. وَهَذَا هُوَ كَرَمُ نَفْيِ النُّقْصَانِ لَا كَرَمَ الْمَالِ. وَهَذِهِ الْكَرَامَةُ يَدْخُلُ فِيهَا خَلْقُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ فِي امْتِدَادِ الْقَامَةِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَحَمْلُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِمَّا لَا يَصِحُّ لِحَيَوَانٍ سِوَى بَنِي آدَمَ أَنْ يَكُونَ يَتَحَمَّلُ بِإِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَتَخْصِيصِهِمْ بما خصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْمطاعمِ وَالْمشاربِ وَالْملَابِسِ، وهذَا لَا يَتَّسِعُ فيهِ حيوانٌ اتِّساع بَنِي آدم، لِأَنَّهُمْ يكْسبون الْمَالَ خَاصَّةً دونَ الْحيوان، ويلْبسونَ الثِّيَاب وَيَأْكُلُون الْمركَبَات مِن الْأطْعمةِ. وَغَايَة كلِّ حيوانٍ يأْكل لحمًا نيئا أو طعاما مما ينبت في الأرض،ومن التَّفْضِيلَ هُوَ أَنْ يَأْكُلَ بِيَدِهِ وَسَائِرُ الْحَيَوَانِ بِالْفَمِ. كما قال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ‎﴿التين ٤﴾‏  

(وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي ( َالْبَحْرِ) أيضا على السفن الكبار والصغار.

(وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي

(وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا‎) أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات .والحديث يراد به امتنان الرب سبحانه وتعالى علينا بهذه النعم، ويراد به أن يكون عليهم؛ أفلا يشكرون؟  والمراد بهذا ؛ أن من تعرَّف على نعم الله، وما يدفع عنا من النقم، فلا  يجوز لهم أن تحجبهم النعم عن المنعم، فيشتغلوا بها عن عبادة ربهم، ولكن والعياذ بالله ربما استعانوا بها على معاصيه.
ومن المرئي نقول أنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ فِي بَعْضِ الْأحيان خصالًا يَفْضل بِهَا  غير ابْنَ آدم أَيْضا، كَجَرْيِ الْفَرسِ وَسمْعِه وَإِبْصارِهِ، وَقُوَّة الْفِيل وَشجاعَة الْأَسَد وَكَرَمِ الدِّيكِ. وَعليه فالأولى أن يقال:إِنَّمَا التَّكْرِيمُ وَالتَّفْضِيلُ بِالْعَقْلِ الذي حباه الله لابن آدم.
وقد استدل البعض بهذه الآية على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، عن زيد بن أسلم قال قالت الملائكةُ يا ربَّنا، إنك أَعطيتُ بني آدمَ الدُّنيا، يأكلون ويتمتَّعونَ، ولم تُعْطِنا ذلك فأَعْطِناه في الآخرةِ. فقال اللهُ:
"وعزَّتي وجلالي لا أجعلُ صالحَ ذُرِّيَّةِ مَن خلقتُ بيديَّ، كمن قلتُ له: كُنْ، فكان " ( ضعفه الألباني وهو حديث مرسل من هذا الوجه وقد روي من وجه آخر متصلا)

وقال الطبراني حدثنا عبدان بن أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: " ما من شيءٍ أكرمُ على اللهِ جلَّ ذكرُه يومَ القيامةِ من بني آدمَ قيل يا رسولَ اللهِ ولا الملائكةُ قال: ولا الملائكةُ إن الملائكةَ مجبورونَ بمنزلةِ الشمسِ والقمرِ مجبورون" (وهذا حديث غريب وضعفة الألباني في السلسلة الضعيفة)

يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‎﴿٧١﴾‏

يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم

وقد اختلفوا في ذلك فقال مجاهد وقتادة أي بنبيهم وهذا كقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ) ( يونس ٤٧) .

وقال بعض السلف هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث لأن إمامهم النبيﷺ، وقال ابن زيد : بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع.

عن ابن عباس في قوله : (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ) أي بكتاب أعمالهم ، وهذا القول هو الأرجح لقوله تعالى: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ) (يس ١٢) وقال تعالى (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) (الكهف ٤٩)

وقال تعالى : (وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ‎﴿٢٨﴾‏ هَٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ‎﴿٢٩﴾‏ (الجاثية) .
وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبيﷺ إذا حكم الله بين أمته فإنه لا بد أن يكون شاهدا عليها بأعمالها كما قال : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الزمر  ٦٩) ، وقال: (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) (النساء ٤١) .

ولكن المراد هاهنا بالإمام هو كتاب الأعمال ولهذا قال تعالى : (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَٰئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ) أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرؤه ويحب قراءته كما قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ) ‎﴿١٩﴾‏ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ‎﴿٢٠﴾‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ‎﴿٢١﴾‏ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ‎﴿٢٢﴾‏ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ‎﴿٢٣﴾‏ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ‎﴿٢٤﴾‏ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ‎﴿٢٥﴾‏ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ ‎﴿٢٦﴾ (الحاقة ).

وقوله : (وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‎) قد تقدم أن الفتيل هو الخيط المستطيل في شق النواة

وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثا :عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ في قول الله (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ۖ) قال: ( يُدْعَى أحدُهم ، فَيُعْطَى كتابَه بيمينِه ، ويُمَدُّ له في جسمِه سِتُّون ذِراعًا ، ويُبَيَّضُ وجهُه ، ويُجْعَلُ على رأسِه تاجٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ يَتَلأْلَأُ، فيَنْطَلِقُ إلى أصحابِه، فَيَرَوْنَه مِنْ بعيدٍ، فيقولون: اللهم! ائْتِنا بِهذا، وبارِكْ لنا في هذا، حتى يأتِيَهُم، فيقولُ: أَبْشِروا ، لِكُلِّ رَجُلٍ منكم مِثْلُ هذا. وأما الكافِرُ؛ فَيُسَوَّدُ وَجْهُهُ، ويُمَدُّ له في جِسمِه سِتونَ ذِراعًا على صورةِ آدمَ، فَيُلْبَسُ تاجًا ، فيَراه أصحابُه ، فيقولونَ : نعوذُ باللهِ مِنْ شَرِّ هذا ، اللهم ! لا تأتِنا بهذا ، قال : فيأتِيهِم فيقولونَ : اللهم ! أَخْزِهِ ، فيقولُ : أَبْعَدَكُمُ اللهُ ؛ فإنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ منكم مِثْلَ هذا ) ثم قال البزار لا يروى إلا من هذا الوجه (وضعفة الألباني)

 {وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا) ‎﴿٧٢﴾‏

{ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ } الدنيا { أَعْمَى } عن الحق فلم يقبله، ولم ينقد له، وعن حجج الله وآياته وبيناته بل اتبع الضلال. {فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى} عن سلوك طريق الجنة كما لم يسلكه في الدنيا، {وَأَضَلُّ سَبِيلًا } وأضل منه كما كان في الدنيا ،فإن الجزاء من جنس العمل، كما تدين تدان.وفي هذه الآية دليل على أن كل أمة تدعى إلى دينها وكتابها، هل عملت به أم لا؟
وأن الله لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه ومخالفته لها.

وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ‎﴿٧٣﴾‏ يذكر تعالى منته على رسوله محمد ﷺ وحفظه له من أعدائه الحريصين على فتنته بكل طريق، فقال: { وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا } أي: قد كادوا لك أمرًا لم يدركوه، وتحيلوا لك، على أن تفتري على الله غير الذي أنزلنا إليك، فتجيء بما يوافق أهواءهم، وتدع ما أنزل الله إليك.

{وَإِذَا } لو فعلت ما يهوون { لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا } أي حبيبًا صفيًا، أعز عليهم من أحبابهم، لما جبلك الله عليه من مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، المحببة للقريب والبعيد، والصديق والعدو.

وهذه الآية تثبيت للنبي ﷺ، وتطييب خاطره، يقول له تعالى: لست أنت الغير مرغوب فيه أن يتبع، بل أمرك لهم بعبادة الله وحدة هو ما أثارهم عليك، ولو اتبعت أهواءهم  { لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا }، فلا تحزن أنهم لم يعادوك وينابذوك العداوة، إلا للحق الذي جئت به لا لذاتك، كما قال الله تعالى { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }

ويقول تعالى: (وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) ‎﴿٧٤﴾‏
يخبر تعالى عن تأييده تعالى لرسوله الكريم صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته، وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره ، وأنه لا يكله إلى أحد من خلق، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه ونآه، في مشارق الأرض ومغاربها، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين .

العصمة في اللغة :هي بمعنى الحفظ والوقاية ؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) ‎﴿المائدة٦٧﴾‏

وفي المصطلح العقائدي وعند علماء الكلام هي ملكة اجتناب المعاصي والخطأ. وهي من المفاهيم القرآنية، حيث وردت لفظة العصمة ومشتقاتها في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضع. يعتقد جميع المسلمين بعصمة الأنبياء بمعنى أن الله حفظ أنبيائه ورسله من الوقوع في الذنوب والمعاصي، وارتكاب المنكرات والمحرمات.
ويتفرد الأنبياء بأنهم معصومون في التبليغ: أي أنهم يبلغوا عن ربهم بغير نقص أو تغيير، أو تحويل، وفلا ينسون ما يؤمرون، وقد ينسى أحدهم أمر من أمور الدنيا يريد عمله، ولا ينسى ولا يخاف ولا يستحي من التبليغ. سبق أن بيان ذلك في قوله تعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ.......)

(إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) ‎﴿٧٥﴾‏

{ إذًا } لو ركنت إليهم بما يهوون { لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ} أي لأصبناك بعذاب مضاعف ، في الحياة الدنيا والآخرة ، وذلك لكمال نعمة الله عليك ، وكمال معرفتك. {ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا } ينقذك مما يحل بك من العذاب، ولكن الله تعالى عصمك من أسباب الشر، ومن البشر فثبتك وهداك الصراط المستقيم، ولم تركن إليهم بوجه من الوجوه، فله عليك أتم نعمة وأبلغ منحة.

فالله لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر دينه على من عاداه ومن خالفه، في مشارق الأرض ومغاربها.


Monday, 18 November 2024

تفسير سورة الإسراء ح 12 بالحق أنزلناه

تابع: تفسير سورة الإسراء
   ح١٢ والأخيرة


قوله نعالى: "قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا" ‎﴿١٠٠﴾‏
" قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي"  أي أرزاقه التي وزعها على عباده، ونعمه التي أنعم بها عليهم.التي لا تنفذ ولا تبيد.
" إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ" أي: خشية أن ينفد ما تنفقون منه، مع أنه من المحال أن تنفد خزائن الله، ولكن الإنسان مطبوع على الشح والبخل. قَتُورًا": من التقتير بمعنى البخل. يقال: قتر فلان يقتر- بضم التاء وكسرها- إذا بالغ في الإمساك والشح.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الظالمين الذين أعرضوا عن دعوتك، وطالبوك بما ليس في وسعك من تفجير الأرض بالأنهار، ومن غير ذلك من مقترحاتهم الفاسدة، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت: لو أنكم تملكون- أيها الناس- التصرف في خزائن الأرزاق التي وزعها الله على خلقه، إذا لبخلتم وأمسكتم في توزيعها عليهم، مخافة أن يصيبكم الفقر لو أنكم توسعتم في العطاء، مع أن خزائن الله لا تنفد أبدا، ولكن لأن البخل من طبيعتكم فعلتم ذلك.
" وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا " ‎﴿١٠١﴾‏
" وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ" أي: لست أيها الرسول المؤيد بالآيات، أول رسول كذبه الناس. فلقد أرسلنا قبلك موسى بن عمران ، كليم الرحمن، إلى فرعون وقومه، وآتيناه " تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ" قال عكرمة وقتادة ومجاهد وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا والحية واليد والسنون ( وعد أيضا: فلق البحر ونقص الثمرات). فواحدة منها تكفي لمن قصده اتباع الحق .
فإن شككت في شيء من ذلك " فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ " مع هذه الآيات " إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا " . خاطبه عليه السلام وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم . وإني لأظنك يا موسى مسحورا – أو ساحرا-- أي : مطبوبا سحروك ، أوخدعوك. وقيل مصروفا عن الحق.
" قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " ﴿١٠١﴾‏
" قَالَ " له موسى " لَقَدْ عَلِمْتَ " يا فرعون " مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ " الآيات " إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ " منه لعباده فليس قولك هذا، بالحقيقة وإنما قلت ذلك، ترويجا على قومك واستخفافا لهم. قال موسى لفرعون ردا على كذبه وافترائه: لقد علمت يا فرعون أنه ما أوجد هذه الآيات التسع إلا الله تبارك وتعالى خالق السموات والأرض، وقد أوجدها سبحانه بصورة واضحة جلية، حتى لكأتها البصائر في كشفها للحقائق وتجليتها.
فقوله بَصَائِرَ حال من هؤُلاءِ أى: أنزل هذه الآيات حال كونها بينات واضحات تدلك على صدقى.
" وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " أي ممقوتا ملقى في العذاب لك والذم واللعنة.
وفي هذا الرد توبيخ لفرعون على تجاهله الحقائق، حيث كان يعلم علم اليقين أن موسى عليه السلام ليس مسحورا ولا ساحرا، وأن الآيات التي جاء بها إنما هي من عند الله تبارك وتعالى، كما قال سبحانه -: مخاطبا موسى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ.}
وقوله تعالى : {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً، قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ.}
{وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }.
وقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً } توبيخ آخر لفرعون، وتهديد له لأنه وصف نبيا من أنبياء الله تبارك وتعالى بأنه مسحور.
ومثبورا بمعنى مهلك مدمر.
" فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا ‎﴿١٠٣﴾‏
" فَأَرَادَ " أي فرعون " أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ " أي: يجليهم ويخرجهم منها. يخرجهم (مِّنَ الْأَرْضِ) يعني أرض مصر (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا) ونجينا موسى وقومه .
 وأورثنا بني إسرائيل أرضهم وديارهم.
"وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " ‎﴿١٠٤﴾‏
وقلنا من بعد هلاكه لبنى إسرائيل على لسان نبينا موسى- عليه السلام: اسكنوا الأرض التي أراد أن يستفزكم منها فرعون وهي أرض مصر.
قال الآلوسى: وهذا ظاهر إن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها، وبعد أن أغرق الله فرعون وجنده.
وإن لم يثبت فالمراد من بنى إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض.الأرض المقدسة، وهي أرض الشام .
وعلى أية حال فالآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله-تبارك وتعالى- في إهلاك الظالمين، وفي توريث المستضعفين الصابرين أرضهم وديارهم.
ولهذا قال: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ "  أى: الموعد الذي حدده الله تبارك وتعالى لقيام الساعة، أحييناكم من قبوركم،  "جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " أي: جميعا، ليجازى كل عامل بعمله.
وجئنا بكم جميعا أنتم وفرعون وقومه مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم بحكمنا العادل.
"لَفِيفًا ":  اللفيف: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومعناه الجماعة التي اجتمعت من قبائل شتى. يقال: هذا طعام لفيف، إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا مما دار بين موسى عليه السلام وبين فرعون من محاورات ومجادلات، وبينت لنا سنة من سنن الله تبارك وتعالى التي لا تتخلف في نصرة المؤمنين، ودحر الكافرين.
" وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‎" ﴿١٠٥﴾‏
أي: وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم، لأمر العباد، ونهيهم وثوابهم وعقابهم.
" وَبِالْحَقِّ نَزَلَ " أي: بالصدق والعدل، والحفظ من كل شيطان رجيم.
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا " من أطاع الله بالثواب العاجل والآجل.
" وَنَذِيرًا " لمن عصى الله، بالعقاب العاجل والآجل. ويلزم من ذلك، بيان ما يبشر به وينذر.  والمراد بالحق الأول: الحكمة الإلهية التي اقتضت إنزاله، والمراد بالحق الثاني: ما اشتمل عليه هذا القرآن من عقائد وعبادات وآداب وأحكام ومعاملات، وغيرها.
" ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " .
فإذا تبين أنه الحق الذي لا شك فيه ولا ريب بوجه من الوجوه.
" وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ‎"﴿١٠٦﴾‏
أي: وأنزلنا هذا القرآن مفرقا، فارقا بين الهدى والضلال، والحق والباطل.
" لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ" أي: على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه، ويستخرجوا علومه. " وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا " أي: شيئا فشيئا، مفرقا في ثلاث وعشرين سنة.
وهكذا طريقة العرب في كلامها، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر، ثم إلى آخر، ثم إلى آخر، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا، والحديث شجون ...
فعليه فقد تبين أنه الحق الذي لا شك فيه ولا ريب بوجه من الوجوه.
" قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ‎"﴿١٠٧﴾‏
" قُلْ " لمن كذب به وأعرض عنه: " آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا " .
فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئا، وإنما ضرر ذلك عليكم. هؤلاء المكذبين: آمِنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا؛ فإن إيمانكم لا يزيده كمالا وتكذيبكم لا يُلْحِق به نقصًا. إن العلماء الذين أوتوا الكتب السابقة مِن قبل القرآن، وعرفوا حقيقة الوحي، إذا قرئ عليهم القرآن يخشعون، فيسجدون على وجوههم لله سبحانه وتعالى.
فإن لله عبادا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: " إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا " أي: يتأثرون به غاية التأثر, ويخضعون له.
"وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا" ‎﴿١٠٨﴾‏
" وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا " عما لا يليق بجلاله، مما نسبه إليه المشركون.
" إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا " بالبعث والجزاء بالأعمال " لَمَفْعُولًا " لا خلف فيه ولا شك.
" وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩ ‎﴿١٠٩﴾‏
" وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ " أي: على وجوههم " يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ " القرآن " خُشُوعًا " .
وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره، ممن أسلم في وقت النبي ﷺ بعد ذلك.
" قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ‎" ﴿١١٠﴾
بقول تعالى لعباده: " ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ " أي: أيهما شئتم.
" أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" أي: ليس له اسم غير حسن، أي: حتى ينهى عن دعائه به, أي اسم دعوتموه به، حصل به المقصود، والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب مما يناسب ذلك الاسم.
" وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ " أي: قراءتك " وَلَا تُخَافِتْ بِهَا " فإن في كل من الأمرين محذووا.
أما الجهر؛ فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه، وسبوا من جاء به.
وأما المخافتة؛ فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء.
" وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ " أي: اتخذ بين الجهر والإخفات " سَبِيلًا " أي: تتوسط فيما بينهما.
" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا " ‎﴿١١١﴾‏
" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ " الذي له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه، المنزه عن كل آفة ونقص.
" الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ " بل الملك كله لله الواحد القهار.
فالعالم العلوي والسفلي، كلهم مملوكون لله، ليس لأحد من الملك شيء.
" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ " أي: لا يتولى أحدا من خلقه، ليتعزز به ويعاونه.
فإنه الغني الحميد، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات, في الأرض ولا في السماوات، ولكنه يتخذ - إحسانا منه إليهم ورحمة بهم " اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ " (سورة البقرة ٢٥٧)
 " وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا " أي عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة, وبالثناء عليه, بأسمائه الحسنى, وبتحميده بأفعاله المقدسة، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده، لا شريك له، وإخلاص الدين كله له سبحانه وتعالى.
تم بحمد الله ومنته   
 

Tuesday, 25 June 2024

تفسير سورة الإسراء 10 يسئلونك عن الروح هم لا يؤمنون بالنبي إلا برؤية الخ...

    

تابع: تفسير سورة الإسراء-ح١٠

 

 

قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا ﴿٨٤﴾‏، أي كل أنسان {يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} أي: على ما يليق به من الأحوال، إن كان من الصفوة الأبرار، لم يشاكلهم – ما يهمه ويصرف إليه جهده- إلا عملهم لرب العالمين. ومن كان من غيرهم من المخذولين، لم يناسبهم إلا العمل للمخلوقين، ولم يوافقهم إلا ما وافق أغراضهم.

{فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا} فيعلم من يصلح للهداية، فيهديه ومن لا يصلح لها فيخذله ولا يهديه.

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً ) ﴿٨٥﴾‏

قال الإمام أحمد: بسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: كنت أمشي مع رسول الله في حرث في المدينة، وهو متوكىء على عسيب، فمر بقوم من اليهود، فقال بعضهم لبعض: (سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه. قال: فسألوه عن الروح، فقالوا: يا محمد ما الروح ؟ فما زال متوكئاً على العسيب، قال: فظننت أنه يوحى إليه، فقال: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً } قال: فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه.) (رواه البخاري ومسلم)

ولفظ البخاري عند تفسيره هذه الاَية عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: بينا أنا أمشي مع النبي في حرث وهو متوكىء على عسيب، إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقال: ما رابكم إليه، وقال بعضهم: لا يستقبلنكم بشيء تكرهونه. فقالوا سلوه، فسألوه عن الروح فأمسك النبي فلم يرد عليهم شيئاً، فعلمت أنه يوحى إليه، فقمت مقام، فلما نزل الوحي قال: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي } الاَية، وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الاَية مدنية، وأنه نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية. ومما يدل على نزول هذه الاَية بمكة ما قال الإمام أحمد: حدثنا قتيبة، بسنده عن ابن عباس قال: قالت قريش ليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه فنزلت { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً } قالوا: أوتينا علماً كثيراً، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً، قال: وأنزل الله { قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا }﴿ الكهف١٠٩﴾.

وقد روى ابن جرير بسنده عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله عن الروح، فأنزل الله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي} الاَية، فقالوا: تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً، وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ }﴿٢٦٩ البقرة﴾  قال: فنزلت {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ} ﴿٢٧ لقمان﴾‏ الاَية، قال ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار، فهو كثير طيب، وهو في علم الله قليل.

وقال محمد بن إسحاق عن عطاء بن يسار قال: نزلت بمكة {وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً } فلما هاجر رسول الله إلى المدينة أتاه أحبار يهود وقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول {وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً } أفعنيتنا أم عنيت قومك، فقال «كلاً قد عُنيت» فقالوا: إنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء، فقال رسول الله : «هي في علم الله قليل وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم» وأنزل الله {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ ۗ} ﴿٢٧ لقمان﴾‏

وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح ههنا على أقوال (أحدها) أن المراد أرواح بني آدم. وقال العوفي عن ابن عباس في قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ } الاَية، وذلك أن اليهود قالوا للنبي : أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد، وإنما الروح من الله ولم يكن نزل عليه فيه شيء، فلم يحر إليهم شيئاً، فأتاه جبريل فقال له: {قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَآ أُوتِيتُم مّن الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً } فأخبرهم النبي بذلك، فقالوا: من جاءك بهذا ؟ قال: جاءني به جبريل من عند الله، فقالوا له: والله ما قاله لك إلا عدونا، فأنزل الله { قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ }﴿البقرة: ٩٧﴾وقيل: المراد بالروح ههنا جبريل، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿١٩٢﴾‏ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ }﴿١٩٣﴾‏  والتنزيل هو للقرآن، والروح الأمين: هو جبريل عليه السلام.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ}  يقول: الروح ملك.

وقوله: { قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي } أي من شأنه ومما استأثر بعلمه دونكم, ولهذا قال: {وما أوتيتم من العلم إلا قليل} أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى، والمعنى أنه علمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه أمر الروح مما استاثر به تعالى ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى.وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر أن الخضر نظر إلى عصفور وقع على حافة السفينة فنقر في البحر نقرة, أي شرب منه بمنقاره, فقال: يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر، أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا قال تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وقال السهيلي: قال بعض الناس لم يجبهم عما سألوا، لأنهم سألوا على وجه التعنت، وقيل: أجابهم. وعول السهيلي على أن المراد بقوله: {قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي } أي من شرعه، أي فادخلوا فيه وقد علمتم ذلك، لأنه لا سبيل إلى معرفة هذا من طبع ولا فلسفة، وإنما ينال من جهة الشرع، وفي هذا المسلك الذي طرقه وسلكه نظر. والله أعلم.

ثم ذكر السهيلي الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها، وقرر أنها ذات لطيفة كالهواء سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر، وقرر أن الروح التي ينفخها الملك في الجنين هي النفس بشرط اتصالها بالبدن واكتسابها بسببه صفات مدح أو ذم، فهي إما نفس مطمئنة أو أمارة بالسوء، كما أن الماء هو حياة الشجر ثم يكسب بسبب اختلاطه معها اسماً خاصاً، فإذا اتصل بالعنبة وعصر منها صار إما مصطاراً أو خمراً, ولا يقال له ماء حينئذ إلا على سبيل المجاز، وكذا لا يقال للنفس روح إلا على هذا النحو، وكذا لا يقال للروح نفس إلا باعتبار ما تؤول إليه، فحاصل ما نقول: إن الروح هي أصل النفس ومادتها, والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن، فهي هي من وجه لا من كل وجه، وهذا معنى حسن، والله أعلم.

{وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} ﴿٨٦﴾‏ إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ۚ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ﴿٨٧﴾ ‏

يخبر تعالى أن القرآن والوحي الذي أوحاه إلى رسوله رحمة منه عليه، وعلى عباده, وهو أكبر النعم على الإطلاق على رسوله, فإن فضل الله عليه كبير، لا يقادر قدره.

فالذي تفضل به عليك، قادر على أن يذهب به، ثم لا تجد رادا يرده ولا وكيلا بتوجه عند الله فيه.

فلتغتبط به ولتقر به عينك، ولا يحزنك تكذيب المكذبين، ولا استهزاء الضالين.

فإنهم عرضت عليهم أجل النعم،  فردوها لهوانهم على الله  وخذلانه لهم.

يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. قال ابن مسعود رضي الله عنه: يطرق الناس ريح حمراء, يعني في آخر الزمان من قبل الشام, فلا يبقى في مصحف رجل ولا في قلبه آية، ثم قرآ ابن مسعود : {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الاَية.

قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴿٨٨﴾

ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزل على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال له ولا عديل له،  وهذا دليل قاطع, وبرهان ساطع, على صحة ما جاء به الرسول وصدقه.

ووقع كما أخبر الله, فإن دواعي أعدائه المكذبين به، متوفرة على رد ما جاء به, بأي وجه كان، وهم أهل اللسان والفصاحة.فلو كان عندهم أدنى تأهل، وتمكن من ذلك، لفعلوه.فعلم بذلك، أنهم أذعنوا غاية الإذعان،طوعا وكرها وعجزوا عن معارضته.

وكيف يقدر المخلوق من تراب الناقص من جميع الوجوه، الذي ليس له علم ولا قدرة ولا إرادة ولا مشيئة ولا كلام ولا كمال، إلا من ربه أن يعارض كلام رب الأرض والسماوات، المطلع على سائر الخفيات، الذي له الكمال المطلق والحمد المطلق، والمجد العظيم، الذي لو أن البحر يمده من بعده سبعة أبحر مدادا، والأشجار كلها أقلام لنفذ المداد وفنيت الأقلام ولم تنفد كلمات الله.

فكما أنه ليس أحد من المخلوقين، مماثلا لله في أوصافه، فكلامه من أوصافه التي لا يماثله فيها أحد.فليس كمثله شيء في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله تبارك وتعالى.

فتبا لمن اشتبه عليه كلام الخالق بكلام المخلوق، وزعم أن محمدا افتراه على الله واختلقه من نفسه. فالله أعلم.

 وقوله { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ﴿٨٩﴾‏  أي بينا لهم الحجج والبراهين القاطعة، ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه، ومع هذا فأبى أكثر الناس إلا كفوراً أي جحوداً للحق ورداً للصواب.  

قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي: نوعنا فيه المواعظ والأمثال، وثنينا فيه المعاني، التي يضطر إليها العباد لأجل أن يتذكروا ويتقوا.

فلم يتذكر إلا القليل منهم، الذين سبقت لهم من الله، سابقة السعادة وأعانهم الله بتوفيقه. وأما أكثر الناس فأبوا إلا كفورا لهذه النعمة، التي هي أكبر من جميع النعم، وجعلوا يتعنتون عليه باقتراح آيات، غير آياته، يخترعونها من تلقاء أنفسهم الظالمة الجاهلة.

{وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً}﴿٩٠﴾‏

فيقولون لرسول الله الذي أتى بهذا القرآن المشتمل على كل برهان وآية: " لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا " أي أنهارا جارية.

" أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ " فتستغنى بها عن المشي في الأسواق والذهاب والمجيء.

" أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا " أي: قطعا من العذاب.

" أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا " أي جميعا، أو مقابلة ومعاينة، يشهدون لك بما جئت به.

" أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ " أي: مزخرف بالذهب وغيره.

" أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ " رقيا حسيا.

ومع هذا " وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ " .

ولما كانت هذه تعنتات وتعجيزات وكلام أسفه الناس وأظلمهم، المتضمنة لرد الحق، وسوء أدب مع الله،  وأن الرسول هو الذي يأتي بالآيات - أمره الله أن ينزهه فقال: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا }﴿٩٣﴾‏  تعالى ربي عما تقولون علوا كبيرا، وسبحانه أن تكون أحكامه وآياته تابعة لأهوائهم الفاسدة وآرائهم الضالة.

{هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} ليس بيده شيء من الأمر.

{وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَّسُولًا }﴿٩٤﴾‏

وهذا السبب الذي منع أكثر الناس من الإيمان، حيث كانت الرسل التي ترسل إليهم من جنسهم بشرا.

وهذا من رحمته بهم، أن أرسل إليهم بشرا منهم، فإنهم لا يطيقون التلقي من الملائكة.

{قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ " يثبتون على رؤية الملائكة, والتلقي عنهم " لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا " ليمكنهم التلقي عنه.

{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}.

فمن شهادته لرسوله ما أيده به من المعجزات، وما أنزل عليه من الآيات، ونصره على من عاداه ونأوه.

يقول تعالى مرشداً نبيه إلى الحجة على قومه في صدق ما جاءهم به: إنه شاهد علي وعليكم, عالم بما جئتكم به, فلو كنت كاذباً عليه لا نتقم مني أشد الانتقام, كما قال تعالى: { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ﴿٤٤﴾‏ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴿٤٥﴾‏ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴿٤٦﴾‏ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴿٤٧﴾‏}.

وقوله تعالى: { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} أي عليماً بهم بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة