Friday, 12 March 2021

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات سورة البروج أخذه أليم شديد وهو سبحانه الغفور الودود

   

 

تفسير سورة البروج؛ إن أخذه أليم شديد، وهو سبحانه الغفور الودود

 

التعريف بالسورة :

 

-سورة مكية .-من المفصل- عدد آياتها 22 آية – ترتيبها في المصحف الخامسة والثمانون –  نزلت بعد سورة الشمس  - بدأت بأسلوب القسم {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴿١﴾ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ ﴿٢﴾ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴿٣﴾، إلى قوله تعالى:{وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ﴿٧﴾}

 – وذكر فيها قصة أصحاب الأخدود- تنتهي آياتها بحروف القلقلة ( قطب جد) باتثناء آيتان ختمت ( ر  (الكبير) -  ظ ( محفوظ).

 

محور مواضيع السورة :

مكية تعالج أصول العقيدة الإسلامية يدور محورها حول حادثة (أصحاب الأخدود) وهي قصة تبين ثبات العقيدة في قلب المؤمن التي تؤدي للتضحية بالنفس في سبيلها.

1- ابتدأت بالقسم بالسماء ذات النجوم الهائلة وبالرسل والخلائق وبيوم القيامة على هلاك كل المجرمين ،من قوله تعالى:  {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ {1} وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ {2}  إلى قوله تعالى  {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ ﴿٧﴾

2توعدت وأنذرت الكفرة الفجرة الذين فعلوا ذلك بالمؤمنين ، ومن فعل فعلتهم من سيأتي من بعدهم ؛ هؤلاء مصيرهم لهم نار جهنم، وبالمقابل مصير المتقين في جنات النعيم، (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا... ﴿١٠﴾ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ.... ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ ﴿١١﴾

 3- بيّنت  قدرة الله على الانتقام من أعدائه الذين فتنوا عباده ، قال تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴿١٢﴾ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ ﴿١٣﴾ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ﴿١٤﴾ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ ﴿١٥﴾ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴿١٦﴾

4- ثم عقبت بقصة الطاغية فرعون وهلاكه مع قومه، وذلك ليأخذ أهل مكة من المشركين العظة والاعتبار، قال تعالى:  { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ ﴿١٧﴾ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴿١٨﴾ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ ﴿١٩﴾ وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ ﴿٢٠﴾

 5- ختمت بتمجيد القرآن وتعظيمه، وأنه كتاب مكنون محفوظ في اللوح المحفوظ عند عرش الكريم، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴿٢١﴾ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴿٢٢﴾

التفسير

يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام، قال ابن عباس: البروج النجوم، وقال يحيى بن رافع: هي القصور؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ( النساء ٧٨ )، فالمقصود القصور التي في السماء.

واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر، تسير الشمس في كل واحد منها شهراً، فذلك اثنا عشر برجاً وهي : الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس والجدي، والدلو، والحوت.

ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة ويستسر ليلتين، فذلك ثمانية وعشرون يوما، ثم يستسر ليلتين؛

وقوله تعالى: { واليوم الموعود وشاهد ومشهود} اختلف المفسرون في ذلك فروي عن أبي هريرة مرفوعاً { واليوم الموعود} يوم القيامة، { شاهد} يوم الجمعة، { مشهود} يوم عرفة (أخرجه ابن أبي حاتم، والأشبه أنه موقوف على أبي هريرة، وصححه الألباني).

وعن سعيد بن المسيب أنه قال، قال رسول اللّه ﷺ: "إنَّ سيدَ الأيامِ يومُ الجمُعَةِ وهو الشاهِدُ والمشهودُ يومُ عَرَفَةَ" (هذا من مراسيل سعيد بن المسيب). ورى ابن جرير عن ابن عباس قال: الشاهد هو محمد صلى اللّه عليه وسلم، والمشهود يوم القيامة. ثم قرأ: { ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} ""أخرجه ابن جرير"". وسأل رجل الحسن بن علي عن { وشاهد ومشهود} فقال: سألت أحداً قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عمرو وابن الزبير فقالا: يوم الذبح ويوم الجمعة، فقال: لا، ولكن الشاهد محمد ﷺ ، ثم قرأ: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَـٰؤُلَاءِ شَهِيدًا} (النساء ٤١})، قال: والمشهود يوم القيامة، ثم قرأ: { ذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَٰلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} (هود١٠٣) (أخرجه ابن جرير أيضاً)

وهكذا قال الحسن البصري، وقال مجاهد والضحّاك: الشاهد ابن آدم، والمشهود يوم القيامة؛ وعن عكرمة: الشاهد محمد ﷺ ، والمشهود يوم الجمعة،

 قال ابن جرير: وقال آخرون: { المشهود} يوم الجمعة، لحديث أبي الدرداء قال، قال رسول اللّه ﷺ: "أكثروا من الصلاةِ عليَّ يومَ الجمعةِ فإنه مشهودٌ تشهدُه الملائكةُ وإنَّ أحدًا لن يصليَ عليَّ إلا عُرضت عليَّ صلاتُه حتى يفرغَ منها قال: قلتُ: وبعد الموتِ؟ قال: إنَّ اللهَ حرَّم على الأرضِ أنْ تأكلَ أجسادَ الأنبياءِ." (أخرجه ابن جرير عن أبي الدرداء، وإسناده جيد)، وقال الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة.

وقوله تعالى: { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} أي لعن أصحاب الأُخدود، قال ابن عباس : كل شيء في القرآن {قُتِلَ} فهو لعن.

وهذا جواب القسم في قول الفراء - واللام فيه مضمرة؛ كقوله {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} (الشمس  ١) ثم قال {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا}  (لشمس ٩): أي لقد أفلح. وقيل : فيه تقديم وتأخير؛ أي قتل أصحاب الأخدود والسماء ذات البروج.

الأخدود: وجمعه أخاديد وهي الحفر المستطيلة في الأرض.

 وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين باللّه عزَّ وجلَّ فقهروهم، وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا عليهم، فحفروا لهم في الأرض أُخدوداً، وأججوا فيه ناراً، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها، ولهذا قال اللّه تعالى: { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } أي مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين. قال اللّه تعالى: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي وما كان لهم ذنب إلا إيمانهم باللّه { العزيز} الذي لا يضام من لاذ بجنابه، لا يعجزه شيء، والشديد في انتقامه من أعدائه، والذي عز كل شيء فقهره وغلبه، { الْحَمِيدِ}  في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، ثم قال تعالى: { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، {وَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض، ولا تخفى عليه خافية.

وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ فعن علي أنهم أهل فارس، حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم فامتنع عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أُخدود فقذف فيه من أنكر عليه منهم، واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.

وفي السنة الصحيحة يروى رسول الله خبر يركن إليه في لبيان قصة أصحاب الأخدود: فقد روى الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب الرومي أن رسول اللّه ﷺ قال: (كانَ مَلِكٌ فِيمَن كانَ قَبْلَكُمْ، وَكانَ له سَاحِرٌ، فَلَمَّا كَبِرَ، قالَ لِلْمَلِكِ: إنِّي قدْ كَبِرْتُ، فَابْعَثْ إلَيَّ غُلَامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْرَ، فَبَعَثَ إلَيْهِ غُلَامًا يُعَلِّمُهُ، فَكانَ في طَرِيقِهِ، إذَا سَلَكَ رَاهِبٌ فَقَعَدَ إلَيْهِ وَسَمِعَ كَلَامَهُ، فأعْجَبَهُ فَكانَ إذَا أَتَى السَّاحِرَ مَرَّ بالرَّاهِبِ وَقَعَدَ إلَيْهِ، فَإِذَا أَتَى السَّاحِرَ ضَرَبَهُ، فَشَكَا ذلكَ إلى الرَّاهِبِ، فَقالَ: إذَا خَشِيتَ السَّاحِرَ، فَقُلْ: حَبَسَنِي أَهْلِي، وإذَا خَشِيتَ أَهْلَكَ فَقُلْ: حَبَسَنِي السَّاحِرُ، فَبيْنَما هو كَذلكَ إذْ أَتَى علَى دَابَّةٍ عَظِيمَةٍ قدْ حَبَسَتِ النَّاسَ، فَقالَ: اليومَ أَعْلَمُ آلسَّاحِرُ أَفْضَلُ أَمِ الرَّاهِبُ أَفْضَلُ؟ فأخَذَ حَجَرًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ إنْ كانَ أَمْرُ الرَّاهِبِ أَحَبَّ إلَيْكَ مِن أَمْرِ السَّاحِرِ فَاقْتُلْ هذِه الدَّابَّةَ، حتَّى يَمْضِيَ النَّاسُ، فَرَمَاهَا فَقَتَلَهَا، وَمَضَى النَّاسُ، فأتَى الرَّاهِبَ فأخْبَرَهُ، فَقالَ له الرَّاهِبُ: أَيْ بُنَيَّ أَنْتَ اليومَ أَفْضَلُ مِنِّي، قدْ بَلَغَ مِن أَمْرِكَ ما أَرَى، وإنَّكَ سَتُبْتَلَى، فَإِنِ ابْتُلِيتَ فلا تَدُلَّ عَلَيَّ، وَكانَ الغُلَامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ، وَيُدَاوِي النَّاسَ مِن سَائِرِ الأدْوَاءِ، فَسَمِعَ جَلِيسٌ لِلْمَلِكِ كانَ قدْ عَمِيَ، فأتَاهُ بهَدَايَا كَثِيرَةٍ، فَقالَ: ما هَاهُنَا لكَ أَجْمَعُ، إنْ أَنْتَ شَفَيْتَنِي، فَقالَ: إنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا إنَّما يَشْفِي اللَّهُ، فإنْ أَنْتَ آمَنْتَ باللَّهِ دَعَوْتُ اللَّهَ فَشَفَاكَ، فَآمَنَ باللَّهِ فَشَفَاهُ اللَّهُ، فأتَى المَلِكَ فَجَلَسَ إلَيْهِ كما كانَ يَجْلِسُ، فَقالَ له المَلِكُ: مَن رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قالَ: رَبِّي، قالَ: وَلَكَ رَبٌّ غيرِي؟ قالَ: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حتَّى دَلَّ علَى الغُلَامِ، فَجِيءَ بالغُلَامِ، فَقالَ له المَلِكُ: أَيْ بُنَيَّ قدْ بَلَغَ مِن سِحْرِكَ ما تُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ، وَتَفْعَلُ وَتَفْعَلُ، فَقالَ: إنِّي لا أَشْفِي أَحَدًا، إنَّما يَشْفِي اللَّهُ، فأخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حتَّى دَلَّ علَى الرَّاهِبِ، فَجِيءَ بالرَّاهِبِ، فقِيلَ له: ارْجِعْ عن دِينِكَ، فأبَى، فَدَعَا بالمِئْشَارِ، فَوَضَعَ المِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ حتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بجَلِيسِ المَلِكِ فقِيلَ له: ارْجِعْ عن دِينِكَ، فأبَى فَوَضَعَ المِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ به حتَّى وَقَعَ شِقَّاهُ، ثُمَّ جِيءَ بالغُلَامِ فقِيلَ له ارْجِعْ عن دِينِكَ، فأبَى فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِن أَصْحَابِهِ، فَقالَ: اذْهَبُوا به إلى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا، فَاصْعَدُوا به الجَبَلَ، فَإِذَا بَلَغْتُمْ ذُرْوَتَهُ، فإنْ رَجَعَ عن دِينِهِ، وإلَّا فَاطْرَحُوهُ، فَذَهَبُوا به فَصَعِدُوا به الجَبَلَ، فَقالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بما شِئْتَ، فَرَجَفَ بهِمِ الجَبَلُ فَسَقَطُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إلى المَلِكِ، فَقالَ له المَلِكُ: ما فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِن أَصْحَابِهِ، فَقالَ: اذْهَبُوا به فَاحْمِلُوهُ في قُرْقُورٍ، فَتَوَسَّطُوا به البَحْرَ، فإنْ رَجَعَ عن دِينِهِ وإلَّا فَاقْذِفُوهُ، فَذَهَبُوا به، فَقالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِيهِمْ بما شِئْتَ، فَانْكَفَأَتْ بهِمِ السَّفِينَةُ فَغَرِقُوا، وَجَاءَ يَمْشِي إلى المَلِكِ، فَقالَ له المَلِكُ: ما فَعَلَ أَصْحَابُكَ؟ قالَ: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فَقالَ لِلْمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بقَاتِلِي حتَّى تَفْعَلَ ما آمُرُكَ به، قالَ: وَما هُوَ؟ قالَ: تَجْمَعُ النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَتَصْلُبُنِي علَى جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِن كِنَانَتِي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: باسْمِ اللهِ رَبِّ الغُلَامِ، ثُمَّ ارْمِنِي، فإنَّكَ إذَا فَعَلْتَ ذلكَ قَتَلْتَنِي، فَجَمع النَّاسَ في صَعِيدٍ وَاحِدٍ، وَصَلَبَهُ علَى جِذْعٍ، ثُمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِن كِنَانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبْدِ القَوْسِ، ثُمَّ قالَ: باسْمِ اللهِ، رَبِّ الغُلَامِ، ثُمَّ رَمَاهُ فَوَقَعَ السَّهْمُ في صُدْغِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِعِ السَّهْمِ فَمَاتَ، فَقالَ النَّاسُ: آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ، آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ، آمَنَّا برَبِّ الغُلَامِ، فَأُتِيَ المَلِكُ فقِيلَ له: أَرَأَيْتَ ما كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قدْ وَاللَّهِ نَزَلَ بكَ حَذَرُكَ، قدْ آمَنَ النَّاسُ، فأمَرَ بالأُخْدُودِ في أَفْوَاهِ السِّكَكِ، فَخُدَّتْ وَأَضْرَمَ النِّيرَانَ، وَقالَ: مَن لَمْ يَرْجِعْ عن دِينِهِ فأحْمُوهُ فِيهَا، أَوْ قيلَ له: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حتَّى جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمعهَا صَبِيٌّ لَهَا فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقالَ لَهَا الغُلَامُ: يا أُمَّهْ، اصْبِرِي فإنَّكِ علَى الحَقِّ." (رواه الإمام أحمد ومسلم واللفظ له)

وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي حرقوا المؤمنين، قاله ابن عباس ومجاهد.

وفي اللغة:

العرب تقول : فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ودينار مفتون.

 ويسمى الصائغ الفتان، وكذلك الشيطان، وورق فتين، أي فضة محترقة.

{ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} أي لم يقلعوا عن قبيح فعلهم، ويندموا على ما أسلفوا، مع ما أظهره الله لهذا الملك الجبار الظالم وقومه من الآيات والبينات على يد الغلام.{ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} وذلك أن الجزاء من جنس العمل، قال الحسن البصري: انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.

عن ابن عباس. وقيل {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} أي ولهم في الآخرة عذاب زائد على عذاب كفرهم بما أحرقوا المؤمنين. وقيل: لهم عذاب، وعذاب جهنم الحريق.

 والحريق : اسم من أسماء جهنم؛ كالسعير. والنار دركات وأنواع ولها أسماء.

 وكأنهم يعذبون بالزمهرير في جهنم، ثم يعذبون بعذاب الحريق. فالأول عذاب ببردها، والثاني عذاب بحرها. قوله تعالى { إن الذين آمنوا} أي هؤلاء الذين كانوا آمنوا بالله؛ أي صدقوا به وبرسله. { وعملوا الصالحات لهم جنات} أي بساتين. { تجري من تحتها الأنهار} من ماء غير آسن، ومن لبن لم يتغير طعمه، ومن خمر لذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى. { ذلك الفوز الكبير} أي العظيم، الذي لا فوز يشبهه.

قوله تعالى { إن بطش ربك لشديد} أي أخذه الجبابرة والظلمة، كقوله جل ثناؤه { وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ۚ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } (هود ١٠٢).

قال المبرد { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } جواب القسم. المعنى : والسماء ذات البروج إن بطش ربك، وما بينهما معترض مؤكد للقسم. وكذلك قال الترمذي الحكيم في نوادر الأصول: إن القسم واقع عما ذكر صفته بالشدة. وقوله: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} يعني الخلق، يخلقهم ابتداء، ثم يعيدهم عند البعث، { وَهُوَ الْغَفُورُ } أي الستور لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها. {الْوَدُودُ} أي المحب لأوليائه. على وزن فعول بصيغة المبالغة، ومعناه: الذي يودُّ عباده الصالحين ويحبهم. وروى الضحاك عن ابن عباس قال : كما يود أحدكم أخاه بالبشرى والمحبة.

وقيل : الودود بمعنى المودود، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون ويحبونه.

 قوله تعالى { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} ، قرأ الكوفيون إلا عاصما { الْمَجِيدِ} بالخفض نعتا للعرش. وقيل: لـ { رَبِّكَ } ؛ أي إن بطش ربك المجيد لَشَدِيدٌ، ولم يمتنع الفصل، لأنه جار مجرى الصفة في التشديد.

الباقون  ومنهم عاصم عن حفص بالرفع نعتا لـ { ذو} وهو الله تعالى؛ لأن المجد هو النهاية في الكرم والفضل، وهو كثير المجد والتمجيد، المتضمن لكثرة صفات كماله وسعتها، وعدم إحصاء الخلق لها وسعة أفعاله، وكثرة خيره ودوامه والله سبحانه المنعوت بذلك، وإن كان قد وصف عرشه بالكريم في آخر [المؤمنون] .

ومعنى ذو العرش: أي ذو الملك والسلطان؛ كما يقال : فلان على سرير ملكه؛ وإن لم يكن على سرير. ويقال : ثل عرشه : أي ذهب سلطانه.

{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ}  أي لا يمتنع عليه شيء يريده. أي مهما أراد فعله،ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره وعدله ، وإنما قيل {فَعَّالٌ} لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.

وهذا تقرير لقوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} أي إذا أخذ الظالم أخذه أخذاً أليماً شديداً أخذ عزيز مقتدر،

روي عن أبي بكر الصدّيق أنه قيل له وهو في مرض الموت: هل نظر إليك الطبيب، قال: نعم، قالوا: فما قال لك؟ قال لي: إني فعال لما أريد.

 وقوله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } أي هل بلغك ما أحل اللّه بهم من البأس، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟ عن عمرو بن ميمون قال: مرَّ النبي ﷺ على امرأة تقرأ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} فقام يستمع فقال: (نعم قد جاءني) ""أخرجه ابن أبي حاتم"

فائدة: لماذا جمع الله فرعون وثمود:  ما أوجه التشابه بينهما؟

قيل :لأان أثارهم ما زالت موجودة ، بخلاف غيرهم من الأمم لا يرى لهم مكان أو آثار.

كما إن فرعون علا في  الأرض وتجبر ، وأذل بني إسرائيل وقتل  أبناءهم، وثمود علو في الأرض واستكبروا بما أعطاهم الله تعالى من قوة البدن، وهيأ لهم من السهول والجبال يعلون بنيانهم فيها.

ويربط بينهم أنهم جاءتهم معجزات من أنبياءهم ما يؤمن عليه البشر، ولكنهم لم يؤمنوا، بل أخذوا يستهزئون من النبي، ففرعون استهزأ بالمعجزات وهى تسع ايات ولم يذعن لها، وثمود أعطيت لهم آية واضحة  كانوا طلبوها وصفا، فرأوها تخرج من الجبل وهم ينظرون، فكذبوا، بل وخططوا لقتل نبيهم، كما حاول فرعون قتل موسى، ومن معه.

 وقوله تعالى: { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} أي هم في شك وريب وكفر وعناد، {وَاللَّـهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} أي هو قادر عليهم قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه

وتنتهي السورة بتمجيد وتعظيم القرآن الكريم:  {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ} أي عظيم كريم، {فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} أي هو في الملأ الأعلى، محفوظ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل،

 وقال الحسن البصري: إن هذا القرآن المجيد عند اللّه في لوح محفوظ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه، وقد روى البغوي عن ابن عباس قال: (إنَّ في صدرِ اللوحِ المحفوظِ ، لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه ، دينُه الإسلامُ ، ومحمدٌ عبدُه ورسولُه ، فمن آمن باللهِ ، وصدَّق بوعدِه ، واتَّبَعَ رُسُلَه ، أدخلَه الجنةَ) (إسناده ضعيف). وعن ابن عباس أن رسول اللّه ﷺ قال: (إنَّ اللهَ خلقَ لوحًا محفوظًا منْ درةٍ بيضاءَ صفحاتُها منْ ياقوتةٍ حمراءَ قلَمُه نورٌ وكتابُه نورٌ، للهِ في كلِ يومٍ ستونَ وثلاثَ مائةِ لحظةٍ يخلقُ ويرزقُ ويميتُ ويُحيي ويعزُّ ويذلُّ ويفعلُ ما يشاءُ) (أخرجه الطبراني، وحسنه الألباني)

تم بحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات.


1 comment: