Sunday 23 November 2014

تفسير مختصر وربط للآيات وبيان للمتشابهات – سورة الحجرات – ج 5




  


 سورة الحجرات – ج 5

ثالثا: آداب بين المؤمنين كمجموعات وأفراد : في الجزء التالي من سورة الحجرات سورة الآداب يربي الله تعالى مجموعات وأفراد المؤمنين على حسن التعامل بينهم،ويحذرهم من القبيح من الفعل والقول بحق بعضهم بعضا، وإليك بيانه من قول رب العالمين:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ‌ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرً‌ا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرً‌ا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
سبب  النزول :
قوله تعالى
: {  يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ..}    
نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنه كان في أذنيه وقر، فكان إذا أتى رسول الله أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه فيسمع ما يقول، فجاء يوماً وقد أخذ الناس مجلسهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا، فقال له رجل: قد أصبت مجلساً فاجلس، فجلس ثابت مغضباً، ثم قال- أي ثابت : من هذا؟ قالوا فلان، فقال ثابت : ابن فلانة يعيره بها، يعني أما له في الجاهلية، فاستحيا الرجل، فنزلت الآية
وقال الضحاك : نزلت في وفد بني تميم استهزؤوا بفقراء الصحابة، مثل عمار وخباب وابن فهيرة وبلال وصهيب وسلمان وسالم مولى أبي حذيفة وغيرهم، لما رأوا من رثاثة حالهم، فنزلت في الذين آمنوا منهم.
قوله تعالى: { وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ..}
وقال عكرمة عن ابن عباس: إن صفية بنت حُيَيّ بن أخْطَب أتت رسول الله فقالت: يا رسول الله إن النساء يعيرنني ويقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله : هَلا قلتِ: إن أبي هارون، وإن عمي موسى، وإن زوجي محمد. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال أنس: نزلت في نساء النبي ، عيرن أمّ سَلَمَةَ بالقصر.
التفسير :
قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم} { خيرا منهم}  أي خير منه عند الله معتقدا وأسلم باطنا. والسُخرية الاستهزاء. سخرت منه أسخر سخرا التحريك ومسخرا وسُخرا الضم .
قال مجاهد : هو سخرية الغني من الفقير. وقال ابن زيد : لا يسخر من ستر الله عليه ذنوبه ممن كشفه الله، فلعل إظهار ذنوبه في الدنيا خير له في الآخرة. وقيل : نزلت في عكرمة بن أبي جهل حين قدم المدينة مسلما، وكان المسلمون إذا رأوه قالوا ابن فرعون هذه الأمة. فشكا ذلك إلى رسول الله فنزلت. وبالجملة فينبغي ألا يجتريء أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رءاه رث الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لبيق في محادثته، فلعله أخلص ضميرا وأنقى قلبا ممن هو على ضد صفته، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله، والاستهزاء بمن عظَّمه الله. ولقد بلغ بالسلف إفراط توقّيهم وتصونهم من ذلك أن قال عمرو بن شرحبيل : لو رأيت رجلا يرضع عنزا فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع، وعن عبدالله بن مسعود : البلاء موكل بالقول، لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا.
قوله تعالى { ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن} أفرد النساء بالذكر لأن السخرية منهن أكثر، وإلا فإنهن مشمولات بالتحذير الأول فهم من القوم. وقد قال الله تعالى { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه}  (نوج  1) فشمل الجميع نساء ورجالاً.
وفي البخاري عن عبدالله بن زمعة قال : نهى النبى أن يضحك الرجل مما يخرج من الأنفس، وقال: (لم يضرب أحدكم امرأته ضرب الفحل ثم لعله يعانقها) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وهذا حديث عظيم يترتب عليه ألا يقطع أحدٌ  بعيب أحد لما يرى عليه من المعاصي والمخالفة، فلعل من يحافظ على الأعمال الظاهرة يعلم الله من قلبه وصفا مذموما لا تصح معه تلك الأعمال. ولعل من رأينا عليه تفريطا أو معصية يعلم الله من قلبه وصفا محمودا يغفر له بسببه. فالأعمال أمارات ظنية لا أدلة قطعية. ويترتب عليها عدم الغلو في تعظيم من رأينا عليه أفعالا صالحة، وعدم الاحتقار لمسلم رأينا عليه أفعالا سيئة. بل تحتقر وتذم تلك الحالة السيئة ، أو الإساءة نفسها، لا تلك الذات المسيئة. فتدبر هذا، فإنه نظر دقيق.
قوله تعالى { ولا تلمزوا أنفسكم}  
في اللغة :
 اللمز : العيب، وقال الطبري : اللمز باليد والعين واللسان والإشارة. والهمز لا يكون إلا باللسان. وهذه الآية مثل قوله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء : 29] أي لا يقتل بعضكم بعضا، لأن المؤمنين كنفس واحدة، فكأنه بقتل أخيه قاتل نفسه. وكقوله تعالى {فسلموا على أنفسكم} (النور 61)  يعني يسلم بعضكم على بعض. والمعنى : لا يعب بعضكم بعضا، ولا يطعن بعضكم على بعض.
وفي قوله { أنفسكم} تنبيه على أن العاقل لا يعيب نفسه، فلا ينبغي أن يعيب غيره لأنه كنفسه، قال صلى الله عليه وسلم : (المؤمنون كجسد واحد إن اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وقال بكر بن عبدالله المزني : إذا أردت أن تنظر العيوب جمة فتأمل عيابا، فإنه إنما يعيب الناس بفضل ما فيه من العيب. وقال : (يبصر أحدكم القذاة في عين أخيه ويدع الجذع في عينه) أي يري الواجد منا عيوب الناس صغيرها ودقيقها ، ولا يرى عيوبه ولو كانت كبيرة. وقيل : من سعادة المرء أن يشتغل بعيوب نفسه عن عيوب غيره. قال الشاعر : المرء إن كان عاقلا ورعا ** أشغله عن عيوبه ورعه
كما السقيم المريض يشغله ** عن وجع الناس كلهم وجعه
وقال آخر :
 لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا ** فيهتك الله سترا عن مساويكا
 واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ** ولا تعب أحدا منهم بما فيكا
 و قوله تعالى {  ولا تنابزوا بالألقاب}  النَبَز بالتحريك هو اللقب، والجمع الأنباز. والنبز بالتسكين المصدر، تقول : نَبَزَه ينبزه نبزا، أي لقّبَه. ويقال النَبَز والنَزَب لقب السوء. وتنابزوا بالألقاب : أي لقب بعضهم بعضا. وفي الترمذي عن أبي جبيرة بن الضحاك قال : كان الرجل منا يكون له الاسمين والثلاثة فيدعى ببعضها فعسى أن يكره، فنزلت هذه الآية {ولا تنابزوا بالألقاب}  وقال هذا حديث حسن. وفي مصنف أبي داود عنه قال : فينا نزلت هذه الآية، في بني سلمة { وَلَا تَنَابَزُوا بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ } ،قال : قدم رسول الله وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله يقول:  يا فلان فيقولون مه يا رسول الله، إنه يغضب من هذا الاسم، فنزلت هذه الآية { وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ  وقال قتادة : هو قول الرجل للرجل يا فاسق يا منافق، وقوله تعالى: { بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ  } أي بئس أن يسمى الرجل كافرا أو زانيا بعد إسلامه وتوبته، قال ابن زيد. والمعنى أن من لقب أخاه أو سخر منه فهو فاسق. وفي الصحيح (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه). فمن فعل ما نهى الله عنه من السخرية والهمز والنبز فذلك فسوق وذلك لا يجوز. وقد روي أن أبا ذر رضي الله عنه كان عند النبي فنازعه رجل فقال له أبو ذر : يا ابن اليهودية فقال النبي : (ما ترى ها هنا أحمر وأسود ما أنت بأفضل منه) يعني بالتقوى، ونزلت {ولا تنابزوا بالألقاب} . وقال ابن عباس : التنابز بالألقاب أن يكون الرجل قد عمل السيئات ثم تاب، فنهى الله أن يعير بما سلف. يدل عليه ما روي أن النبي قال : (من عير مؤمنا بذنب تاب منه كان حقا على الله أن يبتليه به ويفضحه فيه في الدنيا والآخرة)
يستثنى من الإثم :  من غلب عليه الاستعمال كالأعرج والأحدب ولم يكن له فيه كسب يجد في نفسه منه عليه، فجوزته الأمة وأتفق على قول أهل الملة. والذي يضبط الجائز من غير الجائز : أن كل ما يكره الإنسان إذا نودي به فلا يجوز لأجل الأذية، وعلى هذا المعنى ترجم البخاري رحمه الله في كتاب الأدب من الجامع الصحيح. في باب ما يجوز من ذكر الناس نحو قولهم الطويل والقصير لا يراد به شين الرجل قال : وقال النبي في حديث قصره في الصلاة ناسيا، قال ( ما يقول ذو اليدين) قال أبو عبدالله بن خويز منداد : تضمنت الآية المنع من تلقيب الإنسان بما يكره، ويجوز تلقيبه بما يحب، ألا ترى أن النبي لقب عمر بالفاروق، وأبا بكر بالصديق، وعثمان بذي النورين، وخزيمة بذي الشهادتين، وأبا هريرة بذي الشمالين وبذي اليدين، في أشباه ذلك. الزمخشري : روي عن النبي (من حق المؤمن على المؤمن أن يسميه بأحب أسمائه إليه). ولهذا كانت التكنية من السنة والأدب الحسن، قال عمر رضي الله عنه : أشيعوا الكني فإنها منبهة. ولقد لقب أبو بكر بالعتيق والصديق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف الله. وقل من المشاهير في الجاهلية والإسلام من ليس له لقب. ولم تزل هذه الألقاب الحسنة في الأمم كلها - من العرب والعجم - تجري في مخاطباتهم ومكاتباتهم من غير نكير. قال الماوردي : فأما مستحب الألقاب ومستحسنها فلا يكره. وقد وصف رسول الله عددا من أصحابه بأوصاف صارت لهم من أجل الألقاب.
 فأما ما يكون ظاهر الإسم الكراهة فإذا أريد بها الصفة لا العيب فذلك كثير وجائز ، وقد سئل عبدالله بن المبارك عن الرجل يقول : حُميد الطويل، وسليمان الأعمش، وحُميد الأعرج، ومروان الأصغر، فقال : إذا أردت صفته ولم ترد عيبه فلا بأس به. وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن سرجس قال : رأيت الأصلع - يعني عمر - يقبل الحجر. في رواية الأصيلع. قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } أي عن هذه الألقاب التي يتأذى بها السامعون. { فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنفسهم بارتكاب هذه المناهي.
وقوله تعالى : {  أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرً‌ا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِ‌هْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّـهَ ۚ إِنَّ اللَّـهَ تَوَّابٌ رَّ‌حِيمٌ } ( آية 12 )
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن، وهو التهمة والتخون للأهل والناس في غير محله، لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً، فالظن في الآية هو التهمة. ومحل التحذير والنهي عنه إنما هو أن يكون تهمة لا سبب لها يوجبها، كمن يتهم غيره بالفاحشة أو بشرب الخمر مثلا ولم يظهر عليه ما يقتضي ذلك. ودليل كون الظن هنا بمعنى التهمة قوله تعالى { ولا تجسسوا}  وذلك أنه قد يقع له خاطر التهمة ابتداء ويريد أن يتجسس خبر ذلك ويبحث عنه، ويتبصر ويستمع لتحقيق ما وقع له من تلك التهمة. فنهى النبي عن ذلك.
ما الظن المنهي عنه :
والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والعلاج، واشتهر بالأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة به محرم، بخلاف من أشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث. فأكثر العلماء على أن الظن القبيح بمن ظاهره الخير لا يجوز، وأنه لا حرج في الظن القبيح بمن ظاهره القبيح، وعن النبي (إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء).
التحذير من ظن السوء:
قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، وعن عبد الله بن عمر رضي اللهُ عنهما قال: رأيت النبي يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند اللّه تعالى حرمة منك، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً) "أخرجه ابن ماجة. وعن أبي هريرة رضي اللهُ عنه قال، قال رسول اللهِ : ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد اللّه إخواناً) "أخرجه البخاري ".
علاج الظن السوء:
روى الطبراني، عن حارثة بن النعمان رضي اللهُ عنه قال، قال رسول اللهِ : (ثلاث لازمات لأمتي: الطيرة والحسد وسوء الظن) فقال رجل: وما يذهبهن يا رسول اللهِ ممن هن فيه؟ قال : (إذا حسدت فاستغفر الله، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض) أي إذا ظننت شيئا فلا تحاول أن تثبت أن ظنك حق بأن تتجسس لتأتي بالأدلة.
{ ولا تجسسوا}  أي على بعضكم بعضاً، والتجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير، كما قال عزَّ وجلَّ إخباراً عن يعقوب: { يا بنيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح اللهِ}  . وقال الأوزاعي: التجسس البحث عن الشيء، والتحسس الاستماع إلى حديث القوم، أو يتسمع على أبوابهم، وقيل : إن التجسس بالجيم هو البحث، ومنه قيل : رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء : هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه بدون بحث عنه.
الحكمة في النهي عن التجسس:
خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله. وفي كتاب أبى داود عن معاوية قال سمعت رسول الله يقول : (إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم) فقال أبو الدرداء : كلمة سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله تعالى بها، والسبب في أن تتبع العورات مفسدة للناس، أنه إذا ظهر منهم ما يخفوه عن الناس واشتهر ، تهاونوا في فعله ولم يعودوا يستتروا . وعن المقدام بن معد يكرب عن أبي أمامة عن النبي قال : (إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم).
التحذير من التجسس ، وتتبع العورات:
قال رسول الله : (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته). عن زيد بن وهب قال : أتي ابن مسعود فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمرا. فقال عبدالله : إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به.
وقوله تعالى: { ولا يغتب بعضكم بعضاً}  فيه نهي عن الغيبة، وقد فَسّرها الشارع كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، عن أبي هريرة، قال، قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال : (ذكرك أخاك بما يكره) قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : (إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه) أي افتريت عليه وكذبت كذبا بواحا فيه، قال العلماء:  الغيبة ثلاثة أوجه كلها في كتاب الله تعالى : الغيبة والإفك والبهتان. فأما الغيبة فهو أن تقول في أخيك ما هو فيه. وأما الإفك فأن تقول فيه ما بلغك عنه. وأما البهتان فأن تقول فيه ما ليس فيه ،
أحوال تجوز فيها الغيبة:
والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل كقوله ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) ، وفي النصيحة والإستشارة : وكقوله لفاطمة بنت قيس رضي اللهُ عنها وقد خطبها معاوية وأبو الجهم: (أما معاوية فصعلوك وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه) وكذا ما جرى مجرى ذلك مثل القضاء ورفع أمر للحاكم، وليس للفاسق المعلن به المجاهر بفسقه غيبة، فإن في الخبر (من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له). وقال : (اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس). فالغيبة إذا في المرء الذي يستر نفسه. وروي عن الحسن أنه قال : ثلاثة ليس لهم حرمة : صاحب الهوي، والفاسق المعلن، والإمام الجائر. عن الحسن قال : ليس لأهل البدع غيبة. وليس أيضا من الغيبة  قولك للقاضي تستعين به على أخذ ظلمك فتقول فلان حقك ممن ظلمني أو غضبني أو خانني أو ضربني أو قذفني أو أساء إلي، ليس بغيبة، وعلماء الأمة على ذلك مجمعة. وقال النبي في ذلك : (لصاحب الحق مقال). وقال : (مطل الغني ظلم) وقال (لي الواجد يحل عرضه وعقوبته). ومن ذلك الاستفتاء، كقول هند للنبي : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي، فآخذ من غير علمه؟ فقال النبي : (نعم فخذي) فذكرته بالشح والظلم لها ولولدها، ولم يرها مغتابة، لأنه لم يغير عليها، بل أجابها عليه الصلاة والسلام بالفتيا لها.
ثم بقيتها على التحريم الشديد.
ما وردفي الغيبة من الزجر الشديد:
أولها أن الله  تبارك وتعالى شبه المغتاب بأنه بأكل اللحم من الإنسان الميت، كما قال عزَّ وجلَّ: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه}  أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً، فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها، وثبت في الصحاح والحسان والمسانيد من غير وجه أنه قال في خطبة حجة الوداع: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا) وروى أبو داود، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله : (كل المسلم على المسلم حرام، ماله، وعرضه، ودمه، حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم) ""رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن غريب". وعن عائشة رضي اللهُ عنها قالت، قلت للنبي : (حسبك من صفية كذا وكذا)  تعني قصيرة، فقال : (لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) قالت: وحكيت له إنساناً، فقال : (ما أحب أني حكيت إنساناً، وإن لي كذا وكذا) "أخرجه أبو داود والترمذي ، و( حكيت رجلا ) أي: فعلت مثل فعله أو قلت مثل قوله منقصًا له يقال حكاه وحاكاه، قال الطِّيبي: وأكثر ما تستعمل المحاكاة في القبيح ( وأن لي كذا وكذا)  أي لو أعطيت كذا وكذا من الدنيا أي شيئًا كثيرًا منها بسبب ذلك، قال النووي: من الغيبة المحرمة المحاكاة بأن يمشي متعارجًا أو مطاطيًا رأسه، أو غير ذلك من الهيئات.
وعن أنَس بن مالك قال، قال رسول الله : (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافر من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، قلت: من هولاء يا جبريل؟ قال: هولاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) "أخرجه أبو داود والإمام أحمد".
عن ابن عمر أن ماعزاً  الذي زني ، واعترف للنبي بذنبه ليطهره ، في آخرة قال ابن عمر : ، فأمر برجمه فرُجم، فسمع النبي رجلين يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه، فلم تدعه نفسه حتى رُجم رجْم الكلب؟ ثم سار النبي حتى مرَّ بجيفة حمار، فقال: (أين فلان وفلان؟ إنزلا فكلا من جيفة هذا الحمار) قالا: غفر الله لك يا رسول الله، وهل يؤكل هذا؟ قال : (فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها) "أخرجه الحافظ أبو يعلى وإسناده صحيح" . وروى الإمام أحمد، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا مع النبي فارتفعت ريح جيفة منتنة، فقال رسول الله  : (أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذين يغتابون الناس؟) ""أخرجه الإمام أحمد في مسنده""وقوله عزَّ وجلَّ: { وَاتَّقُوا اللهَ } أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبواه في ذلك واخشوا منه.
توبة المغتاب:
قال تعالى: { إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَّ‌حِيمٌ }  أي تواب على من تاب إليه {  رحيم}  لمن رجع إليه واعتمد عليه.
 وشووط التوبة كما قال الجمهور من العلماء: يجب على المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك، ويعزم على أن لا يعود، ويندم على ما فات، وأن يتحلل من الذي اغتابه، وقال آخرون: لا يشترط أن يتحلله، فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما لم يعلم بما كان منه، فالأفضل له أن يثني عليه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك؛ كما قال النبي : (من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث اللّه إليه ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال) ""أخرجه أبو داود وأحمد"".والغيبة مظلمة من المغتاب ، وكفارتها الاستغفار لصاحبها الذي اغتابه. قد ورد هذا بحديث عن الحسن قال : كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته. وقال رسول الله : (ما من امرئ يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته، وما من امرئ ينصر امرءاً مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عزَّ وجلَّ في مواطن يحب فيها نصرته) أخرجه أبو داود.
والله أعلم
يتبع الجزء الأخير من السورة ، وآداب الناس عموما والمسلمين خاصة مع الله سبحانه وتعالى.

1 comment:

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
    جزاك على مجهودك ولي ملاحظة...رأيت في هذه الفقرة التي بين المعقفين ان هناك اخطاء في كتابة اسم الله جل جلاله...يرجى الانتباه لهذا مستقبلا في كل مواضيعك...
    {قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه: لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً، وعن عبد الله بن عمر رضي اللهُ عنهما قال: رأيت النبي ﷺ يطوف بالكعبة ويقول: (ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند اللّه تعالى حرمة منك، ماله ودمه وأن يظن به إلا خيراً) }
    والسلام عليكم ورحمة وبركاته

    ReplyDelete