Monday 24 October 2022

السيرة النبوية الشريفة -حادث الإفك - لا تحسبوه شر لكم بل هو خير

  
 
 
 

 

 

2- الحادثة الثالثة : قول المنافقين بالإفك :

 

وحديث ذلك أن النبي ﷺ نزل في عودته من تلك الغزوة منزلاً حين دنا من المدينة ، ثم آذن بالرحيل ليلاً ، وكانت معه عائشة رضى الله عنها، فخرجت لحاجتها، فلما رجعت التمست  صدرها فرأت أنها فقدت عقدها، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه حتى وجدته، وارتحل الجيش، وحملوا هودجها على بعيرها ظناً منهم أنها فيه، ولم ينكروا خفة الهودج لكونهم جماعة ، ولكونها خفيفة، ورجعت عائشة إلى منازلهم فلم تجد أحداً، فقعدت هناك على أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها إلى هذا المكان، فغلبت عيناها حتى نامت .

وكان أحد الصحابة –وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه- قد بات من وراء الجيش، وكان كثير النوم فلم يستيقظ إلا مؤخراً، فسلك سبيل الجيش، فلما رأى سواد إنسان نائم ، فلما قرب منه عرف أنها عائشة، لأنه كان رآها قبل الحجاب، فقال: أنا لله وإنا إليه راجعون ، زوجة رسول الله ﷺ؟ لم يقل كلمة غير ذلك، واستيقظت عائشة رضي الله عنها بسماع صوته ، فخمرت وجهها بجلبابها ، وقرب صفوان راحلته، وأناخها فركبت ، وأمسك هو زمام الناقة يمشي أمامها ، حتى وصل إلى الجيش، وهم نازلون في نحر الظهيرة .

ولما رأى ذلك عدو الله ابن أبي وجد متنفساً من كرب النفاق والحقد ، فاتهمها بالفجور إفكاً وزوراً ، واخذ يستحكي ذلك، ويستوشيه، ويجمعه ويفرقه ويشيعه ويذيعه، وكان أصحابه يتقربون به إليه ، فلما قدموا المدينة أفاضوا فيه، حتى انخدع عدد من المؤمنين .

ومرضت عائشة  رضى الله عنها  حين قدمت المدينة ، وطال مرضها نحو شهر، فكانت المدينة تموج بقول أهل الإفك، وهي لا تعلم شيئاً، وإنما كان يريبها أنها لم تكن ترى اللطف الذي كانت تراه من رسول الله ﷺ حين تشكتي، فكان ﷺ يدخل عليها فيسلم ويقول : كيف تيكم ؟ ثم يرجع ولا يجلس عندها .

وكان ﷺ طوال هذه الفترة ساكتاً لا يتكلم ، فلما استلبث الوحي طويلاً استشار أصحابه ، فأشار علي بن أبي طالب بفراقها تلويحاً، وأشار أسامه وغيره بإمساكها ، وأنها كالتبر الخالص ، فقام ﷺ على المنبر واستعذر من رجل بلغ أذاه في أهله – وكانت الإشارة إلى عبدالله ابن أبي – فأظهر سيد الأوس رغبته في قتله، فأخذت الحمية سيد الخزرج، لأن ابن أبي كان منهم ، فتثاور الحيان حتى خفضهم رسول الله ﷺ .

وخرجت عائشة رضى الله عنها ذلك اليوم لحاجتها ليلاً ، وقد نقهت من المرض ، ومعها أم مسطح ، فعثرت في مرطها ، فدعت على ابنها مسطح ، فاستنكرت ذلك عائشة ، فأخبرتها الخبر ، وأن ابنها ممن يقول بقولهم ، فرجعت عائشة فاستأذنت رسول الله ﷺ وأتت أبويها، فلما تأكد لديها الخبر جعلت تبكي وتبكي حتى بكت ليلتين ويوماً ، لم تكتحل أثناءها بنوم ، ولم يرقأ لها دمع ، حتى ظنت وظن أبواها أن البكاء فالق كبدها .

وجاءها رسول الله ﷺ صباح الليلة الثانية فجلس وتشهد وقال :

أما بعد يا عائشة ! فإنه بلغني عنك كذا كذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه .

وحينئذ قلص دمعها ، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا ، فلم يدريا ما يقولان ، فقالت : والله لقد علمت لقد سمعت بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به ، فلئن قلت لكم أني برئية  والله يعلم أني بريئة  لا تصدقونني، ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة  لتصدقوني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ)

ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته ، فسرى عن رسول الله ﷺ، وهو يضحك ، فكانت أول كلمة تكلم بها أن قال :" يا عائشة ! أما الله فقد برأك" . فقالت لها أمها : قومي إليه، فقالت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله .

والذي أنزله الله  تعالى  في براءتها عشر آيات في سورة النور بداية من قوله تعالى :
(إنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ ۚ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١١﴾‏ لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ﴿١٢﴾‏ لَّوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴿١٣﴾‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١٤﴾‏ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴿١٥﴾‏ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴿١٦﴾‏ يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴿١٧﴾‏ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۚ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيم ﴿١٨﴾‏) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿١٩﴾‏ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿٢٠﴾‏  ( النور)

ثم خرج رسول الله ﷺ إلى الناس فخطبهم، وتلا عليهم ما أنزل الله من براءتها ، فلما نزل أمر برجلين وأمرأة من المؤمنين الخالصين فجلدوا، كل واحد ثمانين جلدة، وهم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثه، وحمنة بنت جحش، زلت أقدامهم فأفاضوا في الإفك، وأما رأس المنافقين الذي تولى كبره، ورفقته، فلم يعاقبوا في هذه الحياة الدنيا، ولكنهم سيقفون بين يدي الله يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وكان أبي بكر الصديق رضي الله عنه يتصدق على قريبه مسطح بن أثاثة، فلما علم أنه تكلم في  ابنته عائشة، حلف أن لا يعطيه شيئا، فأنزل الله تعالى: ( وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٢٢﴾

يقول تعالى:  ( ولا يأتل ) أي : ولا يحلف ، وهو يفتعل من الألية وهي القسم ، و( أولو الفضل منكم والسعة) يعني أبا بكر الصديق (أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله) يعني مسطحا، وكان مسكينا مهاجرا بدريا ابن خالة أبي بكر ، حلف أبو بكر أن لا ينفق عليه ، (وليعفوا وليصفحوا) عنهم خوضهم في أمر عائشة ، (ألا تحبون) يخاطب أبا بكر،  أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) فلما قرأها النبي ﷺ على أبي بكر قال: بلى أنا أحب أن يغفر الله لي، ورجع إلى مسطح نفقته التي كان ينفق عليه، وقال : والله لا أنزعها منه أبدا.

 

وخير من ذكر قصة الإفك بالتفصيل هي صاحبة القصة أم المؤمنين عائشة بنت الإمام الصديق الأكبر خليفة رسول اللهﷺ أبي بكر الصديق، وقد روى الحديث البخاري وغيره، ونحن ننقله بطوله لما فيه من العبر والعظات: قالت عائشة: كان رسول اللهﷺ إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله ﷺ معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله ﷺ بعد ما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله ﷺ من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبد الله بن أبي ابن سلول. قال عروة: أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده، فيقره ويستمعه ويستوشيه. وقال عروة أيضا: لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة، كما قال الله تعالى، وإن كبر ذلك يقال له: عبد الله بن أبي ابن سلول. قال عروة، كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:

فإن أبي ووالده وعرضي * لعرض محمد منكم وقاء

قالت عائشة: فقدمنا المدينة، فاشتكيت حين قدمت شهرا، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك، لا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم، ثم يقول: (كيف تيكم). ثم ينصرف، فذلك يريبني ولا أشعر بالشر، حتى خرجت حين نقهت، فخرجت مع أم مسطح قبل المناصع، وكان متبرزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا، قالت: وأمرنا أمر العرب الأول في البرية قبل الغائط، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، قالت: فانطلقت أنا وأم مسطح، وهي ابنة أبي رهم ابن المطلب بن عبد مناف، وأمها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا، فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلا شهد بدرا؟ فقالت: أي هنتاه أو لم تسمعي ما قال؟ قالت: وقلت: وما قال؟ فأخرتني بقول أهل الإفك، قالت: فازددت مرضا على مرضي، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله ﷺ فسلم،ثم قال: (كيف تيكم). فقلت له: أتأذن لي أن آتي أبوي؟ قالت: وأريد أن أستيقن الخبر من قبلهما، قالت: فأذن لي رسول الله ﷺ، فقلت لأمي: يا أمتاه، ماذا يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية، هوني عليك، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها، لها ضرائر، إلا أكثرن عليها. قالت: فقلت: سبحان الله، أو لقد تحدث الناس

بهذا؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثم أصبحت أبكي، قالت: ودعا رسول الله ﷺ علي ابن أبي طالب وأسامة بن زيد، حين استلبث الوحي، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله، قالت: فأما أسامة أشار على رسول الله ﷺ بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه، فقال أسامة: أهلك، ولا نعلم ألا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسل الجارية تصدقك. قالت: فدعا رسول الله ﷺ بريرة، فقال: (أي بريرة، هل رأيت شيء يريبك). قالت له بريرة: والذي بعثك بالحق، ما رأيت عليها أمرا قط أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله، قالت: فقام رسول اللهﷺ من يومه فاستعذر من عبد الله ابن أبي، وهو على المنبر، فقال: (يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني عنه أذاه في أهلي، والله ما علمت على أهلي إلا خيرا، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا وما يدخل على أهلي إلا معي). قالت: فقام سعد بن معاذ أخو بني عبد الأشهل فقال: أنا يا رسول الله أعذرك، فإن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج، أمرتنا ففعلنا أمرك. قالت: فقام رجل من الخزرج، وكانت أم حسان بنت عمه ، وهو سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، قالت: وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت لعمر الله لا تقتله، ولا تقدر على قتله، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لعمر الله لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. قالت فثار الحيان الأوس والخزرج، حتى هموا أن يقتتلوا، ورسول الله ﷺ قائم على المنبر، قالت: فلم يزل رسول الله ﷺ يخفضهم، حتى سكتوا وسكت، فبكيت يومي ذلك كله لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم

 قالت: وأصبح أبوي عندي، قد بكيت ليلتين ويوما، ولا يرقأ لي دمع لا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فبينا أبواي جالسان عندي وأنا أبكي، فاستأذنت علي امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي، قالت: فبينا نحن على ذلك دخل رسول الله ﷺ علينا فسلم ثم جلس، قالت: لم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، قالت: فتشهد رسول اللهﷺحين جلس، ثم قال: (أما بعد، ياعائشة، إنه بلغني عنكك كذا وكذا، فإن كنت بريئة، فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف ثم تاب، تاب الله عليه). قالت: عائشة: فلما قضى رسول الله ﷺ مقالته قلص دمعي حتى ما أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب رسول اللهﷺ عني فيما قال، فقال أبي: والله ما أدري ما أقول لرسول اللهﷺ، فقلت لأمي: أجيبي رسول الله ﷺ فيما قال، قالت أمي: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، فقلت: وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرا: إني والله لقد علمت: لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة، لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدقني، فوالله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف حين قال:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ ) ﴿يوسف  ١٨﴾‏

 ثم تحولت واضطجعت على فراشي، والله يعلم أني حينئذ بريئة، وأن الله مبرئي ببراءتي، ولكن والله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني وحيا يتلى، لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله ﷺ في النوم رؤيا يبرئني الله بها، فوالله ما رام رسول الله ﷺ مجلسه، ولا خرج أحد من أهل البيت، حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء، حتى إنه ليتحدر منه العرق مثل الجمان، وهو في يوم شات، من ثقل القرآن الذي أنزل عليه، قالت: فسرى عن رسول الله ﷺ وهو يضحك، فكانت أو كلمة تكلم بها أن قال: (يا عائشة، أما والله فقد برأك). فقالت لي أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، فإني لا أحمد إلا الله عز وجل، قالت: وأنزل الله تعالى: {إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم}. العشر الآيات، ثم أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر الصديق، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا، بعد الذي قال لعائشة ما قال. فأنزل الله: )وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٢٢﴾   قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبدا، قالت عائشة: وكان رسول الله ﷺ سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال لزينب: "ماذا علمت، أو رأيت. فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا" قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي ﷺ فعصمها الله بالورع. قالت: وطفقت أختها تحارب لها، فهلكت فيمن هلك.

قال ابن شهاب: فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرهط.

ثم قال عروة: قالت عائشة: والله إن الرجل الذي قيل له ما قيل ليقول: سبحان الله، فوالذي نفسي بيده ما كشفت من كنف أنثى قط، قالت: ثم قتل بعد ذلك في سبيل الله.

 

   

No comments:

Post a Comment