Wednesday, 1 July 2015

تدبر آيات من القرآن العظيم – الحزب 31 -سورة مريم، والعلاقات الأسرية والبشارة للمؤمنين.

  


   



سورة مريم، علاقات أسرية راقية ،وبشارة للمؤمنين.

يلاحظ في هذه السورة الكريمة أن فيها الكثير من العلاقات الأسرية ، وهي أسر غير عادية ، اسر الأنبياء،فيها وأمثلة جميلة راقية لعلاقات أفراد الأسرة بعضهم ببعض:
فالمقطع الأول:  يتحدث عن نبي الله زكريا وابنه يحيى عليهما السلام ، طلب زكريا عليه السلام من ربه أن يهب له الولد الصالح ليكمل رسالتة في تبليغ الدعوة ، وحمل الأمانة،ونتوقف هنا عند دعاء طلب زكريا الولد لنتعلم منه آداب الدعاء، قال تعالى عن دعائه : { إِذْ نَادَىٰ رَ‌بَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا ﴿٣ قَالَ رَ‌بِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّ‌أْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَ‌بِّ شَقِيًّا ﴿٤ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَ‌ائِي وَكَانَتِ امْرَ‌أَتِي عَاقِرً‌ا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا ﴿٥ يَرِ‌ثُنِي وَيَرِ‌ثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ  وَاجْعَلْهُ رَ‌بِّ رَ‌ضِيًّا ﴿٦
 دعى ربه دعاءً خفيا ، فذلك أحرى للإخلاص في الدعاء،يناجي ربه بعيدا عن أعين الناس وأسماعهم، ويتذلل لله ويتوسل إليه بضعفه ، فقال : { رَ‌بِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّ‌أْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَ‌بِّ شَقِيًّا} أي ضعف العظم،وغزا السيب رأسي ، وهو زيادة في تأكيد التذلل بالضعف ، لان الشيب دليل الضعف والكبر.
فتوسل زكريا إلى ربه بضعفه وعجزه ، وهذا من أحب الوسائل إلى الله ، لأنه يدل على التبرىء من الحول والقوة ، وتتعلق بحول الله وقوته .وأيضا لما طلب الولد حرص أن يطلب الولد الرضيّ : اي المرضي عنه من أبويه ومن عموم الناس ، ويرضى عنه ربه،  هذه بعض آداب الدعاء.
 وكان من أبرز مميزات هذا الولد الصالح أنه كان باراً بوالديه.

والمقطع الثاني:  يتحدث عن أم غير عادية وولدها، الأم الطاهرة النقية مريم العذراء التي وهبتها أمها لربها، فبرت لأمها بنذرها، وأحسنت فيه، فوهبت نفسها لله والدعوة له، ثم يحكي هذا المقطع عن ولدها الصالح عيسى عليه السلام الذي دافع عن طهر أمه وشرفها، وأنطقه الله وهو في المهد ليدافع ليجلي حقيقة ولادته، وما أبلغ أن تكون أول كلماته { قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّـهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } ، فكان كما قال يحمل الكتاب من الله صغيراً ليدعو بني إسرائيل  إليه سبحانه .
وفي الحكاية عن يحيى ، وعيسى عليهما السلام ، عامل مشترك ، وهو لما وصف يحيى قال عنه : { وَبَرًّ‌ا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارً‌ا عَصِيًّا} 
وفي عيسى عليه السلام قال : { وَبَرًّ‌ا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارً‌ا شَقِيًّا }
أي: طهرة من الآفات والذنوب، فطهر قلبه وتزكى عقله، وذلك يتضمن زوال الأوصاف المذمومة، والأخلاق الرديئة، وزيادة الأخلاق الحسنة، والأوصاف المحمودة، ولهذا قال: { وَكَانَ تَقِيًّا ْ} أي: فاعلا للمأمور، تاركا للمحظور، ومن كان مؤمنا تقيا كان لله وليا، وكان من أهل الجنة التي أعدت للمتقين، وحصل له من الثواب الدنيوي والأخروي، ما رتبه الله على التقوى.
وكان أيضا { بَرًّا بِوَالِدَيْهِ ْ} أي: لم يكن عاقا، ولا مسيئا إلى أبويه، بل كان محسنا إليهما بالقول والفعل.
وفي عيسى عليه السلام قال في وصفه :
{ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ْ} أي: في أي مكان، وأي: زمان، فالبركة جعلها الله فيَّ من تعليم الخير والدعوة إليه، والنهي عن الشر، والدعوة إلى الله في أقواله وأفعاله، فكل من جالسه، أو اجتمع به، نالته بركته، وسعد به مصاحبه.
{ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا ْ} أي: أوصاني بالقيام بحقوقه، التي من أعظمها الصلاة، وحقوق عباده، التي أجلها الزكاة، مدة حياتي، ووصاني أيضا، أن أبر والدتي فأحسن إليها غاية الإحسان، وأقوم بما ينبغي له، لشرفها وفضلها،
{ وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا ْ} أي: متكبرا على الله، مترفعا على عباده { شَقِيًّا ْ} في دنياي أو أخراي، فلم يجعلني كذلك بل جعلني مطيعا له خاضعا خاشعا متذللا، متواضعا لعباد الله، سعيدا في الدنيا والآخرة، أنا ومن اتبعني.
فالمشترك بينهما ، بر الوالدين بعد عبادة وتوحيد الله سبحانه وتعالى ، وقال عنه أن بارا بوالده ، فحيي ليس بجبار ولا عاصيا ، وعن عيسى عليه السلام ، بارا بوالدته _ فليس له أب _ وإنه ليس بجبار شقي ، من هذين الوصفين للنبيين مشترك أنهما بارين بوالديهما ، وليسا بجبارين عاصين ، ولا أشقياء . قال المفسرون : لا تجد أحدا عاقا لوالديه ، إلا وجدته جبارا شقيا عصياً.

والمقطع الثالث: يتحدث عن الصدّيق إبراهيم عليه السلام الذي هداه الله إليه، وعلاقته بوالده حين دعا الولد أبيه بأدب جم إلى عبادة الله الواحد ، وتودد إليه في الكلام ، فكان يناديه بـ { يَا أَبَتِ } ،ويقول مرة { يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّ‌حْمَـٰنِ } فانا أدعوك لأني حريص عليك، فانا أريدك أن تكون على الطريق الصحيح { فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَ‌اطًا سَوِيًّا } ، فأنا حريص على الخير لك، ثم لما اضطره أبوه أن يتركه، ولما لم يجد إجابة من أبيه اعتزله وقومه إذ أصروا على الكفر، وتحمل المشاق في سبيل الدعوة إلى ربه ، فأكرمه الله تعالى بالذرية الصالحة التي رباها فأحسن تربيتها . فكان بذلك قدوة للعالمين جميعاً ، { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّ‌حْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا}  فكانت جائزته أن جعل الله السنة الناس تنطق بحمده وتمجيده هو وذريته الصالحة.

 المقطع الرابع : يتحدث عن النبي الكريم موسى، صاحب العزم القوي في الدعوة إلى الله ،إذ أكرمه ربه فجعله مُخْلَصاً ورسولاً كريماً ، ولما بُشِرَ بالنبوة دعى ربه أن يُشرك معه أخاه هارون بهذه الميزة وهذا الفضل ، وذلك كما حكاه الله تعالى لنا في سورة ( طه) قال: { وَاجْعَل لِّي وَزِيرً‌ا مِّنْ أَهْلِي * هَارُ‌ونَ أَخِي *  اشْدُدْ بِهِ أَزْرِ‌ي * وَأَشْرِ‌كْهُ فِي أَمْرِ‌ي} ( طه29-32) فكان بفضل دعائه أن منّ الله تعالى على أخيه هارون فوهبه النبوه. فكان موسى لهارون أكرم منّةٍ لأخ على أخيه على مرّ الدهور وكرّ العصور ، { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّ‌حْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُ‌ونَ نَبِيًّا }

والمقطع الخامس: يتحدث عن دور رب الأسرة في تربية أهله ، زوجتةُ وأولادهُ ومواليَه ، فهذا إسماعيل عليه السلام كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة، وكان عند ربه مرضياً بسبب تربيته إياهم، { وَاذْكُرْ‌ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَ‌سُولًا نَّبِيًّا * وَكَانَ يَأْمُرُ‌ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَ‌بِّهِ مَرْ‌ضِيًّا }، فكان قدوة لمن بعده في الاعتناء بالأسرة ووصلها بالله، فمن كان بحبل الله موصولاً سعد وأُكرم ، وحاز القبول.

وفي نهاية السورة يسوق الله تعالى لعباده المؤمنين بشرى عزيزة، عاجلها يرونه في الدنيا ، والآجل سيتمتعون به في آخرتهم ، يقول تعالى:ـ
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّ‌حْمَـٰنُ وُدًّا }
يخبر تعالى: أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات، في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة، فهو يحبهم ، وينزل مودتهم في قلوب عباده،  وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول اللّه ﷺ من أكثر من طريق، فعن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: " إن اللّه إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه "،  قال : فيحبه جبريل، قال: ثم ينادي في أهل السماء إن اللّه يحب فلاناً فأحبوه، قال فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإن اللّه إذا أبغض عبداً دعا جبريل، فقال: يا جبريل إني أبغض فلاناً فأبغضه، قال فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء، إن اللّه يبغض فلاناً فأبغضوه، قال، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغضاء في الأرض" ( أخرجه البخاري ومسلم ).
عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، أن النبي ﷺ قال: " إذا أحب اللّه عبداً نادى جبريل: إني قد أحببت فلاناً فأحبه فينادي في السماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض، فذلك قول اللّه عزَّ وجلَّ: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا} "رواه مسلم والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح""
قال سعيد بن جبير: يحبهم ويحببهم ـ يعني ـ إلى خلقه المؤمنين.
وعن ابن عباس: الود من المسلمين في الدنيا، في قلوب أهل الإيمان،  والرزق الحسن واللسان الصادق
وقال هرم بن حيان: ما أقبل عبد بقلبه إلى اللّه إلا أقبل اللّه بقلوب المؤمنين إليه، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم
 وكان عثمان بن عفان رضي اللّه عنه يقول: ما من عبد يعمل خيراً أو شراً إلا كساه اللّه عزَّ وجلَّ رداء عمله.

اللهم إنا نسألك عيشة هنية، وميتة سوية، ومرداً غير مخزٍ ولا فاضح. اللهم إنا نسألك عيش السعداء، ومنزل الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء، برحمتك يا أرحم الراحمين

No comments:

Post a Comment