Monday 3 December 2018

تفسير وربط للآيات ، وبيان للمتشابهات- سورة ( المعارج)ج2- الذين هم ( في جنات مكرمون ) أول صفاتهم أنهم: على صلاتهم دائمون- وأعلاها أنهم: على صلاتهم يحافظون



 




سورة ( المعارج)ج2- الذين هم ( في جنات مكرمون ) أول صفاتهم أنهم:  على صلاتهم دائمون- وأعلاها أنهم: على صلاتهم يحافظون 




تفسير السورة:


قوله تعالى:{ كَلَّا ۖ إِنَّهَا لَظَىٰ ﴿١٥﴾ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ ﴿١٦﴾ تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ ﴿١٧﴾ وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ ﴿١٨﴾

{ ...كَلَّا ۖ} أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض، وبأعز ما يجده من المال، ولو بملء الأرض ذهباً، أو من ولده الذي كان في الدنيا حشاشة كبده، يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب اللّه به، قوله تعالى { ..كَلَّا ۖ} ، قد تكون بمعنى حقا، وبمعنى لا.
وهي هنا تحتمل الأمرين؛ فإذا كانت بمعنى حقا كان تمام الكلام { ينجيه} . وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها؛ أي ليس ينجيه من عذاب الله الافتداء
ثم قال { إِنَّهَا لَظَىٰ} أي هي جهنم؛ أي تتلظى نيرانها؛ كقوله تعالى { فأنذرتكم نارا تلظى} (الليل 14)

في اللغة:

واشتقاق لظى من التلظي،  والتظاء النار التهابها، وتلظيها تلهبها. وقيل : كان أصلها [لظظ] أي ما دامت لدوام عذابها؛ فقلبت إحدى الظاءين ألفا فبقيت لظى.
وقيل : هي الدركة الثانية من طبقات جهنم. وهي اسم مؤنث معرفة فلا ينصرف.
قوله تعالى: { نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم في رواية أبي بكر عنه والأعمش وأبو عمرو وحمزة والكسائي { نزاعةٌ } بالرفع. وروى أبو عمرو عن عاصم { نزاعةً} بالنصب.
فمن رفع على أن تجعل { لظى} خبر { إنَّ} وترفع { نَزَّاعَةٌ} بإضمار هي؛ فمن هذا الوجه يحسن الوقف على { لظى} .

وقوله تعالى:{ نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ}  والشوى. جمع شواة وهي جلدة الرأس،. وقال قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه. وقوله تعالى: { تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } أي تدعو لظى من أدبر في الدنيا عن طاعة الله وتولى عن الإيمان. ودعاؤها أن تقول : إلي يا مشرك، إلي يا كافر. وقال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح ،ثم تلتقطهم كما يلتقط الطير الحب.
وقال ثعلب { تَدْعُو } أي تهلك. تقول العرب : دعاك الله؛ أي أهلكك الله. وقال الخليل : إنه ليس كالدعاء [تعالوا] ولكن دعوتها إياهم تمكنها من تعذيبهم،  وقيل : الداعي خزنة جهنم؛ أضيف دعاؤهم إليها. وقيل هو ضرب مثل؛ أي إن مصير من أدبر وتولى إليها؛ فكأنها الداعية لهم.
قال الطبري: القول الأول هو الحقيقة؛ حسب ما تقدم بيانه بآي القرآن والأخبار الصحيحة.
وقوله:{ وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ} أي جمع المال بعضه على بعض، فأوعاه أي أوكاه ومنع حق اللّه منه، من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة، وقد ورد في الحديث عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ: وكانت إذا أنفَقَت شيئًا تُحصي فقال لها رسولُ اللهِ : (أنفِقي، ولا تُحصي فيُحصي اللهُ عليك، ولا تُوعي فيُوعي اللهُ عليك)( البخاري)، وفي رواية أخرى للحديث : ارضَخِي: مِن الرَّضْخِ، وهو العَطاءُ اليسير، والمعنى: أنفقِي بغيرِ إجحافٍ ولا إسراف، ما دُمتِ قادرةً مستطيعةً، ولو قليلًا، ولا تدَّخِري وتمتَنِعي عن الصَّدقةِ خشيةَ نفادِه، فتنقطِعَ عنكِ مادَّةُ الرِّزق.فإنَّ الصَّدقةَ تُنمِّي المالَ، والسَّخاءَ يفتَحُ أبوابَ الرِّزق.
وفيه: أنَّ البُخلَ بالصَّدقة- لا سيَّما الواجبة- يُؤدِّي إلى إتلافِه،فمن جمع المال، ومنع منه حق الله تعالى فيه؛ فكان جموعا منوعا. قال الحكم : كان عبدالله بن حكيم لا يربط كيسه ويقول سمعت الله يقول { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ}.

{ إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ﴿١٩﴾ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ﴿٢٠﴾ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴿٢١﴾ إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴿٢٢﴾ الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ﴿٢٣﴾

يقول تعالى مخبراً عن الإنسان، وما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة : { إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا } ، ثم فسر هلع الإنسان  بقوله: { إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا } أي إذا مسه الضر فزع وجزع، وانخلع قلبه من شدة الرعب، آيس أن يحصل له بعد ذلك خير،  { وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا } ، أي إذا حصلت له نعمة من اللّه بخل بها على غيره، ومنع حق اللّه تعالى فيها. وفي الحديث: { شرُّ ما في الرَّجلِ شُحٌّ هالعٌ وجُبنٌ خالعٌ) "(رواه أبو داود، وابن حبان في صحيحه). الشُّحُّ والجُبنُ مِنَ الأمراضِ القَلبيَّةِ التي تُودِي بِصاحبِها إلى الْمَهالكِ إنْ سلَّم نفسَه لها، وعلى المسلمِ أنْ يُجاهِدَ نَفْسَه؛ لِيَسْلَمَ مِن الجُبنِ والبُخلِ، "شُحٌّ" وهو أشدُّ البُخلِ؛ فبِه لا يَفعَلُ الحقوقَ التي علَيه، وقيل: البُخلُ يَصلُحُ وصفُه لأشياءَ بعَينِها، أمَّا الشُّحُّ فهو عامٌّ؛ فيَكونُ مثَلًا البخلُ في المالِ والشُّحُّ في كلِّ شيءٍ، فيَكونُ الشُّحُّ صفةً لازمةً للشَّخصِ، بخِلافِ البُخلِ؛ فيَكونُ صفةً لبَعضِ أفعالِ الشَّخصِ، "هالعٌ"، أي: يَجعَلُ عندَ صاحبِه جزَعًا وخَوفًا إنْ فعَل ما بُخِّل به، "وجُبنٌ خالعٌ"، أي: جُبنٌ في منتَهى الشِّدَّةِ يَخلَعُ قلبَه مِنه مِن شدَّةِ خوفِه.( من موقع الدرر السنية: شرح الحديث)
ثم قال تعالى: { إِلَّا الْمُصَلِّينَ } أي إلا من عصمه اللّه ووفقه وهداه إلى الخير، ويسر له أسبابه وهم المصلون { الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ } قيل: معناه يحافظون على أوقاتها وواجباتها، قاله ابن مسعود.
 وقيل: المراد بالدوام ههنا السكون والخشوع أو الإطمئنان في الصلاة، كقوله تعالى في سورة المؤمنون: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴿١﴾ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ } قاله عقبة بن عامر، ومنه الماء الدائم وهو الساكن الراكد، وعليه فيكون  { الَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ }، اي أنهم مطمئنون في صلاتهم.
حكم الطمأنينة في الصلاة:
وهذه الآية  تدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة؛ فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده لم يسكن فيها ولم يدم، بل ينقرها نقر الغراب، فلا يفلح في صلاته.
وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:" أن النبيَّ دخل المسجد، فدخل رجلٌ فصلَّى، ثم جاء فسلم على النبي ، فرد النبي عليه السلام، فقال : ارجع فصل، فإنك لم تصل . فصلَّى، ثم جاء فسلم على النبي ، فقال : ارجع فصل، فإنك لم تصل . ثلاثا، فقال : والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره، فعلمني، قال : إذا قمت إلى الصلاة فكبر واقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ." ( رواه البخاري)

وقيل: المراد بذلك الذين إذا عملوا عملاً داوموا عليه، وأثبتوه كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي اللّه عنها عن رسول اللّه أنه قال: " أحب الأعمال إلى اللّه أدومها وإن قلّ"، قالت: وكان رسول اللّه إذا عمل عملاً داوم عليه.
فائدة : كان إذا عمل عملا داوم عليه:

ما ورد في الأحاديث من كون النبي كان يصلي ركعتين بعد العصر في بيته ، ويداوم على ذلك : صحيح ثابت أيضا ؛ فروى البخاري ومسلم  عن عَائِشَة رضي الله عنها قالت : ( مَا تَرَكَ النَّبِيُّ السَّجْدَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ عِنْدِي قَطُّ ) .
وفي رواية لهما : ( صَلَاتَانِ مَا تَرَكَهُمَا رَسُولُ اللهِ فِي بَيْتِي قَطُّ ، سِرًّا وَلَا عَلَانِيَةً : رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ ) .
وفي رواية للبخاري عنها رضي الله عنها قَالَتْ: ( وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ ، مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ ، وَمَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى ثَقُلَ عَنِ الصَّلاَةِ ، وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاَتِهِ قَاعِدًا - تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ - وَكَانَ النَّبِيُّ يُصَلِّيهِمَا ، وَلاَ يُصَلِّيهِمَا فِي المَسْجِدِ ، مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِه ِ، وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ ) .
وهل يؤخذ من ذلك أن صلاة ركعتين بعد العصر هي سنة عن رسول الله ، يمكننا التأسي به فيهما:
قال الفقهاء: هذا الحديث محمول على أنه كان من خصائصه ؛ فقد فاتته الركعتان بعد الظهر ، فصلاهما بعد العصر ، ثم أثبتهما ؛ لأنه كان إذا صلى صلاة أثبتها، قالته عائشة رضي الله عنها.
روى البخاري، ومسلم عن أُمّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت : سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَنْهَى عَنْهَا - يعني الركعتين بعد العصر - ثُمَّ رَأَيْتُهُ يُصَلِّيهِمَا حِينَ صَلَّى العَصْرَ ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ وَعِنْدِي نِسْوَةٌ مِنْ بَنِي حَرَامٍ مِنَ الأَنْصَارِ ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ الجَارِيَةَ ، فَقُلْتُ : قُومِي بِجَنْبِهِ فَقُولِي لَهُ : تَقُولُ لَكَ أُمُّ سَلَمَةَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، سَمِعْتُكَ تَنْهَى عَنْ هَاتَيْنِ ، وَأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا ؟ فَإِنْ أَشَارَ بِيَدِهِ ، فَاسْتَأْخِرِي عَنْهُ، فَفَعَلَتِ الجَارِيَةُ ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ ، فَاسْتَأْخَرَتْ عَنْهُ ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ : ( يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيَّةَ ، سَأَلْتِ عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ ، وَإِنَّهُ أَتَانِي نَاسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْس ِ، فَشَغَلُونِي عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ ، فَهُمَا هَاتَانِ ) .
وروى مسلم عن أبي سَلَمَةَ ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ عَنِ السَّجْدَتَيْنِ اللَّتَيْنِ كَانَ رَسُولُ اللهِ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، فَقَالَتْ : ( كَانَ يُصَلِّيهِمَا قَبْلَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ إِنَّهُ شُغِلَ عَنْهُمَا ، أَوْ نَسِيَهُمَا ، فَصَلَّاهُمَا بَعْدَ الْعَصْرِ ، ثُمَّ أَثْبَتَهُمَا ، وَكَانَ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَثْبَتَهَا ) .
وعلى ذلك : فإنه يشرع لكل أحد قضاء راتبة الظهر ونحوها بعد العصر، إذا فاتت لعذر .
وأما الاستدامة على صلاة الركعتين في هذا الوقت : فهي من خصائصه . ( من موقع الإسلام سؤال وجواب، جواب الشيخ : محمد صالح المنجد).

وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴿٢٦﴾ وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ ﴿٢٧﴾ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ﴿٢٨﴾

أما قوله تعالى:{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } يريد الزكاة المفروضة، قاله قتادة وابن سيرين. وهذا القول  أصح الأقوال في هذه الآية؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، وسوى الزكاة ليس بمعلوم، إنما هو على قدر الحاجة، والإستطاعة وذلك يقل ويكثر، { لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ } ، وهذا غير الذي ورد في سورة ( الذاريات،آية 19 )، قوله تعالى: { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، فهنا لم يذكر أن هذا الحق مقدر ومعلوم، فهي عامة في الصدقات.
 وقيل هي للسائل المحتاج وتضطره الحاجة لأنْ يسأل الناس، ومثله المحروم هو أيضاً محتاج ، لكنه يتعفف عن المسألة فيُحرم منها، وربما يجوع أو يهلك، وهو في هذه الحالة يكون آثماً في حقِّ نفسه، لأن الله تعالى شرع له أنْ يسأل، فهو محروم من التملك أولاً، وحرم نفسه ثانياً من السؤال الذي شرع له.

متشابهات:

 قال تعالى هنا في  المعارج: { وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ ﴿٢٤﴾ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿٢٥﴾ }  
 { وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴿١٩﴾} الذاريات
الضبط :
قوله تعالى: {حقٌّ معْلُومٌ} في المعارج ، وفى الذاريات: {حقٌّ لِلسّائِلِ والْمحْرُومِ} بإسقاط {معْلُومٌ}.
قيل المراد بآية الذاريات: الصدقات النوافل لقرينة تقدم النوافل فيها:{  كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ﴿١٧﴾ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴿١٨﴾
 وبهذه الآية في سورة المعارج، المقصود؛ الزكاة وهي الفريضة، لتقدم ذكر الصلاة، وهي فريضة لأنها معلومة مقدرة.

عودة للتفسير:

نستمر مع بيانه سبحانه وتعالى صفات الناجين من عذاب جهنم : يقول تعالى:{ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي بيوم الجزاء وهو يوم القيامة، أي يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب،  { وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } أي خائفون. { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } قال ابن عباس : لمن أشرك أو كذب أنبياءه،  وقيل : لا يأمنه أحد، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه، فمن خاف وأشفق في الدنيا، أمن في الآخرة، ومن أمن في الدنيا ، مهما كان محسنا، خاف بالآخرو، قال الحسن البصري ، يرويه عن رسول الله : " يقولُ اللهُ عزَّ و جلَّ: و عزَّتي لا أَجْمَعُ على عَبدي خَوْفَيْنِ و لا أَجْمَعُ لهُ أَمْنَيْنِ ، إذا أَمِنَنِي في الدنيا أَخَفْتُهُ يومَ القيامةِ، و إذا خَافَنِي في الدنيا أَمَّنْتُهُ يومَ القيامةِ"( صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وقال غيره هو من مراسيل الحسن البصري )
قوله تعالى‏ { ‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ﴿٢٩﴾ إِلَّا عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ﴿٣٠﴾ فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ }، وردت هذه الآيات أيضا في سورة ( المؤمنون 5-7)، والمعنى : والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم اللّه عنه من زنا وعمل قوم لوط، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها اللّه لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله اللّه له فلا لوم عليه ولا حرج، ولهذا قال: { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَىٰ وَرَاءَ ذَٰلِكَ}  أي غير الأزواج والإماء { فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي المعتدون. وقد استدل الإمام الشافعي رحمه اللّه ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد ، إذ أنه خارج ما أحل الله تعالى من الأزواج والإماء، فسماهم { هُمُ الْعَادُونَ }‏ ، وقد روى ابن كثير ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله  قوله: " سبعةٌ لا يَنظُرُ اللهُ إليهِم يومَ القيامةِ ، ولا يُزَكِّيهِم ، ولا يَجمَعُهم معَ العالَمينَ ويُدخِلُهمُ النارَ أولَ الداخِلينَ إلا أنْ يتوبوا فمَن تاب تاب اللهُ عليه : الناكِحُ يدَه والفاعلُ والمفعولُ به ومُدمِنُ الخمرِ والضارِبُ والِدَيه حتى يستَغيثا والمؤذي جيرانَه حتى يلعَنوه والناكِحُ حليلةَ جارِه" ( رواه البيهقي، قال ابن كثير عنه : حديث غريب)

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٣٢﴾ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴿٣٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٣٤﴾ أُولَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ ﴿٣٥﴾

وقوله تعالى:{ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}هي متابعة لصفات الناجين من النار: أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول اللّه : " آيةُ المنافقِ ثلاثٌ : إذا حدَّثَ كذبَ ، وإذا وعَدَ أخلفَ ، وإذا اؤتُمِنَ خان "( البخاري ، عن أبي هريرة )
 وقرئ ‏ { ‏لأمانتهم‏} ‏على التوحيد‏.‏ وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن‏.‏ فالأمانة اسم جنس، فيدخل فيها أمانات الدين، فإن الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده، ‏ ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع، والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك؛ وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد.
 { وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ } ‏على من كانت عليه من قريب أو بعيد، يقومون بها عند الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها‏،‏ وقال ابن عباس‏ { بِشَهَادَاتِهِمْ } ‏أن الله واحد لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله‏، ‏عند حفص: { بِشَهَادَاتِهِمْ } جمعاً‏، الباقون ‏{ بِشَهَادَتِهِمْ }على التوحيد، لأنها تؤدي عن الجمع‏، ‏ والمصدر قد يفرد وإن أضيف إلى جمع، كقوله تعالى‏ { ‏إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ‏} ‏[‏لقمان‏19‏]‏

متشابه:

قال تعالى في المعارج: { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴿٣٢﴾ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ﴿٣٣﴾ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴿٣٤﴾}
وفي سورة المؤمنون: { وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} ( المؤمنون9-10)،  لم يذكر آية  {وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمونَ }
الضبط :
 خصّت سورة المعارج بزيادة ذكر الشهادة ؛ كما خصّت بإِعادة ذكر الصلاة حيث قال: {والّذِين هُمْ على صلاتِهِمْ يُحافِظُون} بعد قوله: {إِلاّ الْمُصلِّين الّذِين هُم على صلاتِهِمْ دآئِمُون}. (المصدر / كتاب البرهان)

‏‏قوله تعالى‏ { ‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏} ‏أي يواظبون عليها في مواقيتها كما قال ابن مسعود: سألت رسول اللّه فقلت: يا رسول اللّه أي العمل أحب إلى اللّه؟ قال: (الصلاة على وقتها) قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين)، قلت: ثم أي؟ قال: (الجهاد في سبيل اللّه) "أخرجاه في الصحيحين"، وفي مستدرك الحاكم قال: (الصلاة في أول وقتها)
وقال ابن مسعود ومسروق في قوله: { ‏وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏} يعني مواقيت الصلاة
قال قتادة‏:‏ والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل أوقاتها ، وعلى وضوئها وركوعها وسجودها‏.‏
وقال ابن جريج‏:‏ التطوع‏، فالدوام خلاف المحافظة،‏ فدوامهم عليها أن يحافظوا على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الإحباط باقتراب المأثم‏.‏
فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات والمحافظة إلى أحوالها‏.
ثم بشر تعالى كل من اتصف بهذه الصفات: { أُولَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } أي مكرمون يكرمهم الله بكراماته ، وبأنواع الملاذ والمسار في جنات النعيم.
فائدة:

 وقد افتتح اللّه ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها كما قال رسول اللّه : (استقيموا ولن تحصوا واعلموا أنَّ خيرَ أعمالِكم الصلاةُ ولا يحافظُ على الوضوءِ إلا مؤمنٌ.)( السيوطي في الجامع الصغير- صحيح )

ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال عنهم في سورة المؤمنون: { أُولَـٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }، وثبت في الصحيحين: (فإذا سألتم اللهَ فسلُوهُ الفردوسَ ، فإنَّهُ أوسطُ الجنةِ ، وأعلى الجنةِ ، وفوقَه عرشُ الرحمنِ ، ومنه تَفجَّرُ أنهارُ الجنةِ)( رواه البخاري)
 وقال رسول اللّه : (ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قوله: { أُولَـٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ }" (أخرجه ابن أبي حاتم عن أبي هريرة)، وقال مجاهد: ما من عبد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار، فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة، ويهدم بيته الذي في النار، وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة، ويبني بيته الذي في النار، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم أطاعوا ربهم عزَّ وجلَّ
بل أبلغ من هذا أيضاً، وهو ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي قال: (إذا كان يومُ القيامةِ ، دفع اللهُ عزَّ وجلَّ إلى كلِّ مسلمٍ يهوديًّا أو نصرانيًّا . فيقولُ هذا فِكاكُك من النَّارِ)
اللهم إنَّا عبيدك بنو عبيدك بنو أمائك نواصينا بيدك، ماضِ فينا حكمك ، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ،وجلاء أحزاننا وذهاب همومنا ، وارزقنا حسن تلاوته آناء الله وأطراف النهار ، وتوفنا وأنت راض عنا
يا رب العالمين  

No comments:

Post a Comment