Friday 10 February 2023

تفسير سورة البقرة ح31 أحكام الصيام2 والاعتكاف

  


     تفسير سورة البقرة- ح ٣١

                    نتابع الحديث في أحكام الصيام           

 التيسير هو سمة هذه الشريعة السمحة

 (ۚ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ)

ما يأمر به الله تعالى، وما نهى عنه فإنما هو لإصلاح النفوس

(كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

النهي عن أكل المال  الغير بالباطل

 

 

محور مواضيع هذا لجزء:

-تابع أحكام الصيام؛ وما يسر الله لعباده فيه.

-ختم تعالى أحكام الصيام بذكر أحكام الإعتكاف، ليحث المسلم على أن يقتدي بنبيه الكريم في الإعتكاف في العشر الأواخر من رمضان.

- النهي عن أكل أموال الناس بالباطل؛ ما الباطل المقصود؟

التفسير:

قوله تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)  (١٨٧)

قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ) أُحِلَّ لَكُمْ ؛ لفظ أحل يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ، والصيام فرض على المسلمين في شعبان من السنة الثانية للهجرة، فصام رسول الله ﷺ تسع رمضانات. وكل ما أحل الله وحرم من الأعمال في رمضان نزل مع فرضه.

وفي أسباب النزول: روى ابن حجر العسقلاني،  قال عنِ القاسِمِ بنِ محمدٍ بن أبي بكر قالَ: "إنَّ بَدْءَ الصَّومِ: كانَ يصومُ الرجلُ من عِشاءٍ إلى عشاءٍ ، فإذَا نامَ لمْ يَصِلْ إلى أهلِهِ بعدَ ذلكَ ولمْ يأكُلْ ولمْ يشرَبْ حتَّى جاءَ عُمَرُ إلى امرأَتِهِ فقالتْ: إنِّي قد نمْتُ، فَوَقَعَ بهَا." (ضعيف)

-وروى البخاري عن البراء قال: " كانَ أصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ إذَا كانَ الرَّجُلُ صَائِمًا، فَحَضَرَ الإفْطَارُ، فَنَامَ قَبْلَ أنْ يُفْطِرَ؛ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ ولَا يَومَهُ حتَّى يُمْسِيَ، وإنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأنْصَارِيَّ كانَ صَائِمًا، فَلَمَّا حَضَرَ الإفْطَارُ أتَى امْرَأَتَهُ، فَقالَ لَهَا: أعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قالَتْ: لا، ولَكِنْ أنْطَلِقُ فأطْلُبُ لَكَ، وكانَ يَومَهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قالَتْ: خَيْبَةً لَكَ! فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عليه، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ ﷺ، فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) (١٨٧)، فَفَرِحُوا بهَا فَرَحًا شَدِيدًا، ونَزَلَتْ: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ)  (١٨٧)

-وفي البخاري أيضا عن البراء بن عازب قال :" لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضانَ كانُوا لا يَقْرَبُونَ النِّساءَ رَمَضانَ كُلَّهُ، وكانَ رِجالٌ يَخُونُونَ أنْفُسَهُمْ. فأنْزَلَ اللَّهُ: (عَلِمَ اللَّهُ أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ علَيْكُم وعَفا عَنْكُمْ).

 يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم، وكل من عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب.

 وقال القتبي : أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه، وذكر الطبري: أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي ﷺ وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها . وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي ﷺ فقال: "أعتذر إلى الله وإليك، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر" فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن: (عَلِمَ اللَّهُ أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أنْفُسَكُمْ فَتابَ علَيْكُم وعَفا عَنْكُمْ).

 -الرفث ها هنا الجماع، والرفث في اللغة: التصريح بذكر الجماع والإعراب به.

وقيل: الرفث أصله قول الفحش، يقال: رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح.

وتعدى الرفث بــ( إلى)  في قوله تعالى: (الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ)، ولا يقول العرب: رفثت إلى النساء، ولكن جيء به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة، وليس الكلام فقط، في مثل قوله تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ)﴿النساء ٢١﴾‏.

- قوله تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ): أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد إلى الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب.

وقال بعضهم : يقال:  لما ستر الشيء وداراه : لباس، فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل، كما قال رسول الله ﷺ:" يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فإنَّه أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَن لَمْ يَسْتَطِعْ فَعليه بالصَّوْمِ، فإنَّه له وِجَاءٌ." (عن ابن مسعود –رواه مسلم)، فجعل الصوم نيابة عن الزواج ستر من الوقوع فيما لا يحل له.

وقيل: لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس، ولذلك نهي رسول الله الأزواج عن الحديث فيما يكون بينهما، ففي صحيح مسلم، عن أَبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِﷺ: " إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا " .

 

وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك، وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن. مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض .

- وقوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ) يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَنتُمْ هَـٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ) ﴿البقرة ٨٥﴾‏، يعني يقتل بعضكم بعضا.

وقوله تعالى: (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) يحتمل معنيين: أحدهما –قبول الله توبتهم من خيانتهم لأنفسهم. أو أن تكون توبته تعالى عليهم هي: التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ) ﴿المزمل٢٠﴾‏ عني خفف عنكم في قيام الليل بما تستطيعون. وقوله تعالى: (وَعَفَا عَنكُمْ )، وعفا عنكم يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي ﷺ: "الصلاةُ أولُ الوقتِ رضوانُ اللهِ وآخرهُ عفوُ اللهِ" (رواه النووي عن عبد الله بن عمر-ضعيف) يعني تسهيله وتوسعته، ومعنى علم الله أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة فتاب عليكم بعد ما وقع، أي خفف عنكم وعفا أي سهل. قال ابن العربي عن أهل الزهد: خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة وخفف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه .

وقوله تعالى: (فالآن باشروهن ) كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم . وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه . قال ابن العربي: ( وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس ; لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالآن كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله ) .

وقوله تعالى: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..)، قال ابن عباس وغيره: معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله: (فالآن باشروهن)، وقال ابن عباس : َا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..) ما كتب الله لنا هو القرآن: أي ابتغوا القرآن  لتعلموا ما أبيح لكم فيه وأمرتم به، وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر ، لأن الأحكام في رمضان، وقيل: المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة ، وقيل: وابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزوجات .

وقوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا..)،  هذا جواب نازلة قيس، والأول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم .

(حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ) حتى غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر ، واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك ، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة ، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار . روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ : " لا يَغُرَّنَّكُمْ مِن سَحُورِكُمْ أَذَانُ بلَالٍ، وَلَا بَيَاضُ الأُفُقِ المُسْتَطِيلُ هَكَذَا، حتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا."، وحكاه حماد بيديه قال: يعني معترضا، و وروى مسلم، من حديث ابن مسعود : "إنَّ الفَجْرَ ليسَ الذي يقولُ هَكَذا، وجَمع أصابِعَهُ، ثُمَّ نَكَسَها إلى الأرْضِ، ولَكِنِ الذي يقولُ هَكَذا، ووَضَعَ المُسَبِّحَةَ علَى المُسَبِّحَةِ ومَدَّ يَدَيْهِ" أي أنه معترضا، ليس نازلا.  وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن ثوبان أنه بلغه أن رسول الله ﷺ قال : " هما فجرانِ فأما الذي كأنهَ ذنبُ السرحانِ فإنهِ لا يحلُّ شيئا ولا يحرّمهُ وأما المستطيلُ الذي عارضَ الأفقَ ففيهِ تحلُّ الصلاةَ ويحرمُ الطعامُ " هذا مرسل.

 وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال . وقال مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت، وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول اللهﷺ ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع .

- وفي البخاري عن حفصة أن النبي ﷺ قال : "من لَم يُجمعِ الصِّيامَ قبلَ الفجرِ ، فلا صيامَ لَهُ." وفي الحديث دليل على ما قاله الجمهور في الصيام وأو التوقف عن الأكل إنما هو لظهور الفجر ،وبيان أنه لا صيام لمن لم يبيت نية قبل الفجر.

و الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر ، فكيف يقال: إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز . وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال : نزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد ( مِنَ الْفَجْرِ ۖ) فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار .

 وعن عدي بن حاتم قال قلت : "قُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ: ما الخَيْطُ الأبْيَضُ، مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ أهُما الخَيْطَانِ، قَالَ: إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا، إنْ أبْصَرْتَ الخَيْطَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: لا بَلْ هو سَوَادُ اللَّيْلِ، وبَيَاضُ النَّهَارِ." أخرجه البخاري ، وسمي الفجر خيطا لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط .

والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث ، وأصله الشق ، فلذلك قيل لما يظهر من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: فجر؛  لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض.

- (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ) جعل الله جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما ، فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض ، كما تقدم بيانه.

ما حكم من أفطر في رمضان من غير من ذُكر – أي ليس مريضا، ولا مسافرا- فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا ، فإن كان الأول فقال مالك : من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة ، لما رواه في موطئه ، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة ،: " أنَّ رَجُلًا وَقَعَ بامْرَأَتِهِ في رَمَضَانَ، فَاسْتَفْتَى رَسولَ اللهِ ﷺ عن ذلكَ، فَقالَ: " هلْ تَجِدُ رَقَبَةً؟ قالَ: لَا، قالَ: وَهلْ تَسْتَطِيعُ صِيَامَ شَهْرَيْنِ؟ قالَ: لَا، قالَ: فأطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا. [وفي رواية]: أنَّ رَجُلًا أَفْطَرَ في رَمَضَانَ، فأمَرَهُ رَسولُ اللهِ ﷺ أَنْ يُكَفِّرَ بعِتْقِ رَقَبَةٍ...، ثُمَّ ذَكَرَ بمِثْلِ حَديثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وبهذا قال الشعبي ، وقال الشافعي وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع ، وفيه ذكر الكفارة على الترتيب، أخرجه مسلم وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة ، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان.

فتوى: سئل ابن باز؛ ما حكم من أفطر في رمضان بدون عذر؟

فأجاب: حكمه أنه عاص لله، وعليه التوبة، وقضاء اليوم، إذا أفطر في رمضان من دون عذر؛ فهو قد عصى ربه، وتعرض لغضبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وعليه التوبة، والقضاء، عليه التوبة حالًا والقضاء بعد رمضان.

وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر .

ما يجب على المرأة يطؤها زوجها في رمضان، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي : عليها مثل ما على الزوج، وقال الشافعي: ليس عليهما إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ؛ لأن النبي ﷺ أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل .

أما من جامع ناسيا لصومه أو أكل ، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق: ليس عليه في الوجهين شيء، لا قضاء ولا كفارة ، وقال مالك والليث والأوزاعي : عليه القضاء ولا كفارة ، وروي مثل ذلك عن عطاء . وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع ، وقال: مثل هذا لا ينسى ، وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ; لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد.

إن كل من أكل أو شرب ناسيا : فلا قضاء عليه وإن صومه تام ، لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: "مَن أكَلَ ناسِيًا وهو صائِمٌ، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ؛ فإنَّما أطْعَمَهُ اللَّهُ وسَقاهُ." (البخاري) في رواية عند الدارقطني- "وليتم صومه، فإنما هو رزقٌ ساقَه اللهُ عزَّ وجلَّ إليهِ ". قال : إسناد صحيح وكلهم ثقات.

ما صحة صوم من قبل وباشر: يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم . روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم ، وهذا - والله أعلم - خوف ما يحدث عنهما ، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه، وكذلك إن باشر. وروى البخاري عن عائشة قالت:  "كانَ النبيُّ ﷺَ يُقَبِّلُ ويُبَاشِرُ وهو صَائِمٌ، وكانَ أمْلَكَكُمْ لِإِرْبِهِ" .وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعروة بن الزبير ، وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه ، والحديث حجة عليهم . قال أبو عمر : ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه ، فإن قبل فأمنى عليه القضاء ولا كفارة، وقيل عليه الكفارة.

- صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، قال القاضي أبو بكر بن العربي: وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح .وهذا مذهب الجمهور، لحديث عائشة رضي الله عنها وأم سلمة: " إنْ كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ لَيُصْبِحُ جُنُبًا مِن جِمَاعٍ، غيرِ احْتِلَامٍ في رَمَضَانَ، ثُمَّ يَصُومُ.". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "قَدْ كانَ رَسولُ اللهِ ﷺ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ في رَمَضَانَ وَهو جُنُبٌ، مِن غيرِ حُلُمٍ، فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ"(لبخاري ومسلم)،  وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى: (فالآن باشروهن .. ) الآية ، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر، فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر.

-الحائض التي تطهر قبل الفجر ولم تغتسل: اختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح ، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب،

وقال عبد الملك : إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ؛ لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم ، والحيضة تنقضه . وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال، وقول الجمهور أولى.

وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها.

وقوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ..)  أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف. وإلى غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقوله اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة ، والمبيع شجر ، فإن الشجرة داخلة في المبيع. بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار ، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليس من جنسه ، فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار .

وقوله : ( إِلَى اللَّيْلِ ۚ..)، فإن ظن أن الشمس قد غابت لغيم أو غيره ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء، وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: "أَفْطَرْنَا علَى عَهْدِ النَّبيِّ ﷺ يَومَ غَيْمٍ، ثُمَّ طَلَعَتِ الشَّمْسُ. قيلَ لِهِشَامٍ: فَأُمِرُوا بالقَضَاءِ؟ قالَ: لا بُدَّ مِن قَضَاءٍ. " قال الحسن البصري: لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر، وقول الله تعالى: إلى الليل يرد هذا القول، والله أعلم .

وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر ، دليل على استحباب السحور ; لأنه من باب الرخصة ، والأخذ بها محبوب ; ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله ﷺبالحث على السحور -لأنه من باب الرخصة والأخذ بها  مستحب- ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ : " تسحروا فإن في السحور بركة "، وفي صحيح مسلم ، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : " إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر " .

وفي البخاري: عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ : " تَسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحُورِ بَرَكَةً. "

وقوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ) عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان ، فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلا ونهارا حتى يقضي اعتكافه .

وقال الضحاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد ، جامع إن شاء ، فقال الله تعالى : (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ) أي : لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهد، وقتادة وغير واحد إنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الآية .

وهذا هو الأمر المتفق عليه عند العلماء: أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفا في مسجده ، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يتلبث فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك، من قضاء الغائط، أو أكل، وليس له أن يقبل امرأته، ولا يضمها إليه، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه، ولا يعود المريض ، لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه .

وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام ، أو في آخر شهر الصيام ، كما ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان ، حتى توفاه الله ، عز وجل . ثم اعتكف أزواجه من بعده . أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها .

وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي ﷺ وهو معتكف في المسجد ، فتحدثت عنده ساعة ، ثم قامت لترجع إلى منزلها وكان ذلك ليلا فقام النبي ﷺ ليمشي معها حتى تبلغ دارها ، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة ، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي ﷺ أسرعا وفي رواية: تواريا أي حياء من النبي ﷺ لكون أهله معه، فقال لهما النبيﷺ: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي " أي: لا تسرعا ، واعلما أنها صفية بنت حيي، أي : زوجتي. فقالا سبحان الله يا رسول الله، فقال ﷺ: " إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا " أو قال : " شرا " .

ثم المراد بالمباشرة : إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل، ومعانقة ونحو ذلك ، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به ; فقد ثبت في الصحيحين، عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت : كان رسول الله ﷺ يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . قالت عائشة: ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة .

وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ) أي : هذا الذي بيناه ، وفرضناه ، وحددناه من الصيام ، وأحكامه ، وما أبحنا فيه وما حرمنا ، وذكر غاياته ورخصه وعزائمه، حدود الله، أي: شرعها الله وبينها بنفسه (فَلَا تَقْرَبُوهَا ) أي : لا تجاوزوها ، وتعتدوها .

( كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ) أي : كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله ، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد ﷺ ( لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) أي: يعرفون كيف يهتدون ، وكيف يطيعون كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ) ﴿ الحديد ٩﴾

وقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)  (١٨٨)

الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد ﷺ، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق، فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق ، وما لا تطيب به نفس مالكه ، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه ، كمهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك، وأضيفت الأموال إلى ضمير المنهي لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه ، كما قال : ولا تقتلوا أنفسكم. وقال قوم: المراد بالآية ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة ، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين .

-من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي ; لأنه إنما يقضي بالظاهر، وهذا إجماع في الأموال، وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله ﷺ:" إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار "- في رواية - فليحملها أو يذرها ، وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء ، وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن ، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج ،

قوله تعالى : (بالباطل) الباطل في اللغة : الذاهب الزائل ، يقال : بطل يبطل بطولا وبطلانا ، وجمع الباطل بواطل ، والأباطيل جمع البطولة . وتبطل أي اتبع اللهو ، وأبطل فلان إذا جاء بالباطل ، وقوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴿٤١﴾‏ لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ..) ﴿فصلت٤٢﴾‏، قال قتادة : الباطل: هو إبليس، لا يزيد في القرآن ولا ينقص، وقوله تعالى: (وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إ..) ﴿الشورى: ٢٤﴾‏ يعني الشرك ، والبطلة : السحرة .

قوله تعالى : (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ..)الآية . قيل : هو مال اليتيم الذي هو في أيدي الأوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة، وقال الزجاج: تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق .

يقال : أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به ، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر ، يقال: أدلى دلوه : أرسلها ، ودلاها : أخرجها ، وجمع الدلو والدلاء : أدل ودلاء ودلي .

والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة ، وهو كقوله : (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) ﴿البقرة ٤٢﴾‏. وهو من قبيل قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وقيل: المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها ، قال ابن عطية : وهذا القول يترجح ; لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل ، وأيضا فإن اللفظين متناسبان : تدلوا من إرسال الدلو ، والرشوة من الرشاء ، كأنه يمد بها ليقضي الحاجة .

والرشوة معروفة ، والرشوة بالضم مثله ، والجمع رشى ورشى ، وقد رشاه يرشوه ، وارتشى : أخذ الرشوة ، واسترشى في حكمه : طلب الرشوة عليه  .فالحكام اليوم عين الرشا لا مظنته ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ! .

قوله تعالى : (لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) نصب بلام كي . فريقا أي قطعة وجزءا ، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض ، والفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها، وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس . بالإثم معناه بالظلم والتعدي ، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله . وأنتم تعلمون أي بطلان ذلك وإثمه ، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية .

اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه .عن أبي بكرة نفيع بن حارث قال: قال ﷺ:  " إنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوَالَكُمْ - قالَ مُحَمَّدٌ وأَحْسِبُهُ قالَ - وأَعْرَاضَكُمْ، علَيْكُم حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، ألَا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الغَائِبَ. وكانَ مُحَمَّدٌ يقولُ: صَدَقَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ، كانَ ذلكَ ألَا هلْ بَلَّغْتُ مَرَّتَيْنِ. " (البخاري)

والله أعلم

No comments:

Post a Comment