تابع: تفسير سورة الإسراء
ح١٢ والأخيرة
قوله نعالى: "قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا" ﴿١٠٠﴾
" قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي" أي أرزاقه التي وزعها على عباده، ونعمه التي أنعم بها عليهم.التي لا تنفذ ولا تبيد.
" إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ" أي: خشية أن ينفد ما تنفقون منه، مع أنه من المحال أن تنفد خزائن الله، ولكن الإنسان مطبوع على الشح والبخل. قَتُورًا": من التقتير بمعنى البخل. يقال: قتر فلان يقتر- بضم التاء وكسرها- إذا بالغ في الإمساك والشح.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الظالمين الذين أعرضوا عن دعوتك، وطالبوك بما ليس في وسعك من تفجير الأرض بالأنهار، ومن غير ذلك من مقترحاتهم الفاسدة، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت: لو أنكم تملكون- أيها الناس- التصرف في خزائن الأرزاق التي وزعها الله على خلقه، إذا لبخلتم وأمسكتم في توزيعها عليهم، مخافة أن يصيبكم الفقر لو أنكم توسعتم في العطاء، مع أن خزائن الله لا تنفد أبدا، ولكن لأن البخل من طبيعتكم فعلتم ذلك.
" وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا " ﴿١٠١﴾
" وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ" أي: لست أيها الرسول المؤيد بالآيات، أول رسول كذبه الناس. فلقد أرسلنا قبلك موسى بن عمران ، كليم الرحمن، إلى فرعون وقومه، وآتيناه " تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ" قال عكرمة وقتادة ومجاهد وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا والحية واليد والسنون ( وعد أيضا: فلق البحر ونقص الثمرات). فواحدة منها تكفي لمن قصده اتباع الحق .
فإن شككت في شيء من ذلك " فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ " مع هذه الآيات " إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا " . خاطبه عليه السلام وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم . وإني لأظنك يا موسى مسحورا – أو ساحرا-- أي : مطبوبا سحروك ، أوخدعوك. وقيل مصروفا عن الحق.
" قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " ﴿١٠١﴾
" قَالَ " له موسى " لَقَدْ عَلِمْتَ " يا فرعون " مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ " الآيات " إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ " منه لعباده فليس قولك هذا، بالحقيقة وإنما قلت ذلك، ترويجا على قومك واستخفافا لهم. قال موسى لفرعون ردا على كذبه وافترائه: لقد علمت يا فرعون أنه ما أوجد هذه الآيات التسع إلا الله تبارك وتعالى خالق السموات والأرض، وقد أوجدها سبحانه بصورة واضحة جلية، حتى لكأتها البصائر في كشفها للحقائق وتجليتها.
فقوله بَصَائِرَ حال من هؤُلاءِ أى: أنزل هذه الآيات حال كونها بينات واضحات تدلك على صدقى.
" وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " أي ممقوتا ملقى في العذاب لك والذم واللعنة.
وفي هذا الرد توبيخ لفرعون على تجاهله الحقائق، حيث كان يعلم علم اليقين أن موسى عليه السلام ليس مسحورا ولا ساحرا، وأن الآيات التي جاء بها إنما هي من عند الله تبارك وتعالى، كما قال سبحانه -: مخاطبا موسى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ.}
وقوله تعالى : {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً، قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ.}
{وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }.
وقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً } توبيخ آخر لفرعون، وتهديد له لأنه وصف نبيا من أنبياء الله تبارك وتعالى بأنه مسحور.
ومثبورا بمعنى مهلك مدمر.
" فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا ﴿١٠٣﴾
" فَأَرَادَ " أي فرعون " أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ " أي: يجليهم ويخرجهم منها. يخرجهم (مِّنَ الْأَرْضِ) يعني أرض مصر (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا) ونجينا موسى وقومه .
وأورثنا بني إسرائيل أرضهم وديارهم.
"وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " ﴿١٠٤﴾
وقلنا من بعد هلاكه لبنى إسرائيل على لسان نبينا موسى- عليه السلام: اسكنوا الأرض التي أراد أن يستفزكم منها فرعون وهي أرض مصر.
قال الآلوسى: وهذا ظاهر إن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها، وبعد أن أغرق الله فرعون وجنده.
وإن لم يثبت فالمراد من بنى إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض.الأرض المقدسة، وهي أرض الشام .
وعلى أية حال فالآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله-تبارك وتعالى- في إهلاك الظالمين، وفي توريث المستضعفين الصابرين أرضهم وديارهم.
ولهذا قال: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ " أى: الموعد الذي حدده الله تبارك وتعالى لقيام الساعة، أحييناكم من قبوركم، "جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " أي: جميعا، ليجازى كل عامل بعمله.
وجئنا بكم جميعا أنتم وفرعون وقومه مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم بحكمنا العادل.
"لَفِيفًا ": اللفيف: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومعناه الجماعة التي اجتمعت من قبائل شتى. يقال: هذا طعام لفيف، إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا مما دار بين موسى عليه السلام وبين فرعون من محاورات ومجادلات، وبينت لنا سنة من سنن الله تبارك وتعالى التي لا تتخلف في نصرة المؤمنين، ودحر الكافرين.
" وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا " ﴿١٠٥﴾
أي: وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم، لأمر العباد، ونهيهم وثوابهم وعقابهم.
" وَبِالْحَقِّ نَزَلَ " أي: بالصدق والعدل، والحفظ من كل شيطان رجيم.
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا " من أطاع الله بالثواب العاجل والآجل.
" وَنَذِيرًا " لمن عصى الله، بالعقاب العاجل والآجل. ويلزم من ذلك، بيان ما يبشر به وينذر. والمراد بالحق الأول: الحكمة الإلهية التي اقتضت إنزاله، والمراد بالحق الثاني: ما اشتمل عليه هذا القرآن من عقائد وعبادات وآداب وأحكام ومعاملات، وغيرها.
" ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " .
فإذا تبين أنه الحق الذي لا شك فيه ولا ريب بوجه من الوجوه.
" وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا "﴿١٠٦﴾
أي: وأنزلنا هذا القرآن مفرقا، فارقا بين الهدى والضلال، والحق والباطل.
" لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ" أي: على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه، ويستخرجوا علومه. " وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا " أي: شيئا فشيئا، مفرقا في ثلاث وعشرين سنة.
وهكذا طريقة العرب في كلامها، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر، ثم إلى آخر، ثم إلى آخر، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا، والحديث شجون ...
فعليه فقد تبين أنه الحق الذي لا شك فيه ولا ريب بوجه من الوجوه.
" قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا "﴿١٠٧﴾
" قُلْ " لمن كذب به وأعرض عنه: " آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا " .
فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئا، وإنما ضرر ذلك عليكم. هؤلاء المكذبين: آمِنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا؛ فإن إيمانكم لا يزيده كمالا وتكذيبكم لا يُلْحِق به نقصًا. إن العلماء الذين أوتوا الكتب السابقة مِن قبل القرآن، وعرفوا حقيقة الوحي، إذا قرئ عليهم القرآن يخشعون، فيسجدون على وجوههم لله سبحانه وتعالى.
فإن لله عبادا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: " إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا " أي: يتأثرون به غاية التأثر, ويخضعون له.
"وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا" ﴿١٠٨﴾
" وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا " عما لا يليق بجلاله، مما نسبه إليه المشركون.
" إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا " بالبعث والجزاء بالأعمال " لَمَفْعُولًا " لا خلف فيه ولا شك.
" وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩ ﴿١٠٩﴾
" وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ " أي: على وجوههم " يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ " القرآن " خُشُوعًا " .
وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره، ممن أسلم في وقت النبي ﷺ بعد ذلك.
" قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا " ﴿١١٠﴾
بقول تعالى لعباده: " ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ " أي: أيهما شئتم.
" أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" أي: ليس له اسم غير حسن، أي: حتى ينهى عن دعائه به, أي اسم دعوتموه به، حصل به المقصود، والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب مما يناسب ذلك الاسم.
" وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ " أي: قراءتك " وَلَا تُخَافِتْ بِهَا " فإن في كل من الأمرين محذووا.
أما الجهر؛ فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه، وسبوا من جاء به.
وأما المخافتة؛ فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء.
" وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ " أي: اتخذ بين الجهر والإخفات " سَبِيلًا " أي: تتوسط فيما بينهما.
" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا " ﴿١١١﴾
" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ " الذي له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه، المنزه عن كل آفة ونقص.
" الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ " بل الملك كله لله الواحد القهار.
فالعالم العلوي والسفلي، كلهم مملوكون لله، ليس لأحد من الملك شيء.
" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ " أي: لا يتولى أحدا من خلقه، ليتعزز به ويعاونه.
فإنه الغني الحميد، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات, في الأرض ولا في السماوات، ولكنه يتخذ - إحسانا منه إليهم ورحمة بهم " اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ " (سورة البقرة ٢٥٧)
" وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا " أي عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة, وبالثناء عليه, بأسمائه الحسنى, وبتحميده بأفعاله المقدسة، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده، لا شريك له، وإخلاص الدين كله له سبحانه وتعالى.
" إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ" أي: خشية أن ينفد ما تنفقون منه، مع أنه من المحال أن تنفد خزائن الله، ولكن الإنسان مطبوع على الشح والبخل. قَتُورًا": من التقتير بمعنى البخل. يقال: قتر فلان يقتر- بضم التاء وكسرها- إذا بالغ في الإمساك والشح.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الظالمين الذين أعرضوا عن دعوتك، وطالبوك بما ليس في وسعك من تفجير الأرض بالأنهار، ومن غير ذلك من مقترحاتهم الفاسدة، قل لهم على سبيل التقريع والتبكيت: لو أنكم تملكون- أيها الناس- التصرف في خزائن الأرزاق التي وزعها الله على خلقه، إذا لبخلتم وأمسكتم في توزيعها عليهم، مخافة أن يصيبكم الفقر لو أنكم توسعتم في العطاء، مع أن خزائن الله لا تنفد أبدا، ولكن لأن البخل من طبيعتكم فعلتم ذلك.
" وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسۡـَٔلۡ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِذۡ جَآءَهُمۡ فَقَالَ لَهُۥ فِرۡعَوۡنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسۡحُورٗا " ﴿١٠١﴾
" وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا مُوسَىٰ تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ" أي: لست أيها الرسول المؤيد بالآيات، أول رسول كذبه الناس. فلقد أرسلنا قبلك موسى بن عمران ، كليم الرحمن، إلى فرعون وقومه، وآتيناه " تِسۡعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ" قال عكرمة وقتادة ومجاهد وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا والحية واليد والسنون ( وعد أيضا: فلق البحر ونقص الثمرات). فواحدة منها تكفي لمن قصده اتباع الحق .
فإن شككت في شيء من ذلك " فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ " مع هذه الآيات " إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا " . خاطبه عليه السلام وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم . وإني لأظنك يا موسى مسحورا – أو ساحرا-- أي : مطبوبا سحروك ، أوخدعوك. وقيل مصروفا عن الحق.
" قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " ﴿١٠١﴾
" قَالَ " له موسى " لَقَدْ عَلِمْتَ " يا فرعون " مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ " الآيات " إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ " منه لعباده فليس قولك هذا، بالحقيقة وإنما قلت ذلك، ترويجا على قومك واستخفافا لهم. قال موسى لفرعون ردا على كذبه وافترائه: لقد علمت يا فرعون أنه ما أوجد هذه الآيات التسع إلا الله تبارك وتعالى خالق السموات والأرض، وقد أوجدها سبحانه بصورة واضحة جلية، حتى لكأتها البصائر في كشفها للحقائق وتجليتها.
فقوله بَصَائِرَ حال من هؤُلاءِ أى: أنزل هذه الآيات حال كونها بينات واضحات تدلك على صدقى.
" وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا " أي ممقوتا ملقى في العذاب لك والذم واللعنة.
وفي هذا الرد توبيخ لفرعون على تجاهله الحقائق، حيث كان يعلم علم اليقين أن موسى عليه السلام ليس مسحورا ولا ساحرا، وأن الآيات التي جاء بها إنما هي من عند الله تبارك وتعالى، كما قال سبحانه -: مخاطبا موسى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ.}
وقوله تعالى : {فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً، قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ.}
{وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ }.
وقوله: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً } توبيخ آخر لفرعون، وتهديد له لأنه وصف نبيا من أنبياء الله تبارك وتعالى بأنه مسحور.
ومثبورا بمعنى مهلك مدمر.
" فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا ﴿١٠٣﴾
" فَأَرَادَ " أي فرعون " أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ " أي: يجليهم ويخرجهم منها. يخرجهم (مِّنَ الْأَرْضِ) يعني أرض مصر (فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا) ونجينا موسى وقومه .
وأورثنا بني إسرائيل أرضهم وديارهم.
"وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " ﴿١٠٤﴾
وقلنا من بعد هلاكه لبنى إسرائيل على لسان نبينا موسى- عليه السلام: اسكنوا الأرض التي أراد أن يستفزكم منها فرعون وهي أرض مصر.
قال الآلوسى: وهذا ظاهر إن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها، وبعد أن أغرق الله فرعون وجنده.
وإن لم يثبت فالمراد من بنى إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض.الأرض المقدسة، وهي أرض الشام .
وعلى أية حال فالآية الكريمة تحكى سنة من سنن الله-تبارك وتعالى- في إهلاك الظالمين، وفي توريث المستضعفين الصابرين أرضهم وديارهم.
ولهذا قال: " فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ " أى: الموعد الذي حدده الله تبارك وتعالى لقيام الساعة، أحييناكم من قبوركم، "جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا " أي: جميعا، ليجازى كل عامل بعمله.
وجئنا بكم جميعا أنتم وفرعون وقومه مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم بحكمنا العادل.
"لَفِيفًا ": اللفيف: اسم جمع لا واحد له من لفظه، ومعناه الجماعة التي اجتمعت من قبائل شتى. يقال: هذا طعام لفيف، إذا كان مخلوطا من جنسين فصاعدا.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا مما دار بين موسى عليه السلام وبين فرعون من محاورات ومجادلات، وبينت لنا سنة من سنن الله تبارك وتعالى التي لا تتخلف في نصرة المؤمنين، ودحر الكافرين.
" وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا " ﴿١٠٥﴾
أي: وبالحق أنزلنا هذا القرآن الكريم، لأمر العباد، ونهيهم وثوابهم وعقابهم.
" وَبِالْحَقِّ نَزَلَ " أي: بالصدق والعدل، والحفظ من كل شيطان رجيم.
" وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا " من أطاع الله بالثواب العاجل والآجل.
" وَنَذِيرًا " لمن عصى الله، بالعقاب العاجل والآجل. ويلزم من ذلك، بيان ما يبشر به وينذر. والمراد بالحق الأول: الحكمة الإلهية التي اقتضت إنزاله، والمراد بالحق الثاني: ما اشتمل عليه هذا القرآن من عقائد وعبادات وآداب وأحكام ومعاملات، وغيرها.
" ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " .
فإذا تبين أنه الحق الذي لا شك فيه ولا ريب بوجه من الوجوه.
" وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا "﴿١٠٦﴾
أي: وأنزلنا هذا القرآن مفرقا، فارقا بين الهدى والضلال، والحق والباطل.
" لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ" أي: على مهل، ليتدبروه ويتفكروا في معانيه، ويستخرجوا علومه. " وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا " أي: شيئا فشيئا، مفرقا في ثلاث وعشرين سنة.
وهكذا طريقة العرب في كلامها، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر، ثم إلى آخر، ثم إلى آخر، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا، والحديث شجون ...
فعليه فقد تبين أنه الحق الذي لا شك فيه ولا ريب بوجه من الوجوه.
" قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا ۚ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا "﴿١٠٧﴾
" قُلْ " لمن كذب به وأعرض عنه: " آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا " .
فليس لله حاجة فيكم، ولستم بضاريه شيئا، وإنما ضرر ذلك عليكم. هؤلاء المكذبين: آمِنوا بالقرآن أو لا تؤمنوا؛ فإن إيمانكم لا يزيده كمالا وتكذيبكم لا يُلْحِق به نقصًا. إن العلماء الذين أوتوا الكتب السابقة مِن قبل القرآن، وعرفوا حقيقة الوحي، إذا قرئ عليهم القرآن يخشعون، فيسجدون على وجوههم لله سبحانه وتعالى.
فإن لله عبادا غيركم، وهم الذين آتاهم الله العلم النافع: " إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا " أي: يتأثرون به غاية التأثر, ويخضعون له.
"وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا" ﴿١٠٨﴾
" وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا " عما لا يليق بجلاله، مما نسبه إليه المشركون.
" إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا " بالبعث والجزاء بالأعمال " لَمَفْعُولًا " لا خلف فيه ولا شك.
" وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا ۩ ﴿١٠٩﴾
" وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ " أي: على وجوههم " يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ " القرآن " خُشُوعًا " .
وهؤلاء كالذين من الله عليهم من مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره، ممن أسلم في وقت النبي ﷺ بعد ذلك.
" قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ ۖ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا " ﴿١١٠﴾
بقول تعالى لعباده: " ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ " أي: أيهما شئتم.
" أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى" أي: ليس له اسم غير حسن، أي: حتى ينهى عن دعائه به, أي اسم دعوتموه به، حصل به المقصود، والذي ينبغي أن يدعى في كل مطلوب مما يناسب ذلك الاسم.
" وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ " أي: قراءتك " وَلَا تُخَافِتْ بِهَا " فإن في كل من الأمرين محذووا.
أما الجهر؛ فإن المشركين المكذبين به إذا سمعوه سبوه، وسبوا من جاء به.
وأما المخافتة؛ فإنه لا يحصل المقصود لمن أراد استماعه مع الإخفاء.
" وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ " أي: اتخذ بين الجهر والإخفات " سَبِيلًا " أي: تتوسط فيما بينهما.
" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا " ﴿١١١﴾
" وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ " الذي له الكمال والثناء والحمد والمجد من جميع الوجوه، المنزه عن كل آفة ونقص.
" الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ " بل الملك كله لله الواحد القهار.
فالعالم العلوي والسفلي، كلهم مملوكون لله، ليس لأحد من الملك شيء.
" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ " أي: لا يتولى أحدا من خلقه، ليتعزز به ويعاونه.
فإنه الغني الحميد، الذي لا يحتاج إلى أحد من المخلوقات, في الأرض ولا في السماوات، ولكنه يتخذ - إحسانا منه إليهم ورحمة بهم " اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۗ " (سورة البقرة ٢٥٧)
" وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا " أي عظمه وأجله بالإخبار بأوصافه العظيمة, وبالثناء عليه, بأسمائه الحسنى, وبتحميده بأفعاله المقدسة، وبتعظيمه وإجلاله بعبادته وحده، لا شريك له، وإخلاص الدين كله له سبحانه وتعالى.
تم بحمد الله ومنته
No comments:
Post a Comment