Friday 3 December 2021

تفسير سورة المسد- من جنس عمله وزوجته يعاقب

 
  

التسمية :

تُسَمَّى ‏سُورَةُ تبَّت لبدايتها، وسورة المسد لنهايتها.

التعريف بالسورة:

- سورة مكية – من المفصل – من ج (٣٠) الحزب (٦٠) – عدد آياتها خمس آيات – نزلت بعد سورة الفاتحة- ترتيبها بالمصحف الحادية عشرة بعد المائة – بدأت بالدعاء على أبي لهب: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)- لم يذكر لفظ الجلالة فيها .

محور مواضيع السورة :

هذه السورة كلها في هلاك أبي لهب الذي هو عم رسول الله ﷺ، وهو عدو الله ورسوله ﷺ، وفي نزول السورة في حياة أبي لهب يظهر الإعجاز القرآني، حيث يؤكد عل هلاك أبي لهب، وأنه وزوجته في النار خالين فيها يذوقان من العذاب ما وصفة ربنا هنا واختصه به وزوجته، وهذا اخبار بأنه لن يُسلم أبدًا ولا زوجته، وقد وصف من عذاب زوجته ما لم يذكره لغيرها.( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ)، وذلك جزاءً لهما لشناعة فعلهما وإيذائهما للمصطفى ﷺ.

سبب نزول السورة :

أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : صَعِدَ النبيُّ ﷺ الصَّفَا ذَاتَ يَومٍ، فَقالَ: يا صَبَاحَاهْ، فَاجْتَمعتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ، قالوا: ما لَكَ؟ قالَ: أرَأَيْتُمْ لو أخْبَرْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ يُصَبِّحُكُمْ أوْ يُمَسِّيكُمْ، أما كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قالوا: بَلَى، قالَ: فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقالَ أبو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، ألِهذا جَمَعْتَنَا؟ فأنْزَلَ اللَّهُ: {تَبَّتْ يَدَا أبِي لَهَبٍ} إلى آخرها.

تفسير السورة:

أبو لهب هو أحد أعمام رسول الله ﷺ واسمه: عبد العُزّى بن عبد المطلب، وكنيته أبو عُتبة. وإنما سمي « أبا لهب » لإشراق وجهه، وكان كثير الأذية لرسول الله ﷺ والبغضة له، والازدراء به، والتنقص له ولدينه.

قال الإمام أحمد:عن ربيعة بن عباد، وكان جاهليًا فأسلم - قال: رأيتُ رسولَ اللَّهِ ﷺ مرَّ في سوقِ ذي المَجازِ وعليهِ حلَّةٌ حمراءُ وَهوَ يقولُ : «يا أيُّها النَّاسُ قولوا لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ تُفلِحوا»،  ورجلٌ يتَّبعُهُ يرميهِ بالحجارةِ قَد أدمَى كَعبَيهِ وعُرقوبَيهِ وَهوَ يقولُ: يا أيُّها النَّاسُ لا تُطيعوهُ فإنَّهُ كذَّابٌ،  فقُلتُ مَن هذا قالوا : غُلامُ بَني عبدِ المطَّلبِ، فقُلتُ مَن هذا الَّذي يتَّبعُهُ يرميهِ بالحجارةِ قالوا هذا عبدُ العُزَّى أبو لهبٍ " (صحيح مسند الإمام أحمد)

فذكره - قال أبو الزناد:قلت لربيعة:كنت يومئذ صغيرًا؟ قال:لا والله إني يومئذ لأعقل أني أزفر القربة. تفرد به أحمد .

وقال محمد بن إسحاق:عن ربيعة بن عباد الديلي يقول: إني لمع أبي رجل شاب، أنظر إلى رسول الله ﷺ يتبع القبائل - ووراءه رجل أحول وضيء، ذو جُمَّة - يَقِفُ رسول الله ﷺ على القبيلة فيقول: « يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفِّذَ عن الله ما بعثني به » . وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه: يا بني فلان، هذا يريد منكم أن تسلُخوا اللات والعزى، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أُقَيْش، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه. فقلت لأبي: من هذا؟ قال:عمه أبو لهب.  (رواه أحمد أيضا، والطبراني بهذا اللفظ ).

فقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: خسرت وخابت، وضل عمله وسعيه، {وَتَبَّ} أي: وقد تب تحقق خسارته وهلاكه، وقد أنزلها الله تعالى ردا على أبي لهب، فكان قول أبي لهب ( تبا لك ) دعاء عليه، ومن الله {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} اخبارا عنه بالخسران الخيبة، بصيغة الدعاء.

وقوله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} قال ابن عباس وغيره: {وَمَا كَسَبَ} يعني: ولده. وَرُوي عن عائشة، ومجاهد، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، مثله.

وذكر عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ لما دعا قومه إلى الإيمان، قال أبو لهب: إذا كان ما يقول ابن أخي حقا، فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي، فأنـزل الله: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ}

وقوله: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} أي: ذات شرر ولهيب وإحراق شديد.

{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}  وكانت زوجته من سادات نساء قريش، وهي: أم جميل، واسمها أروى بنتُ حرب بن أمية، وهي أخت أبي سفيان. وكانت عونًا لزوجها على كفره وجحوده وعناده؛ فلهذا تكون يوم القيامة شريكة له في عذابه في نار جهنم. ولهذا قال: ( حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) يعني: تحمل الحطب فتلقي على زوجها، ليزداد على ما هو فيه، وهي مُهَيَّأة لذلك مستعدة له.

( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) قال مجاهد، وعروة: من مَسد النار.

وعن مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والثوري: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} كانت تمشي بالنميمة. [واختاره ابن جرير ] .

وقال العوفي عن ابن عباس: كانت تضع الشوك والحطب في طريق رسول الله ﷺ، أذية له، فكانت عاقبتها من جنس عملها. اختاره ابن جرير.

قال ابن جرير: وقيل: كانت تعيِّر النبي ﷺ بالفقر، وكانت تحتطب، فعيرت بذلك.

كذا حكاه، ولم يعزه إلى أحد. والصحيح الأول، والله أعلم.

قال سعيد بن المسيب:كانت لها قلادة فاخرة فقالت: لأنفقنها في عداوة محمد، يعني: فأعقبها الله بها حبلا في جيدها من مسد النار.

المسد في اللغة:

المسد: حبل من ليف او خوص يُتخذ من النخيل أو غيره و يفتل. أو سلسلة من النار.

المسد: ليف يتخذ من جريد النخل، أي: من غصنه فيمسد، أي: يفتل. قال تعالى: ﴿حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ﴾  وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها، ومسدت الحبل أمسدُهُ مَسْدًا:إذا أجْدتُ فَتله .

وامرأة ممسودة: مطوية الخلق كالحبل الممسود.

وقال ابن جرير: عن الشعبي قال: المسد: الليف.

وقال عروة بن الزبير:المسد:سلسلة أو قلادة من نار ذرعها سبعون ذراعًا.

وقال مجاهد: ( فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) أي:طوق من حديد، ألا ترى أن العرب يسمون البَكْرة مَسَدًا؟

وقال ابن أبي حاتم: عن أسماء بنت أبي بكر قالت:لما نـزلت: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب، ولها ولولة، وفي يدها فهر، وهي تقول:

مُذَممًا أبَينَا ودينَه قَلَينا وَأمْرَه عَصَينا

ورسول الله ﷺ جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله، قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك. فقال رسول الله ﷺ: « إنها لن تراني » . وقرأ قرآنا اعتصم به، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } (الإسراء٤٥) فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله ﷺ فقالت: يا أبا بكر، إني أخبرت أن صاحبك هجاني؟ قال:لا ورب هذا البيت ما هجاك. (يقصد: أن رسول الله ﷺ لم يقل الشعر  في هجائها)

فولت وهي تقول:قد علمت قريش أني ابنة سيدها. قال: وقال الوليد في حديثه:  فعثَرَت أم جميل في مِرْطها وهي تطوف بالبيت، فقالت: تعس مُذَمَّم.

 فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب: إني لحصانُ فما أكلَّم، وثَقَافُ فما أعلَّم، وكلنا من بني العم، وقريش بعد أعلم .

تفسير قولها: فردت عليها أم حكيم ، بأن بدأت بمدح نفسها أنها  عقلها راجح ، وتعلم الأمور فلا تحتاج أن تعلَّم، فهي ثقاف،  وقولها: "وكلتانا من بني العم وقريش بعد أعلم"، أي أننا قريبتان ونعلم أمر قريش، وقريش تعلم من هو سيدها. أي كأنها ترد على أم جميل وتقول لها أن محمدًا ﷺ هو سيد قريش لا أنتِ.

وقال الحافظ أبو بكر البزار:بسنده  عن ابن عباس قال:لما نـزلت: ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ) جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله ﷺ جالس، ومعه أبو بكر. فقال له أبو بكر: لو تَنَحَّيت لا تُؤذيك بشيء. فقال رسول الله ﷺ: « إنه سَيُحال بيني وبينها » . فأقبلت حتى وقَفَت على أبي بكرٍ، فقالت: يا أبا بكرٍ هجانا صاحِبُك، فقال أبو بكرٍ: لا ورَبِّ هذه البِنيةِ، ما ينطق بالشِّعرِ ولا يتفَوَّه به،  فقالت: إنك لمصدق، فلما ولت،  قال أبو بكر رضي الله عنه: ما رأتك؟ قال: « لا ما زال ملك يسترني حتى ولت» ( قال البزار:لا نعلمه يُروَى بأحسنَ من هذا الإسناد)

وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} أي:في عنقها حبل في نار جهنم  تُرفَع به إلى شفيرها، ثم يرمى بها إلى أسفلها، ثم كذلك دائما. مثل بحبل الدلو.

الإعجاز في السورة:

قال العلماء:وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة، فإنه منذ نـزل قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ*وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ*فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان، لم يقيض لهما أن يؤمنا، ولا واحد منهما لا ظاهرًا ولا باطنًا، لا مسرًا ولا معلنًا، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة على النبوة الظاهرة.

من الدروس المستفادة

 إنَّ المال والولد ولا غيرهما من متاع الدنيا، لا يدفعان عذاب الله تعالى وسخطه.

وكذلك فإن القرابة لا تُغني عن الشرك أو الكفر شيئًا، فأبو لهب عم رسول الله ﷺ وعلى الرغم من ذلك فإنَّ مصيره النار بكفره وطغيانه

[ آخر تفسير « تبت » ولله الحمد والمنة ]

 

No comments:

Post a Comment