Friday 8 April 2022

تفسير وتدبر سورة سبأ ح1 أهل العلم المقسطين منهم عرفوا الحق فاتبعوه

  

تفسير وتدبر من سورة سبأ – ح ١ – لا يوقن بآيات الله إلا أنار الله قلبه بنور العلم

 

-         السورة مكية،  تهتم السورة بموضوع العقيدة الإسلامية وتتناول أصول الدين من إثبات الوحدانية والنبوة والبعث والنشور .

مواضيع السورة:

- بدأت السورة بالحمد ، وهي رابع سورة في ترتيب المصحف بدأت بالحمد:
-الفاتحة – مكية – مدنية

-الأنعام نزلت بعد الحجر- مكية

-الكهف – مكية ما عدا أيتان – بعد الغاشية

-نزلت سبأ  ترتيبها الرابعة والثلاثون نزلت بعد لقمان- مكية

-فاطر – مكية- نزلت بعد الفرقان

- أياتها تهتم بالعقيدة، وتبدأ بحمد الله على ملكه لكل ما في السموات والأرض.

- وتحكي شطرًا من قصة نبيين من أنبياء الله؛ داوود وسليمان عليهما السلام.

- وكذلك تقص علينا فيها قصة مدينة سبأ  وسد مأرب، وما كان من أهل هذه البلاد من الجحد لنعم الله عليهم، وتيسير الله لهم، وطلبهم التعسير! ، ويبين لنا ما صار مآلهم حتى يكونوا عظة لقريش المكذبة بأنعم الله عليها.

-ويختمها ربنا بالتذكير  أن مرد كل إنسان إلى الله، وأن الناس كلهم ميتون، ولكلٍ أجل، فليعمل كل إنسان لهذا اليوم الذي لا مفر منه.

تسلسلها:

 

1- ابتدأت الآيات بتمجيد الله جل وعلا الذي أبدع الخلق ،و أحكم شؤون العالم فهو الخالق المبدع الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة ، وهذا أعظم برهان على وحدانيته، و تحدثت عن قضية هامة هي إنكار المشركين للآخرة وتكذيبهم بالبعث بعد الموت فأمرت الرسول ﷺأن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد بعد فناء الأجساد، من قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١﴾‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴿٢﴾‏ .....  لِّيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿٤﴾

2- ثم تحكي حال الناس بين مصدق- وهم أهل العلم- ومكذب للرسل مستهزء بما جاءوا به- وهم أهل الشهوات واتباع الهوى، وافتراءاتهم ، ثم يأتيهم بالشواهد والتخويف: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴿٦﴾‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ﴿٧﴾‏  إلى قوله: (..... إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴿٩﴾

2- تناولت جزء قصة رسولين- إضافة إلى ما ذكر عن رسولنا الكريم ﷺ- من رسل الله؛ داود وولده سليمان عليهما السلام، وما سخر لهما من أنواع النعم؛ كتسخير الريح والطير وغيرها، ليبين فضل الله تعالى عليهما، ولبيان ثواب الشاكرين للنعم، من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا ۖ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ۖ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ﴿١٠﴾‏  إلى قوله تعالى: ( .. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴿١٤﴾‏

3- ذكرت الآيات ( قصة سبأ ) موعظة لقريش وتحذيرا مما جرى من مصائب ونكبات لمن كفر بأنعم الله ، ثم ذكرت كفار مكة بنعمه تعالى عليهم ليعبدوه ويشكروه،  من قوله تعالى : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ﴿١٥﴾‏ إلى قوله تعالى : ( ... وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٣٣﴾‏

4- ذكرت اغترار المشركين بالمال والبنين وتكذيبهم لرسول الله ﷺ، وختمت السورة ببيان مصرع الغابرين تسلية لرسول الله ﷺوتخويفا وتحذيرا للمشركين، من قوله تعالى : (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ﴿٣٤﴾‏ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴿٣٥﴾ ‏إلى قوله تعالى : ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ﴿٥٤﴾‏

مميزات السورة:

-         هي واحدة من خمس سور بدأت بالحمد، ففيها الحمد على ملكه لكل المخلوقات بلامنازع له.

-         واحدة من ثلاث سور يأمر الله تعالى عبده ونبيه محمد  بأن يقسم بربه، ردا على تكذيبهم للبعث، فقال: ( قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ)

-         فيها  بيان كيف توفي نبي الله سليمان عليه السلام، ليظهر كذب الجن الذين يدعون علم الغيب.

-         فيها ذكر مدينة سبأ ونعم الله على أهلها ، وما كان منهم من بطر بالنعم.

-         فيها توبيخ من اغتر بماله وجاهه، ويحسب أن هذا مغنيه عن عبادة المنعم.

 

التفسير

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ*  الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴿١﴾‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۚ وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ﴿٢﴾‏

تبدأ السورة بالحمد: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) والحمد هو الثناء على الله بصفات الكمال مع المحبة والتعظيم، وبدونهما يسمى مدحا ، وليس الحمد بالعطاء، فالعطاء له الشكر للمعطي.

 فللّه تعالى الحمد، لأن جميع صفاته يحمد عليها، لكونها صفات كمال، وأفعاله يحمد عليها لأنها دائرة بين الفضل الذي يحمد عليه ويشكر، والعدل الذي يحمد عليه ويعترف بحكمته فيه.

وحمد نفسه هنا على أن ( لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) ملكا وعبيدا يتصرف فيهم بحمده. ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ ) لأن في الآخرة يظهر من حمده والثناء عليه ما لا يكون في الدنيا، فإذا قضى اللّه تعالى بين الخلائق كلهم ورأى الناس والخلق كلهم ما حكم به وكمال عدله وقسطه وحكمته فيه  حمدوه كلهم على ذلك، حتى أهل العقاب ما دخلوا النار إلا وقلوبهم ممتلئة من حمده،  وأن هذا من جراء أعمالهم، وأنه عادل في حكمه بعقابهم.

وأما ظهور حمده في دار النعيم والثواب، فذلك شيء قد تواردت به الأخبار، وتوافق عليه الدليل السمعي والعقلي، فإنهم في الجنة يرون من توالي نعم اللّه وإدرار خيره، وكثرة بركاته، وسعة عطاياه، التي لم يبق في قلوب أهل الجنة أمنية ولا إرادة إلا وقد أعطي فوق ما تمنى وأراد، بل يعطون من الخير ما لم تتعلق به أمانيهم، ولم يخطر بقلوبهم.

فما ظنك بحمدهم لربهم في هذه الحال، مع أن في الجنة تضمحل العوارض والقواطع التي تقطع عن معرفة اللّه ومحبته والثناء عليه، ويكون ذلك أحب إلى أهلها من كل نعيم، وألذ عليهم من كل لذة، ولهذا إذا رأوا اللّه تعالى، وسمعوا كلامه عند خطابه لهم أذهلهم ذلك عن كل نعيم، ويكون الذكر لهم في الجنة، كالنَّفس، متواصلا في جميع الأوقات، هذا إذا أضفت ذلك إلى أنه يظهر لأهل الجنة في الجنة كل وقت من عظمة ربهم، وجلاله وجماله وسعة كماله ما يوجب لهم كمال الحمد، والثناء عليه.

( وَهُوَ الْحَكِيمُ ) في ملكه وتدبيره، الحكيم في أمره ونهيه، فلا يأمر بشيءإلا لحكمة، ولا ينهى عن شيء إلا بحكمة، علمها من علمها، والجهل فيها لا يمنع أنها كذلك. وهو الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، ( الْخَبِيرُ ) الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شيء،المطلع على سرائر الأمور وخفاياها، وقال الزهري: خبير بخلقه حكيم بأمره.

 ثم قال تعالى: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ) فهو المعبود أبداً، المحمود على طول المدى.

وفيه تفسير أوسع قوله:(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ)   

- قيل: هو قول أهل الجنة إذا دخلوها: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) (الزمر ٧)

- ومثله قولهم: (وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (يونس١٠)، فهو المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا.

-ورسول الله ﷺ يرفع له يوم القيامة لواء يحمله يسمى «الحمد». وفي الصحيحين: أن النبي ﷺ لما ذكر الشفاعة ، قال: «فأسجد فأحمد الله عز وجل بمحامد يفتحها علي لا أعلمها الآن»،

وقال: « أنا سيِّدُ ولدِ آدمَ يومَ القيامةِ ولا فخرَ، وبيدي لواءُ الحمدِ ولا فخرَ، وما من نبيٍّ يومئذٍ آدمَ فمن سواهُ إلَّا تحتَ لوائي، وأنا أوَّلُ من تنشقُّ عنْهُ الأرضُ ولا فخرَ»، ( البخاري)

فيحمد الله بمحامد محامد يدركها ويعلمها في تلك الساعة، ولذلك يُعطى لواء الحمد، لكونه أعظم الخلق حمداً لربه في ذلك الموقف، وهو لواء حقيقي، لقول النبي ﷺ: « لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ بغَدْرَتِهِ يَومَ القِيَامَةِ.». (البخاري)                                                                                                                                             وقال العلماء في سبب حمله اللواء، لأنه يفتح للنبي ﷺ من الحمد ما لا يفتح لغيره

ولهذا فصل شيء من علمه بقوله: ( يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ) أي: من مطر وبذر وحيوان وجثث الناس، ( وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) من أنواع النباتات، وأصناف الحيوانات ، أي يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض، والحب المبذور والكامن فيها، ويعلم ما يخرج من ذلك وعدده وكيفيته وصفاته، ( وَمَا يَنزلُ مِنَ السَّمَاءِ) من الأملاك والأرزاق والأقدار،  (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) يعرج : أي يصعد إلى السماء، من الملائكة والأرواح الصالحة، وأيضا ما يعرج إليه من الأعمال الصالحة.

وهنا ملاحظة؛ أليس أثباته تعالى لنفسه أنه يعلم ما يلج في اﻷرض دقيقه والأدق، أليس يدلك على أنه يعلم بكل ما ولج في صدرك واستوطن في نفسك وأرهقها تفكيرًا وقادر أن يجليها بطرفة عين، فتستبشر وتنسى كل ما كان من الهم والبؤس، فلا تيأس.

ولما ذكر مخلوقاته وحكمته فيها، وعلمه بأحوالها، ذكر مغفرته ورحمته لها فقال: ( وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) أي: الذي هو الرحمة والمغفرة وصفه، ولم تزل آثارهما تنزل على عباده كل وقت بحسب ما قاموا به من مقتضياتهما.

وهذا هو الموضع الوحيد الذي تقدمت الرحمة على المغفرة ، (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ )  

فهو الرحيم بعباده فلا يعاجل عُصاتهم بالعقوبة (الْغَفُورُ ) عن ذنوب التائبين إليه الآيبين إليه.

وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)

هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن، مما أمر اللّه تعالى رسوله ﷺ أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد، لما أنكره من أنكره من أهل الكفر والعناد، فإحداهن في قوله تعالى: (ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم معجزين) ( يونس ٥٣)

والثانية هذه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ )

 والثالثة؛  قوله تعالى: ( زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ) (التغابن ٧) .

 لما بين تعالى عظمته بما وصف به نفسه  وكان هذا موجبا لتعظيمه وتقديسه،والإيمان به،  ذكر أن من أصناف الناس طائفة لم تقدر ربها حق قدره، ولم تعظمه حق عظمته، بل كفروا به وأنكروا قدرته على إعادة الأموات وقيام الساعة وعارضوا بذلك رسله فقال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي باللّه وبرسله، وبما جاءوا به، فقالوا بسبب كفرهم: (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) أي: ما هي إلا هذه الحياة الدنيا نحيا ثم نموت .

 فأمر اللّه رسوله أن يرد قولهم ويبطله ويقسم على البعث، وأنه سيأتيهم، واستدل على ذلك بدليل من أقرَّ به لزمه أن يصدق بالبعث ضرورة، وهو علمه تعالى الواسع العام فقال: ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره فقال: (عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)  قوله: (عَالِمِ الْغَيْبِ) أي: يعلم حتى الأمور الغائبة عن أبصارنا وعن علمنا،  فكيف بما هو  شهادة؟

وبما أنه بمقدار اليقين بلقاء الله يكون الاستعداد له، والعمل له، فأقسم الله على البعث حتى لا يشك شاك فيه ويستعد له.

فقوله: (لا يَعْزُبُ عَنْهُ)، أي لا يغيب عنه، أو عن علمه، أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شيء عليم. وقوله: ( مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ) أي: جميع الأشياء بذواتها وأجزائها، حتى أصغر ما يكون من الأجزاء، ولو كان قدر نملة صغيرة لا يغيب أمرها عنه، (وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ )

 (إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه، وتضمنه الكتاب المبين، الذي هو اللوح المحفوظ، فالذي لا يخفى عن علمه مثقال الذرة فما دونه، في جميع الأوقات، ويعلم ما تنقص الأرض من الأموات، وما يبقى من أجسادهم، قادر على بعثهم من باب أولى، وليس بعثهم بأعجب من هذا العلم المحيط.

ثم بيَّن حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله تعالى: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ليجزي الذين آمنوا بقلوبهم، صدقوا اللّه وصدقوا رسله تصديقا جازما، (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) تصديقا لإيمانهم. ( أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) لذنوبهم، بسبب إيمانهم وعملهم يندفع بها كل شر وعقاب. (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أكرمهم بإحسانهم،  فحصل لهم به كل مطلوب ومرغوب وأمنية.

 (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ) أي سعوا في الصد عن سبيل اللّه تعالى وتكذيب رسله، وسعوا فيها كفرا بها، وتعجيزا لمن جاء بها،  وتعجيزا لمن أنزلها، كما عجزوه في الإعادة بعد الموت. (أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) أي: مؤلم لأبدانهم وقلوبهم.

فالإعادة لينعم السعداء من المؤمنين ويعذب الأشقياء من الكافرين.

وقوله تعالى: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) . لما ذكر تعالى إنكار من أنكر البعث،  وأنهم يرون ما أنزل على رسوله ليس بحق، ذكر حالة الموفقين من العباد،  وهم أهل العلم،  وأنهم يرون ما أنزل اللّه على رسوله من الكتاب وما اشتمل عليه من الأخبار، هو الحق أي: الحق منحصر فيه، وما خالفه وناقضه فإنه باطل، لأنهم وصلوا من العلم إلى درجة اليقين.

 

ويرون أيضا أنه في أوامره ونواهيه ( يَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) وذلك أنهم جزموا بصدق ما أخبر به من وجوه كثيرة: من جهة علمهم بصدق من أخبر به، ومن جهة موافقته للأمور الواقعة والكتب السابقة، ومن جهة ما يشاهدون من أخبارها التي تقع عيانا، ومن جهة ما يشاهدون من الآيات العظيمة الدالة عليها في الآفاق وفي أنفسهم ومن جهة موافقتها لما دلت عليه أسماؤه تعالى وأوصافه.

وأهل العلم وأصحاب الفطر السليمة يرون في الأوامر والنواهي، أنها تهدي إلى الصراط المستقيم المتضمن للأمر بكل صفة تزكي النفس، وتنمي الأجر، وتفيد العامل وغيره، كالصدق والإخلاص وبر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى عموم الخلق، ونحو ذلك. وتنهى عن كل صفة قبيحة تدنس النفس  وتحبط الأجر وتوجب الإثم والوزر، من الشرك والزنا والربا والظلم في الدماء والأموال والأعراض.

وهذه منقبة لأهل العلم وفضيلة، فالخالق سبحانه وتعالى يحتج بأقوال أهل العلم ليدحض قولهم. وهذه علامة لهم وأنه كلما كان العبد أعظم علما وتصديقا بأخبار ما جاء به الرسول وأعظم معرفة بحكم أوامره ونواهيه كان من أهل العلم الذين جعلهم اللّه حجة على ما جاء به الرسول ﷺ، فاحتج اللّه بهم على المكذبين المعاندين  كما في هذه الآية وغيرها.

وجاء بعدها بقول أهل الكفر والشرك ليبين سفهه، ويدحضه: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ )

أي: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) على وجه التكذيب والاستهزاء والاستبعاد، وذكر وجه الاستبعاد.

فقال بعضهم لبعض: ( هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) يعنون بذلك الرجل رسول اللّه ﷺ وأنه رجل أتى بما يستغرب منه،حتى صار - بزعمهم - فرجة يتفرجون عليه، وأعجوبة يسخرون منه، وأنه كيف يقول إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ بعدما مزقكم البلى وتفرقت أوصالكم  واضمحلت أعضاؤكم!.

 

أَفْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ۗ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ﴿٨﴾‏ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مَِّ السَّمَاءِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴿٩﴾‏

هم في حيرة من أمرهم في هذا  الرجل الذي يأتي بذلك هل ( أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ) فتجرأ عليه وقال ما قال، ( أَمْ بِهِ جِنَّةٌ )؟ فلا يستغرب منه، فإن الجنون فنون، وكل هذا منهم على وجه العناد والظلم ولقد علموا أنه أصدق خلق اللّه وأعقلهم ومن علمهم أنهم أبدوا وأعادوا في معاداتهم وبذلوا أنفسهم وأموالهم, في صد الناس عنه، فلو كان كاذبا مجنونا لم ينبغ لكم - يا أهل العقول غير الزاكية - أن تصغوا لما قال ولا أن تحتفلوا بدعوته، فإن المجنون لا ينبغي للعاقل أن يلفت إليه نظره أو يبلغ قوله منه كل مبلغ.

ولولا عنادكم وظلمكم لبادرتم لإجابته ولبيتم دعوته؛  ولكن ( مَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ ) ولهذا قال تعالى: ( بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ) ومنهم الذين قالوا تلك المقالة، ( فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ ) أي: في الشقاء العظيم، والضلال البعيد، الذي ليس بقريب من الصواب، وأي شقاء وضلال أبلغ من إنكارهم لقدرة اللّه على البعث وتكذيبهم لرسوله الذي جاء به, واستهزائهم به وجزمهم بأن ما جاءوا به هو الحق فرأوا الحق باطلا والباطل والضلال حقا وهدى.

ثم نبههم على الدليل العقلي الدال على عدم استبعاد البعث الذي استبعدوه، وأنهم لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض فرأوا من قدرة اللّه فيهما، ما يبهر العقول ومن عظمته ما يذهل العلماء الفحول، وأن خلقهما وعظمتهما وما فيهما من المخلوقات، أعظم من إعادة الناس - بعد موتهم - من قبورهم، فما الحامل لهم، على ذلك التكذيب مع التصديق، بما هو أكبر منه؟ نعم ذاك خبر غيبي إلى الآن ما شاهدوه، فلذلك كذبوا به.

قال اللّه: ( إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ ) أي: من العذاب،  لأن الأرض والسماء تحت تدبيرنا، فإن أمرناهما لم يستعصيا، فاحذروا إصراركم على تكذيبكم فنعاقبكم أشد العقوبة. ( إِنَّ فِي ذَلِكَ ) أي: خلق السماوات والأرض،  وما فيهما من المخلوقات (لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ )

فائدة: كلما كان العبد أعظم إنابة إلى اللّه، كان انتفاعه بالآيات أعظم، ولا تنكشف أسرار القرآن إلا بعد الإنابة إلى الله،ولأن المنيب مقبل إلى ربه، قد توجهت إراداته وهماته لربه، ورجع إليه في كل أمر من أموره فصار قريبا من ربه، ليس له هم إلا الاشتغال بمرضاته، فيكون نظره للمخلوقات نظر فكرة وعبرة، لا نظر غفلة غير نافعة.

ويؤيده قوله تعالى: (تَبْصِرَةً وَذِكْرَىٰ لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) ﴿ق  ٨﴾‏ ، وقال سبحانه العالم:( وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ )﴿غافر ١٣﴾‏  إذا لم تكن منيباً ... لن تفهم القرآن !!  

No comments:

Post a Comment