Thursday 15 October 2020

الأمثال في القرآن الكريم- المثل الخامس والعشرون -سورة الكهف- من تكبر على الله وأنكر نعمته عليه أذله الله.

 

 

 

   

 المثل الخامس والعشرون -سورة الكهف- من تكبر على الله وأنكر نعمته عليه أذله الله.

مثل اليوم يرسم لنا صورتين واقعيتين في المجتمع: كافر يستكبر ويستغني ويستعلي بغناه، ومؤمن قَنُوع بما قسم الله له.ينال كل منهما جزاء عمله. فهذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا.

 

قال تعالى :ـ

(واْضْرِ‌بْ لَهُم مَّثَلًا رَّ‌جُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْ‌عًا ﴿٣٢﴾ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا ۚ وَفَجَّرْ‌نَا خِلَالَهُمَا نَهَرً‌ا ﴿٣٣﴾ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُ‌هُ أَنَا أَكْثَرُ‌ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرً‌ا ﴿٣٤﴾ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَدًا ﴿٣٥﴾ وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّ‌دِدتُّ إِلَىٰ رَ‌بِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرً‌ا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ﴿٣٦﴾ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُ‌هُ أَكَفَرْ‌تَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَ‌ابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَ‌جُلًا.......... إلى قوله تعالى (وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُ‌ونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرً‌ا ﴿٤٣ سورة الكهف


تفسير آيات المثل:

 

قوله تعالى (وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ) أي أطفناهما من جوانبهما بنخل. والحفاف الجانب، وجمعه أحفة؛ ويقال : حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به؛ ومنه (وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) (الزمر  ٧٥)، ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْ‌عًا)  أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع،  قوله تعالى (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ)  أي كل واحدة من الجنتين،  وكل شيء في الجنتين آتي أكله. والأُكل (بضم الهمزة) ثمر النخل والشجر. وكل ما يؤكل فهو أكل؛ ومنه قوله تعالى (  أُكُلُهَا دَائِمٌ) (الرعد ٣٥)، (وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا)، أي لم تنقص شيء، بل كل حبة زرعت أنتجت،  قوله تعالى (وَفَجَّرْ‌نَا خِلَالَهُمَا نَهَرً‌ا)  أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر، (وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ‌)  وكذلك في قوله ( وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) ، جمع ثمرة. قال الجوهري : الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار؛ مثل جبل وجبال. والثمر أيضا المال المثمر؛ يخفف ويثقل. قال ابن عباس :ذهب وفضة وأموال.

 قوله تعالى (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُ‌هُ)  أي يراجعه في الكلام ويجاوبه.ويكون تجاذب بين اثنين، والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب.

(أَنَا أَكْثَرُ‌ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرً‌ا)  النفر : الرهط وهو ما دون العشرة. وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد. أي أكثر خدماً وحشماً وولداً، قال قتادة: تلك واللّه أمنية الفاجر، كثرة المال، وعزة النفر. وقوله: ( وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ)  أي بكفره وتمرده وتجبره وإنكاره المعاد، (قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَـٰذِهِ أَبَدًا) وذلك اغترار منه، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهار المطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف، وذلك لقلة عقله وضعف يقينه باللّه وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها، وكفره بالآخرة، ولهذا قال: ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً) أي كائنة، ( وَلَئِن رُّ‌دِدتُّ إِلَىٰ رَ‌بِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرً‌ا مِّنْهَا مُنقَلَبًا) أي ولئن كان لي معاد ورجعة إلى اللّه ليكوننَّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا، كما قال في الآية الأخرى (وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ) (فصلت ٥٠)

فأجابه صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر باللّه والاغترار: (  أكفرت بالذي خلقك من تراب) ، وهذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه، وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم ،  ودلالته سبحانه عليك ظاهرة جلية، ولهذا قال المؤمن (لَّـٰكِنَّا هُوَ اللَّـهُ رَبِّي) أي لكن لا أقول بمقالتك بل أعترف للّه بالواحدنية والربوبية، (وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) أي بل هو اللّه المعبود وحده لا شريك له

وقوله: (فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ)  أي في الدار الآخرة، (وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ) أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا)  أي عذاباً من السماء، والظاهر أنه مطر عظيم مزعج، يقلع زرعها وأشجارها، ولهذا قال: (فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ، أي بلقعاً تراباً أملس، لا يثبت فيه قدم. وقوله: (أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا) أي غائراً في الأرض وهو ضد النابع الذي يطلع على وجه الأرض.

قول تعالى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ)  بأمواله وبثماره بإرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن اللّه عزّ وجلّ، (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا) ، وقال قتادة: يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها، (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا. وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ) أي عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز ( يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّـهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّـهِ الْحَقِّ ۚ)  أي الموالاة للّه، أي هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلى اللّه وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب.

قصة المثل:

فهذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، ويستبكبر على الله وهو معطيه ما يتكبر به، وبل ويغتر بما عنده، وهو ليس بقادر على حمايته من أمر الله تعالى .

قال ابن كثير: واختلف في اسم هذين الرجلين ، فقيل نزلت في رجلين من بني إسرائيل ، أحدهما مؤمن واسمه يهوذا؛ أو قيل اسمه تمليخا. والآخر كافر واسمه قرطوش. قيل : كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه: اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال : اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال : اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار. ثم أصابته حاجة شديدة فقال : لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال : ما فعل مالك؟ فأخبره قصته فقال : وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له : أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما؛ فقال صاحبه : والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه. فقال الكافر: سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق؛ فقال له المؤمن: يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر. قال: فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه، فتطلع متدفقة سمكا. وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء؛ فقال له: كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا.

قال : فضج الملك الموكل بهما- أي حزن على خيبة أمل المؤمن -  فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال : وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال : وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا.

ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال (إِنِّي كَانَ لِي قَرِ‌ينٌ. يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) (الصافات٥١) الآية؛ فنادى مناد : ـ يا أهل الجنة: { قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ *فَاطَّلَعَ فَرَ‌آهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}، فنزلت (واضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا) ،  فبين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة الصافات، في قوله ( قالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِ‌ينٌ ﴿٥١﴾ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴿٥٢﴾ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَ‌ابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ﴿٥٣﴾ قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ ﴿٥٤﴾ فَاطَّلَعَ فَرَ‌آهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴿٥٥﴾ قَالَ تَاللَّـهِ إِن كِدتَّ لَتُرْ‌دِينِ ﴿٥٦...... إلى قوله تعالى : ( إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿٦٠﴾ لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴿٦١﴾) ( الصافات ).

عبر من المثل:

1-  إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا، وليس الزهد هو البعد عن ما أباح تعالى من المتاع، ولكنه الرغبة إلى الله مع كل عمل، والبعد عن الإسراف في المباح، والأولى من ذلك عن كل حرام. قال ابن تيمية  في تعريف الزهد: هو ترك مالا ينفع في الآخرة وقال: والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة .
وقال بعض العلماء: الزهد في الدنيا قصر الأمل، ليس بأكل الغليظ، ولا لبس البالي.
فمن قصر الأمل: إنسان يخطط لما يعمل لعشرين سنة قادمة، وفي الوقت نفسه يفكر بيوم يوضع نعيه على الجدران !.

2-  وفي الآيات فن من فنون الهندسة الزراعية في قوله تعالى: { جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [الكهف: 32]
فقد علَّمنا الله تعالى أن نجعل حول الحدائق والبساتين سُوراً من النخيل ليكون سياجاً يصدُّ الهواء والعواصف، وذكر سبحانه النخل والعنب وهي من الفاكهة قبل الزرع الذي منه القوت الضروري، كما ذكر من قبل الأساور من ذهب، وهي للزينة قبل الثياب، وهي من الضروريات.وهو ذكر للخاص قبل العام ، وذلك للترغيب والتحبيب والتنبيه .[ من تفسير الشيخ الشعراوي رحمه الله ]

3- ومن قوله تعالى ( ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه) ، وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول اللّه ﷺ قال له: (يا أبا هُرَيرةَ ألَا أدُلُّكَ على كَنزٍ مِن كُنوزِ الجنَّةِ؟ لا حَولَ ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ، ولا مَلجَأَ مِنَ اللهِ إلَّا إليهِ). وقال أبو هريرة، قال لي رسول اللّه ﷺ: (يا أبا هُرَيرةَ، هل تَدري ما حَقُّ اللهِ على العِبادِ، وما حَقُّ العِبادِ على اللهِ؟ قال: قلتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: فإنَّ حَقَّ اللهِ على العِبادِ أنْ يَعبُدوه، ولا يُشرِكوا به شَيئًا، وإنَّ حَقَّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعذِّبَ مَن فعَلَ ذلك منهم. قال أبو بلخ وأحسب أنه قال: (فإن اللّه يقول أسلم عبدي واستسلم)  (أخرجه الإمام أحمد في المسند – إسناده صحيح، وصححه الوادعي )

 

اللهم اجعلنا ممن أسلم وجهه لك وقال أنني من المسلمين، وتقبل منا يا رب العالمين

 

No comments:

Post a Comment