Sunday 23 November 2014

تفسير مختصر وربط للآيات وبيان للمتشابهات – سورة الحجرات – ج3


  


 
  سورة الحجرات – ج3 

يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، وقد نهى اللهُ عزَّ وجلَّ عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هاهنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون.
سبب نزول الآية :
ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول اللهِ
على صدقات بني المصطلق، فقد روي الإمام أحمد عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي رضي الله عنه قال: قدمت على رسول اللهِ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله أرجع إليهم- اي إلى قومه- ، فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبَّان كذا وكذا – اي وقت كذا - ليأتيك بما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله أن يبعث إليه ( الوقت الذي أقت له )، احتبس عليه الرسول ولم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه- أكابرهم-، فقال لهم: إن رسول الله كان وقّت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله، ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله الخُلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطه، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله ، وكان قد بعث رسول الله الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق - أي خاف لما رآهم مقبلين- فرجع حتى أتى رسول الله فقال: يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي، فغضب رسول الله ، وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه، وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال رضي الله عنه: لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله قال: "منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟"  قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله ، خشيت أن يكون كونت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال:  فنزلت الحجرات: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ..} - إلى قوله – حكيم}  "أخرجه الإمام أحمد وابن أبي حاتم والطبراني".
 وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم، فتلقوه بالصدقة فرجع، فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك، زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمع أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وكذا ذكر غير واحد من السلف، أنها نزلت في الوليد بن عقبة ، والله أعلم.
التفسير:
الفاسق في اللغة والإصطلاح:
الفاسق:  الكذاب. وقال أبو الحسن الوراق : هو المعلن بالذنب. وقال ابن طاهر : الذي لا يستحي من الله.
 وفي قراءة حمزة والكسائي : {فتثبتوا} من التثبت. الباقون {  فتبينوا}  من التبيين { أَن تُصِيبُوا قَوْمًا  أي لئلا تصيبوا، { بِجَهَالَةٍ }  أي بخطأ، { فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } نادمين على العجلة وترك التأني.
وقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَ‌سُولَ اللهِ ۚ } أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله، فعظّموه ووقّروه وتأدّبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم، { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ‌ مِّنَ الْأَمْرِ‌ لَعَنِتُّمْ ..} أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم، كما قال سبحانه: { ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن} ، وقوله عزَّ وجلَّ: { وَلَـٰكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي حببه إلى نفوسكم، وحسّنه في قلوبكم، وعن أنَس رضي الله عنه قال: كان رسول الله يقول: (الإسلام علانية والإيمان في القلب) ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول: (التقوى ههنا، التقوى ههنا) أخرجه الإمام أحمد
 { وَكَرَّ‌هَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ‌ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ } أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار، والعصيان وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة، وقوله تعالى: { أُولَـٰئِكَ هُمُ الرَّ‌اشِدُونَ } أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذين قد آتاهم اللّه رشدهم.وفي الحديث المرفوع: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)
ثم قال تعالى: { فَضْلًا مِّنَ اللهِ وَنِعْمَةً ۚ } أي هذا العطاء الذي منحكم الله إياه بأن حبب إليكم الإيمان ، وكره إليكم الكفر، هو فضل منه عليكم، ونعمة من لدنه، وهو الفضل الذي يستحق أن يفرح به المسلم إذ يستشعره ، فيحمد الله على نعمة الإيمان، وقال تعالى: { وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بمن يستحق الهداية، ممن يستحق الغواية، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
فائدة: العبرة من استخدام أداة الشرط ( إن ) في الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ..}
تستعمل العرب أداة الشرط ( إن)  إذا كان السبب ( الشرط )  مرجوح – أي نادر -الوقوع، أو راجح العدم – أو غلب على الظن عدم وقوعه-
فتقول (إن تأتِني أكرمْك) حين تكون غير مرجح لإتيانه
ولا يجوز أن تقول (إن طلعت الشمس أزرك)، لأن الشمس يغلب على الظن أن تطلع ، فلا يستخدم معها لفظ ( إن )
ولهذا كله كانت (إن) تستعمل في الأمور النادرة وغير الراجحة
أما أداة الشرط  ( إذا)  فتستعملها العرب حين يكون السبب (الشرط) الداخلة عليه راجح الوقوع
فتقول (إذا أتيتني أكرمتك) حين تكون مرجحاً لإتيانه
وتقول (إذا طلعت الشمس أزورك) فأنت تعزم على زيارته – وقيل هنا للتنبيه على ظرف الزمان بالإضافة للشرط ، أي أن الشرط مرتبطا بالزمان ، فحين طلوع الشمس أزورك.
ولهذا كانت (إذا) تدخل غالباً على لفظ الماضي لدلالة المضي على رجحان الوقوع أيضاً، كقوله تعالى : { إذا جاء نصر الله والفتح } ( النصر 1 )
وللفائدة أيضا أورد لكم ما قال الزمخشري في الآية : { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} الأعراف
فإن قلت: كيف قيل { فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ} بـ إذا وتعريف الحسنة، و{ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بـ إن وتنكير السيئة ؟
قلت: لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه، وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها. وقال الجرجاني في الإشارات: لأن وقوع الحسنة راجح، ووقوع السيئة مرجوح لكونه نادراً.
ومن رحمة ربنا في هذه الآية في سورة الحجرات:  أن دلنا على أن عامة من يأتي بالأخبار لا يكونوا من الفساق، فقد استخدم معها لفظ الشرط ( إن ) للدلالة على قلة وقوعه ، وان الأغلب صدق منهم ، وهذا يفيدنا في الفائدة التالية ، وهي قبول خبر الآحاد. والله أعلم .
ما يستنتج من الآية من قبول حديث الآحاد:
قال القرطبي رحمه الله: في هذه الآية دليل على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا، لأنه إنما أمر فيها بالتثبت عند نقل خبر الفاسق. ومن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا، لأن الخبر أمانة،  والفسق علة تبطل معها صفة الأمانة من الشخص الفاسق.
ويستثني من ذلك في القضاء والأحكام : ما ورد الإجماع على قبول قول الفاسق في ما يتعلق بالدعوى والجحود، وإثبات حق مقصود على الغير، مثل أن يقول : هذا عبدي، فإنه يقبل قوله. وإذا قال : قد أنفذ فلان هذا لك هدية، فإنه يقبل ذلك. وكذلك يقبل في مثله خبر الكافر. وكذلك إذا أقر لغيره بحق على نفسه فلا يبطل إجماعا.

يتبع في القتال بين طوائف المؤمنين.

No comments:

Post a Comment