Wednesday, 6 November 2019

أنبياء الله - تعرف عليهم ج 9 - إسماعيل عليه السلام " كان صادق الوعد"





الترتيب الزمنى لأنبياء الله وأعمارهم ج ٩ – نبي الله إسماعيل عليه الصلاة والسلام – أول الذبحين من آباء نبينا محمد ﷺ
 
{وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا}

قال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} (سورة مريم٥٤)

نسبه عليه السلام:

هو إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن عليهما الصلاة والسلام، وهو ابن هاجر المصرية التي وهبتها سارة زوجة إبراهيم إلى زوجها إبراهيم، وهو جدُّ الرسول سيدنا محمد إذ إنّ نبينا محمد يرجعُ نسبه إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.
أم إسماعيل السيدة هاجر:
السيدة هاجر القبطية المِصرية هي أم نبي الله إسماعيل، أكبر أولاد النبي إبراهيم عليه السلام، الذي من نسله نبينا الحبيب مُحَمَد بن عَبْد الله ، وهي أول من ثقبت أذنها وأطالت ذيلها من النساء، وفي سيرتها أنها كانت أميرة مصرية وتحديدا قيل أنّها كانت شقيقة الملك المصري سنوسرت، وعندما أتى الهكسوس ليحتلوا مصر استحوذوا على بلاط الملك ومن فيه فقتلوا الرجال واستبقوا النساء.
وجيء بالسيدة هاجر إلى بلاط ملك مصر ولكنها كانت مستعصمة، ذات شرف ومكانة حماها الله من صغرها، فيقال إن الملك كلما حاول النيل منها سرت فيه رجفة، فابتعد عنها وعلم أن هناك قوة ما تحميها. والذي يرجح هذا القول هو تصرف هذا الملك الذي عرف بولعه الشديد بالنساء عندما حاول أن ينال من السيدة سارة زوج سيدنا إبراهيم عليه السلام، شلت يده ثلاث  مرات، فكأن نفسه أدركت أن هناك صلة ما تربط بين السيدة التي أمامه، وتلك التي يعرفها المستعصمة الأبية هاجر، فقرر هذا الملك إطلاق سراح السيدة سارة، وليبعث معها هاجر تلك التي على نهجها نهج العفة.
ومهما اختلفت الآراء عن أصل السيدة هاجر إلا أن الله سبحانه وتعالى اختارها لأن تكون تلك الفتاة المؤمنة في بيت النبوة الإبراهيمية لتهيئتها لدور أكبر وتشريفها بمكانة عظمى وتأييدها بمعجزات عظيمة تظل تذكر إلى يوم الدين، كما سيتبين لنا من سرد لقصة حياة هذه السيدة العظيمة،  إلى أن أصبحت جارية لسارة زوجة إبراهيم عليه السلام، ثم أهدتها لزوجها إبراهيم عليه السلام ليتسرى بها، وقيل تزوجها بعد أن حملت، أو ولدت في بيت المقدس[ أوردت قصة استخدامها لسارة من قبل الطاغية حاكم مصر في زمنها، بعد أن رأى من سارة ما يدله على حماية الله لها في سيرة نبي الله إبراهيم عليه السلام].ورجع بعدها من مصر إلى فلسطين، بلدة الخليل الآن نسبة إلى إبراهيم الخليل عليه السلام .

البُشرى بإسماعيل عليه السلام:

قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} (سورة الصافات١٠١ – ١٠٣).
بعد هجرة نبي الله إبراهيم من بابل ووصوله إلى فلسطين، بشره ربه تبارك وتعالى بغلام حليم وهو إسماعيل عليه السلام، (وعندما بشر الله إبراهيم بولده إسحق قال عنه "غلام عليم " وقد وردت مرتين في القرآن في سورة (الحجر ٥٣)، قال تعالى: {قَالٌوا لَا تَوْجَلْ إنَّا نُبَشِرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}، والثانية في سورة (الذاريات ٢٨) قال تعالى: {فَأَوْجَسَ مِنْهُم خِيِفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ}.
 وقد رزق إبراهيم عليه السلام بولده إسماعيل من زوجته هاجر، وله من العمر سبع وثمانون سنة، وهو بكر أولاده عليهم السلام.
وتلقب هاجر بأم العرب، لأنها ولدت إسماعيل عليه السلام وإسماعيل أبو العرب.
هل كانت هجرة إبراهيم عليه السلام بابنه إسماعيل وزوجته هاجر إلى مكة بطلب من سارة لغيرتها منها:
الذي ذكره أهل العلم أن إبراهيم عليه السلام هو الذي خرج مهاجراً بابنه وزوجته هاجر، وإن كان ليبعدها عن غيرة سارة، إلا أنه كان قراره، لا أن سارة زوجه طلبت منه ذلك .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ويقال: إن سارة اشتدت بها الغيرة فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة لذلك " فتح الباري ".
ويدل عليه قول هاجر: " يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها فقالت له: أالله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا " ( رواه البخاري) .فدل جوابه هذا على أن الأمر بالهجرة كان وحي من الله.
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:" لَمَّا كانَ بيْنَ إبْرَاهِيمَ وبيْنَ أَهْلِهِ ما كَانَ، خَرَجَ بإسْمَاعِيلَ وأُمِّ إسْمَاعِيلَ، ومعهُمْ شَنَّةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ، فَيَدِرُّ لَبَنُهَا علَى صَبِيِّهَا، حتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ رَجَعَ إبْرَاهِيمُ إلى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ إسْمَاعِيلَ، حتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ مِن ورَائِهِ: يا إبْرَاهِيمُ إلى مَن تَتْرُكُنَا؟ قالَ: إلى اللَّهِ، قالَتْ: رَضِيتُ باللَّهِ"  (الحديث طويل في البخاري- قصة نبع زمزم)
قال الحافظ ابن حجر: قوله – أي: ابن عباس - : " لما كان بين إبراهيم وبين أهله " يعني : سارة " ما كان " يعني : من غيرة سارة لما ولدت هاجر إسماعيل . " فتح الباري "
هل غارت سارة من هاجر عليهما السلام؟
وروى ابن عساكر في "تاريخه" من طريق الواقدي عن محمد بن صالح عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد عن أبيه قال: " كانت سارة تحت إبراهيم خليل الرحمن، فمكثت معه دهرا لا ترزق منه ولدا، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمة لها قبطية، فولدت لإبراهيم إسماعيل عليهما السلام، فغارت من ذلك سارة، ووجدت في نفسها، وعتيت على هاجر، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أشراف، فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبري يمينك؟  قالت: كيف أصنع؟ قال: ( اثقبي أذنيها واخفضيها)، والخفض هو الختان " .
وهذا إسناد واه، الواقدي متروك متهم، كذبه الشافعي، وأحمد، والنسائي، وغيرهم، وقال إسحاق بن راهويه: هو عندي ممن يضع الحديث "تهذيب التهذيب".
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من أهل العلم .
ولم يجزم أحد ممن ذكرها من أهل العلم، فيما وقفنا عليه، بثبوتها، أو صحة إسنادها .
ولم ينقل في ذلك شيء عن النبي .
والأثر المروي فيها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: في إسناده مقال، كما تقدم، مع أن في الاحتجاج به، في مثل ذلك الأمر السابق: نظرا لا يخفى، فالله أعلم بحقيقة الحال.
لكن نقول إن الفقهاء اتفقوا على أن الغيرة مسامح للنساء فيها، لا عقوبة عليهن فيها لما جُبِلن عليه من ذلك. " الآداب الشرعية للطبري"، وما حصل من غيرة " سارة " من هاجر هو من هذا الباب، فطلب الزوجة من زوجها أ لّا ترى ضرتها أو ألّا تجاورها أمرٌ غير مستنكر، وبالرغم من
إسماعيل أول من فتق لسانه بالعربية المبيَّنة:
جاء في تفسير القرطبي قوله: واختُلف في أوّل من تكلَّم باللسان العربي، فرُوِيَ عن كعب الأحبار أن أولَ من تكلّم بالألسنة كلها آدم عليه السلام، وقد رُوِيَ عن كعب الأحبار من وجه حسن قال: أولُ من تكلَّم بالعربيّة جبريل عليه السلام، وهو الذي ألقاها على لسان نوح ـ عليه السلام ـ وألقاها نوح على لسان ابنه سام. ورواه ثور بن زيد عن خالد بن معدان عن كعب، وروى عن النبي أنّه قال " أوَّلُ مَنْ فُتِقَ لِسَانُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ إسماعيلُ، وَهُوَ ابنُ أربعَ عشرةَ سنةٍ."(صحيح الجامع للألباني- صحيح)، وقد روى أيضا: أن أول من تكلَّم بالعربية يَعْرُب بن قحطان، وقد رُوِيَ غير ذلك.
ولكن الثابت أن أولَ من تكلَّم اللغات كلها من البشر آدم، عليه السلام، والقرآن يشهد له، قال الله تعالى: {وعَلَّم آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها} (البقرة 31)، اللّغات كلها أسماء، فهي داخلة تحته، وما ذكروه من أن إسماعيل هو أول من تكلم بالعربية؛ فيحتمل أن يكون المُراد به أولَ مَن تكلّم العربيّة من ولد إبراهيم عليه السلام هو إسماعيل عليه السلام.
ثانيا: ثبت أن قبيلة جرهم كانت تتكلم العربية قبل إسماعيل عليه السلام، بل منهم تعلم إسماعيل عليه السلام العربية، فقد روى البخاري رحمه الله، عن ابن عباس عن النبي في قصة إسماعيل وهاجر عليهما السلام قال: ( ... فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُحِبُّ الإِنْسَ، فَنَزَلُوا - بعنب جرهم - وَأَرْسَلُوا إِلَى أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الغُلاَمُ وَتَعَلَّمَ العَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ)
فأَوَّلِيَّتُهُ فِي العربية بِحَسَبِ الزِّيَادَةِ فِي الْبَيَانِ؛ لَا الْأَوَّلِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ، فَيَكُونُ بَعْدَ تَعَلُّمِهِ أَصْلَ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ جُرْهُمٍ، أَلْهَمَهُ اللَّهُ الْعَرَبِيَّةَ الْفَصِيحَةَ الْمُبِينَةَ فَنَطَقَ بِهَا " انتهى .فتح الباري .
وقال العيني رحمه الله :الْمَعْنى: أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ من أَوْلَاد إِبْرَاهِيم إِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَن إِبْرَاهِيم وَأَهله كلهم لم يَكُونُوا يَتَكَلَّمُونَ بِالْعَرَبِيَّةِ، فالأولية أَمر نسبي، فبالنسبة إِلَيْهِم : هُوَ أول من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ ، لَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جرهم " انتهى .من عمدة القاري (15/ 258) .

نشأةُ إسماعيل وما كان عليه من قصته مع أبيه إبراهيم
قصة الفداء:

ولما شب إسماعيل عليه السلام ، وصار قادرا على أن يسعى مع والده، ويطيق أن يفعل ما يفعله أبوه من السعي والعمل، رأى نبي الله إبراهيم في المنام أنه يذبح ابنه البكر، والذي رزق به بعد طول صبر، ورؤيا الأنبياء وحيٌ، كما تروي السيدة عائشة رضي الله عنها عن نبينا الكريم ﷺ قالت: " كان أَوَّل ما بُدِئ بِهِ رَسولُ اللهِ ﷺ مِنَ الْوَحْيِ الرُؤْيا الصَّادِقَةَ فِي النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرى رُؤيا إِلاَّ جاءَت كَفَلَقِ الصٌّبْحِ" (رواه مسلم)، فما كان من أبي الأنبياء إلا أن أعلم ابنه بذلك { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ} (الصافات١٠٢)، وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه تنفيذ الأمر الإلاهي بعد أن يأخذ تأييد ورضى ابنه، وليختبر صبر ولده وجلده وعزمه في صغره على طاعة اللّه تعالى وطاعة أبيه، فكان رد إسماعيل : {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ}، علم الصبي بفطرته أن هذا أمر من الله، فأجاب أمر ربه، فقال لأبيه: امض لما أمرك اللّه من ذبحي، {سَتَجِدُني إِنْ شَاءَ اللّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} سأصبر يا أبتِ وأحتسب ذلك عند اللّه عزَّ وجلَّ، وصدق صلوات اللّه وسلامه عليه فيما وعد، وقد مدحه ربه وأثنى عليه وفائه بالوعد: {واذْكُر فِي الْكِتَابِ إسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً}.
وكان من الفتى أيضا من العزم والثبات أن نصح والده أن يضجعه على بطنه، ووجهه إلى الأرض، حتى لا يرى الأب وجه ابنه وهو يذبحه فتأخذه الشفقة، قال تعالى: { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} ﴿١٠٣الصافات﴾ ، وقوله: {وَتلّه للجبين} أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه ، فلما استسلما وانقادا، إبراهيم امتثل أمر اللّه تعالى، وإسماعيل طاعة للّه، وبرا بوالده: فأمسك إبراهيم جبين ابنه يرفعه ليذبحه، وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض: فقال له : "يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفني فيه غيره، فأخلعه حتى تكفني فيه"، فعالجه ليخلعه، فنودي من خلفه: {أَن يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿١٠٤﴾ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ} (الصافات)،  فالتفَتَ إبراهيمُ، فإذا هو بكبشٍ أبيضَ، أقرَنَ، أعيَنَ. " "هذا جزء من حديث رواه الإمام أحمد عن ابن عباس موقوفاً"، فنودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ} باستسلامك لأمر ربك، ويكفيك أن أضجعت ولدك لتذبحه، فحق أن تجازي، { إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} ﴿الصافات١٠٥﴾ أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد، ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى: { وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴿٢﴾ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّـهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّـهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} ﴿٣ الطلاق﴾ قال له سبحانه وتعالى: { إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} ﴿١٠٦الصافات﴾، أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك، مستسلماً لأمر اللّه تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّىٰ} ﴿٣٧ النجم﴾، ولتمام المنة على إبراهيم، وتنفيذا لأمر الله بأن يذبح إبراهيم فداء يصبح سنة من بعده لمن أسلم لله، قال: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فلك منَّة من الله أن تذبح كبشا، وتذبح أمة محمد ﷺ الذي اتبعوا ملتك عبر الزمان كبشاً فدية، أو أضحية يوم عيدهم، قال ابن عباس رضي اللّه عنهما: كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً، وكان عليه عهن ( صوف) أحمر ذكر أن الكبش هو الذي قربه ابن آدم وكان في الجنة حتى فدي به إسماعيل ، وهذا القول منقول عن بعض السلف، قال مجاهد: ذبحه بمنى عند النحر.
من هو المفدي، إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام؟
ذكرت الآثار الواردة أن المفدي هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به. وروي عن ابن عباس أنه قال: المفدى إسماعيل عليه السلام، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود، وقال مجاهد: هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وقد رأيت قرني الكبش في الكعبة.
وقال ابن إسحاق: وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول: إن الذي أمر اللّه تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل وإنا لنجد ذلك في كتاب اللّه تعالى، وذلك أن اللّه تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابنَيْ إبراهيم قال تعالى: { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} ﴿١١٢الصافات﴾، ويقول اللّه تعالى: { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} ﴿٧١ هود﴾، يقول أبشرك بأن يكون لك ابن، ومنه ابن {وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل.

بعثته عليه السلام

أرسل الله تعالى إسماعيل عليه السلام إلى القبائل العربية التي عاش في وسطها وإلى العماليق[ العماليق هم ذرية عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام]، وإلى أهل اليمن فدعاهم إلى الإسلام وعبادة الله وحده، قال الله تعالى: { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا } (سورة النساء 163)، فقد نزل عليه الوحي، وكان يؤمر بتبليغ الناس، ولم يذكر كم آمن من هذه الأقوام بدعوته، والآية السابقة تدل على أن دين الأنبياء كلهم واحد هو الإسلام.
وقد أثنى الله عليه ووصفه بالحلم والصبر، قال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ }(الأنبياء ٨٥) ، وصدق الوعد : قال تعالى: { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا } ( مريم ٥٤)، والمحافظة على الصلاة ، وأنه كان يؤمر بها أهله ليقيهم العذاب، فاستحق رضى الله عنه، قال تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا } ( مريم ٥٥)، مع دعوته عليه السلام إلى عبادة الخالق وحده وهو الله سبحانه وتعالى.
زواج إسماعيل من قبيلة جرهم- وما كان من أمر إبراهيم عليه السلام مع زوجات ابنه:
لما شب إسماعيل عليه السلام في تلك البقعة المباركة من مكة المكرمة وترعرع في قبيلة جرهم وتعلم منهم اللغة العربية وأساليبها، ولما رأوا عظيم سيرته وخلقه زوّجوه من فتاة عربية من قبيلتهم قيل: هي عمارة بنت سعد.
ثم ماتت أمه هاجر عليها السلام في مكة، وجاء إبراهيم عليه السلام مرة إلى مكة من فلسطين يريد أن يتفقد إسماعيل فلم يجد إسماعيل عليه السلام فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم، فقالت: نحن في ضيق وشدة، وشكت إليه، فقال لها إبراهيم: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل عليه السلام كأنه ءانس شيئًا فقال لزوجته: هل جاءكم من أحد؟ فقالت: نعم جاءنا شيخ كذا وكذا وذكرت له صفته، فسألني عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنّا في جهد وشدة، فقال لها إسماعيل: هلى أوصاك بشيء؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول لك: غيّر عتبة بابك، فقال عندئذ إسماعيل لزوجته: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك فالحقي بأهلك، فطلقها عليه السلام.
ثم تزوج عليه السلام من قبيلة جرهم امرأة أخرى قيل: هي السيدة بنت مُضاض الجرهمي، وغاب عنهم نبي الله إبراهيم عليه السلام ما شاء الله، ثم أتاهم بعد مدة فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت له: خرج يبتغي لنا (أي في أمور المعيشة) قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل فقال لها: وما طعامكم؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم؟ قالت: الماء، فدعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقال في دعائه: اللهم بارك لهم في اللحم والماء، ثم قال عليه السلام: "فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، ومُريه يثبت عتبة بابه"، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم أحد؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنّا بخير، فقال لها إسماعيل: أفأوصاك بشيء؟ قالت: نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، فقال لها عند ذلك إسماعيل عليه السلام: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك.
بناء الكعبة:
 ثم غاب إبراهيم عليه السلام عنهما فترة ثم عاد مكة المكرمة ورأى ابنه إسماعيل يبري نبلًا له تحت دوحة قرب ماء زمزم، فلما رءاه إسماعيل قام إليه يشده الحنان والشوق إلى أبيه إبراهيم، وصنعا ما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال إبراهيم لولده إسماعيل: إن الله أمرني بأمر، فأخبره بأن الله أمره أن يبني بيتًا وهو المسجد الحرام الكعبة، ودله على المكان فعند ذلك تعاون إبراهيم مع ولده إسماعيل على بناء الكعبة ورفعا القواعد من البيت، وجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم عليه الصلاة والسلام يبني قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (سورة البقرة ١٢٧)
شيء من فضائله:

ذُكر من سيرته أنه أول من ركب الخيل، وكانت قبل ذلك وحوشًا فآنسها وركبها ودعا لها بدعوته التي كان أعطي فأجابته، وكان إسماعيل عليه السلام قد تكلم بالعربية الفصيحة البليغة التي تعلمها من قبيلة جرهم الذين نزلوا عندهم بمكة بسبب ماء زمزم الطيب المبارك.
أولاده

ولد لنبي الله إسماعيل اثني عشر ولداً كُلّهم من زوجته الثانية واسمها السيدة بنت مضاض بنت عمرو الجرهميّ؛ وقد أنجبت نابت وقيدار وأزبل وميشي ومسمع وماش ودوصا وآزر ويطور ونبش وطيما وقيذما، وورد أنّ له ابنة اسمها قسمة. والله أعلم
الحجر من الكعبة المشرفة:
أولا يجب التنبيه على أن تسمية الحجر بحجر إسماعيل لا أصل له، ولم يكن على عهده، ولم يدفن فيه إسماعيل أو أمه هاجر، كما ورد في بعض الروايات، وأصل الحِجْر أن إبراهيم الخليل حين بنى الكعبة مع ابنه إسماعيل، بناها بناءً كاملا على القواعد التي وضعتها الملائكة، ومنها وداخل فيها ما يسمى الآن حجر إسماعيل، ثم إن جدران الكعبة تهدمت قبل بعثة النبيمن أثر حريق، ولما أرادت قريش تجديد بناءها لم تجد من النفقة الحلال ما يكفي لعمارتها كلها، فبنوها بما معهم من المال الحلال، واقتطعوا من جهة شمال الكعبة التي فيها الميزاب نحو سبعة أذرع، لم يرفعوا قواعدها، ولكن لبيان أنها من الكعبة جعلوا لها سورا دائري قصير، وهو الآن الحجر.
 ثم أنه بعد أن بُعث نبينا محمد ﷺ، رغب أن يُعيد بناء الكعبة كما كان على قواعد إبراهيم، وأن يضم إليها ما اقتطعته قريش منها وجعلته في الحِجْر، لكنه لم يفعل ذلك، لأن الناس كانوا حديثي عهد بجاهلية.
ولما احترقت الكعبة زمن إمارة عبد الله بن الزبير لمكة، هدمها وأعاد بناءها على الصورة التي كان يرغب فيها النبي ، فأدخل فيها ما اقتطع من الحجر. عندما قتل ابن الزبير عام 73 هـ، كتب الحجاج بن يوسف الثقفي إلى الخليفة عبد الملك بن مروان يعلمه بما فعل ابن الزبير في بناء الكعبة، فكتب إليه عبد الملك أن يعيد الحجر كما كان في عهد النبي ﷺ، فنقض الحجاج الكعبة وأعاد بناءها على سابق عهدها. في عهد الدولة العباسية أراد الخليفة المهدي أن يبني الكعبة على ما بناها ابن الزبير، فاستشار الإمام مالك بن أنس فنهاه عن ذلك، وقال: «إني أكره أن يتخذها الخلفاء لعبة، هذا يرى رأي ابن الزبير، وهذا يرى رأي عبد الملك بن مروان، وهذا يرى رأياً آخر»
مكانة الحجر مكانة عظيمة، فهو قطعة من الكعبة، مفتوحة للزائرين غير بقية الكعبة، وله فضل كبير، كبقية الكعبة والصلاة فيه مستحبة لأنه من البيت، وقد صح عن النبي أنه دخل الكعبة عام الفتح وصلى فيها ركعتين، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (صلوا في مصلى الأخيار، واشربوا شراب الأخيار، فقيل ما مصلى الأخيار قال تحت الميزاب، وسئل ما شراب الأخيار، قال ماء زمزم) وعن عائشةَ أنَّها قالَت: (كنتُ أُحبُّ أن أدخلَ البَيتَ فأصلِّيَ فيهِ فأخذَ رسولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدي فأدخلَني في الحِجرِ فقالَ صلِّي في الحِجرِ إذا أردتِ دخولَ البَيتِ فإنَّما هوَ قطعةٌ منَ البَيتِ فإنَّ قَومَكِ اقتَصروا حينَ بنَوا الكعبةَ فأخرجوهُ منَ البَيتِ) ( صحيح ابي داوود )
وفاته إسماعيل عليه السلام:

مات عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة بعد أن أدى رسالة ربه وبلّغ ما أمره الله بتبليغه، ودعا إلى دين الإسلام وإلى عبادة الله الملك الديان،

وفي كثير من الروايات أنه دُفن عليه السلام قرب أمه هاجر في الحجر ، والحق أن هذا لم يثبت، إضافة إلى أنه لا يحوز، فالحجر من الكعبة، والكعبة بيت الله الحرام، لا يحق لأحد أن يدفن فيه، فإن ربه أراده مطهرا من كل ما بشوبه، والشرك أهمها، فوجود قبر لبشر فيه مما نهي عنه، لكونة مدعاة للشرك برب البيت.
أما مكان دفن إسماعيل على التأكيد لم يثبت، وبالنسبة لعمره عند وفاته فقد قيل كان عمره مئة وسبعًا وثلاثين سنة صلوات الله وسلامه عليه.



No comments:

Post a Comment