Friday 10 March 2023

تفسير سورة البقرة 34 الحج أشهر معلومات

   

تفسير سورة البقرة- ح ٣٤

       ذكر الحج وأحكامه- تفاصيل ما أباح الله للحاج، وما تهاه عنه، وما حرم فيه

 (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ...)

ما هي أشهر الحج؟ وهل يعني أن يحج المسلم في أي منهن؟

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ)

جمع في هذه الآية الأمر بالتزود للدنيا والآخرة- وحثهم على ذكره ففيه الخير كله

(فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ)

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-أشهر الحج ثلاثة هي  شوال وذو القعدة وذو الحجة.

-أبطل الله تعالى دعوى قريش بأنهم أهل الحرم لا يجوز لهم الإنتقال منه إلى عرفة.

-تتجلى في هذه الآيات عناية الله تعالى بعباده المؤمنين بإرشادهم إلى العمل بما فيه خيري الدنيا والآخرة ، ثم يثيبه عليه.

-الأيام المعدودات أيام التشريق، والأيام المعلومات أيام العشر من ذي الحجة.

- الذكر الذي هو خيري الدنيا والآخرة:

وقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)  (١٩٧)  

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ)  وظاهره التقدير الذي ذهب إليه النحاة ، هو أن: وقت الحج أشهر معلومات، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة، فدل على أنه لا يصح قبلها، كميقات الصلاة . قال الشافعي ، رحمه الله: عن ابن عباس، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج، من أجل قول الله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ)

عنه أنه قال : من السنة ألا يحرم [ بالحج ] إلا في أشهر الحج .

وقال ابن خزيمة في صحيحه : عن ابن عباس ، قال : لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ، فإن من سنة الحج أن يحرم بالحج في أشهر الحج . وهذا إسناد صحيح ، وقول الصحابي : " من السنة كذا " في حكم المرفوع عند الأكثرين ، ولا سيما قول ابن عباس تفسيرا للقرآن وهو ترجمانه .

وقد ورد فيه حديث مرفوع ، قال ابن مردويه : عن جابر ، عن النبيﷺأنه قال : " لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في أشهر الحج " .(إسناده لا بأس به ). وروى الشافعي، والبيهقي من طرق ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل: أيهل بالحج قبل أشهر الحج ؟ فقال : لا" . وهذا الموقوف أصح وأثبت من المرفوع، ويبقى حينئذ مذهب صحابي ، يتقوى بقول ابن عباس : " من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهره " . والله أعلم .

وقوله : ( أشهر معلومات ) قال البخاري : قال ابن عمر: "هي شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة ." وهذا الذي علقه البخاري عنه بصيغة الجزم رواه ابن جرير موصولا عن ابن عمر : (الحج أشهر معلومات ) قال : "شوال، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ."إسناد صحيح، وقد رواه الحاكم أيضا في مستدركه وقال: على شرط الشيخين، ولم يسم الله تعالى أشهر الحج في كتابه؛ لأنها كانت معلومة عندهم.

واختار هذا القول ابن جرير ، قال : وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب، كما تقول العرب : " زرته العام، ورأيته اليوم". وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم؛ قال الله تعالى: (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ( البقرة٢٠٣) وإنما تعجل في يوم ونصف .

وقال الإمام مالك بن أنس- والشافعي في القديم -: هي؛ شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله . وهو رواية عن ابن عمر أيضا

وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة ، بمعنى أنه مختص بالحج ، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة ، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر .

وقال ابن أبي حاتم : عن طارق بن شهاب ، قال: قال عبد الله : الحج أشهر معلومات، ليس فيها عمرة . وهذا إسناد صحيح .

قال ابن جرير : إنما أراد من ذهب إلى أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة ، إنما هي للحج ، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى، كما قال محمد بن سيرين: ما أحد من أهل العلم يشك في أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج .

وقال ابن عون: سألت القاسم بن محمد، عن العمرة في أشهر الحج، فقال : كانوا لا يرونها تامة .

قلت: وقد ثبت عن عمر وعثمان، رضي الله عنهما، أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج، وينهيان عن ذلك في أشهر الحج ، والله أعلم .

وقوله : (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) أي : أوجب على نفسه بإحرامه حجا . فيه دلالة على لزوم الإحرام بالحج والمضي فيه . قال ابن جرير : المراد من الفرض هاهنا الإيجاب والإلزام .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : (فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) يقول: من أحرم بحج أو عمرة . وقال عطاء: الفرض الإحرام .

وقال ابن جريج : أخبرني عمر بن عطاء، عن عكرمة ، عن ابن عباس: أنه قال ( فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ) فلا ينبغي أن يلبي بالحج ثم يقيم بأرض .

وقال طاوس ، والقاسم بن محمد : هو التلبية .

وقوله : ( فلا رفث ) أي : من أحرم بالحج أو العمرة ، فليجتنب الرفث، والرفث: وهو الجماع، كما قال تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ) ، وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك ، وكذا التكلم به بحضرة النساء .

قال ابن جرير : أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك: من الرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم .

الرفث الإفحاش للمرأة بالكلام، كقوله : إذا أحللنا فعلنا كذا وكذا، عن  أبي حصين بن قيس، قال: أصعدت مع ابن عباس في الحاج ، وكنت خليلا له، فلما كان بعد إحرامنا قال ابن عباس، و هو  يرتجز ، ويقول :وهن يمشين بنا هميسا إن يصدق الطير ننل لميسا

قال : فقلت له : أترفث وأنت محرم ؟ فقال: إنما الرفث ما قيل عند النساء .

وقال عبد الله بن طاوس، عن أبيه: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى: (فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ) قال: الرفث التعريض بذكر الجماع، وهو أدنى الرفث .

وقال عطاء بن أبي رباح: الرفث: الجماع ، وما دونه من قول الفح ، وكذا قال عمرو بن دينار . وقال عطاء: كانوا يكرهون العرابة، وهو التعريض بذكر الجماع وهو محرم .

وقال طاوس: هو أن تقول للمرأة: إذا حللت أصبتك .

وقوله: (وَلَا فُسُوقَ) ،  عن ابن عباس : هي المعاصي .

وقال محمد بن إسحاق، عن نافع ، عن ابن عمر قال: الفسوق: ما أصيب من معاصي الله به صيد أو غيره . وكذا روى عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم .

وقال آخرون : الفسوق هاهنا السباب ، قاله ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومجاهد ، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح، عن عبد الله بن مسعود: " سِبابُ المُسْلِمِ فُسُوقٌ، وقِتالُهُ كُفْرٌ"( البخاري) .

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الفسوق هاهنا: الذبح للأصنام. قال الله تعالى : ( أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) ( الأنعام١٤٥) .

وقال الضحاك : الفسوق : التنابز بالألقاب،  لقوله تعالى:( وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)  ﴿الحجرات١١﴾‏

والذين قالوا : الفسوق هاهنا هو جميع المعاص، وهو الصواب ، كما هو واضح بما سبق، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم، وإن كان في جميع السنة منهيا عنه، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد؛ ولهذا قال: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ) ( التوبة ٣٦ )، وقال في الحَرم : (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) ( الحج ٢٥ ) .

واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا : هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام، من قتل الصيد، وحلق الشعر ، وقلم الأظفار ، ونحو ذلك ، كما تقدم عن ابن عمر . وما ذكرناه أولى، ويجوز أن يجمع هذا مع ما سبق، والله أعلم .

وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : "مَن حَجَّ هذا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَومِ ولَدَتْهُ أُمُّهُ." ( البخاري)

وقوله : (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ) فيه قولان :

أحدهما : ولا مجادلة في وقت الحج وفي مناسكه، وقد بينه الله أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح . عن مجاهد قال: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ) قد بين الله أشهر الحج ، فليس فيه جدال بين الناس .

وقال الثوري ،عن مجاهد في قوله: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ) قال : قد استقام الحج ، فلا جدال فيه. .وعن ابن عباس : (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ) قال : المراء في الحج .

قال مالك: قال الله تعالى: (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ) فالجدال في الحج والله أعلم أن قريشا كانت تقف عند المشعر الحرام بالمزدلفة، وكانت العرب وغيرهم يقفون بعرفة، وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء: نحن أصوب. ويقول هؤلاء : نحن أصوب . فهذا فيما نرى، والله أعلم .

والأصح أن يجمع مضمون هذه الأقوال، وهو قطع التنازع في مناسك الحج .

والقول الثاني: أن المراد بالجدال هاهنا : المخاصمة .

قال ابن جرير : عن عبد الله هو ابن مسعود في قوله : (وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ) قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه .وكذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: أن تماري صاحبك حتى تغضبه .

قال الجدال : المراء والملاحاة ، حتى تغضب أخاك وصاحبك ، فنهى الله عن ذلك .

وقال عبد الله بن المبارك:  الجدال الغضب، أن تغضب عليك مسلما، إلا أن تستعتب مملوكا فتغضبه من غير أن تضربه، فلا بأس عليك ، إن شاء الله .

قلت : ولو ضربه لكان جائزا سائغا . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن إدريس ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه : أن أسماء بنت أبي بكر قالت : خرَجْنا مع رسولِ اللهِ ﷺحُجَّاجًا، حتى إذا كُنَّا بالعَرْجِ، نزَلَ رسولُ اللهِ ﷺ ونَزَلْنا، فجلسَتْ عائشةُ إلى جَنبِ رسولِ اللهِ ﷺوجلستُ إلى جنبِ أبي، وكانتْ زِمالةُ أبي بَكرٍ وزِمالةُ رسولِ اللهِ ﷺ واحدةً مع غُلامٍ لأبي بَكرٍ، فجلَسَ أبو بَكرٍ يَنتظِرُ أنْ يَطْلُعَ عليه، فطلَعَ وليس معه بَعيرُه، قال: أين بَعيرُكَ؟ قال: أَضللتُه البارحةَ، قال: فقال أبو بَكرٍ: بعيرٌ واحدٌ تُضِلُّه؟ قال فطَفِقَ أبو بكرٍ يَضرِبُه ورسولُ اللهِ ﷺ يتبسَّمُ، ويقولُ: انظُروا إلى هذا المُحرِمِ ما يَصنَعُ قال ابنُ أبي رِزْمةَ: فما يَزيدُ رسولُ اللهِ ﷺ على أنْ يقولَ: انظُروا الى هذا المُحرمِ ما يَصنَعُ ويتبسَّمُ.

( أخرجه أبو داود، وابن ماجه-إسناده ضعيف)، ولكن يستفاد من قول النبي ﷺ عن أبي بكر : "انظُروا إلى هذا المُحرِمِ ما يَصنَعُ ؟ " كهيئة الإنكار اللطيف أن الأولى ترك ذلك، والله أعلم .

وقد قال الإمام عبد بن حميد في مسنده : حدثنا عبيد الله بن موسى، عن موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ : " مَن قَضَى نُسُكَهُ ، وسَلِمَ المسلمونَ من لسانِه ويدِه ، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبِه " .( ضعيف)

وقوله : (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ) لما نهاهم عن إتيان القبيح قولا وفعلا حثهم على فعل الجميل، وأخبرهم أنه عالم به، وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة .

وقوله : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ) قال العوفي ، عن ابن عباس : كان أناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة ، يقولون: نحج بيت الله ولا يطعمنا . فقال الله : تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس .

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهمَا قالَ: " كانَ أهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ ولَا يَتَزَوَّدُونَ، ويقولونَ: نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة  ١٩٧) ( رواه البخاري).

وروى ابن جرير وابن مردويه عن نافع ، عن ابن عمر ، قال : (كانوا إذا أحرَموا ومعَهم أزوِدَةٌ رموا بِها واستأنفوا زادًا آخرَ فأنزلَ اللَّهُ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)،  فنُهوا عن ذلِكَ وأمروا أن يتزوَّدوا الْكعْكَ والدَّقيقَ والسَّويقَ." ( رواه ابن حجر -إسناده صحيح )

وعن ابن عمر، قال : إن من كرم الرجل طيب زاده في السفر .

قال ابن العربي : " أمر الله تعالى بالتزود لمن كان له مال ، ومن لم يكن له مال فإن كان ذا حرفة تنفق في الطريق أو سائلا فلا خطاب عليه ، وإنما خاطب الله أهل الأموال الذين كانوا يتركون أموالهم ويخرجون بغير زاد ويقولون : نحن المتوكلون والتوكل له شروط

وقوله : (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا أرشدهم إلى زاد الآخرة ، وهو استصحاب التقوى إليها ، كما قال: (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ) ( الأعراف ٢٦) ، لما ذكر اللباس الحسي نبه مرشدا إلى اللباس المعنوي، وهو الخشوع والطاعة والتقوى، وذكر أنه خير من هذا وأنفع .

قال عطاء الخراساني في قوله: (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، يعني: زاد الآخرة .

وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية : ( وتزودوا ) قام رجل من فقراء المسلمين فقال : يا رسول الله ، ما نجد زادا نتزوده . فقال رسول الله ﷺ: " تزود ما تكف به وجهك عن الناس ، وخير ما تزودتم التقوى " . رواه ابن أبي حاتم .وقال ﷺ: " خيرُ الزادِ التقوى ، وخيرُ ما أُلْقِيَ في القلْبِ اليقينُ" (ضعيف الجامع)

وقوله : (ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ)، خص تعالى أولي الألباب بالخطاب - وإن كان الأمر يعم الكل- لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله، وهم قابلو أوامره والناهضون بها، والألباب جمع لب، ولب كل شيء: خلاصته ، ولذلك قيل للعقل: لب، فقال: اتقوا عقابي، ونكالي وعذابي لمن خالفني ولم يأتمر بأمري ، يا ذوي العقول والأفهام

قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)

فقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ)؛ جناح: أي إثم ، وابتغاء الفضل ورد في القرآن بمعنى التجارة ، قال الله تعالى: فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله، والدليل على صحة هذا ما رواه البخاري عن ابن عباس قال: "كَانَتْ عُكَاظُ، ومَجَنَّةُ، وذُو المَجَازِ أسْوَاقًا في الجَاهِلِيَّةِ، فَتَأَثَّمُوا أنْ يَتَّجِرُوا في المَوَاسِمِ، فَنَزَلَتْ" : (ليسَ علَيْكُم جُنَاحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِن رَبِّكُمْ). في مَوَاسِمِ الحَجِّ.

في الآية دليل على جواز التجارة في الحج للحاج مع أداء العبادة، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ولا يخرج به المكلف عن رسم الإخلاص المفترض عليه، وإن الحج دون تجارة أفضل، لعلوها عن شوائب الدنيا وتعلق القلب بغيرها . روى الدارقطني في سننه عن أبي أمامة التيمي قال قلت لابن عمر : إنِّي رَجُلٌ أُكْري في هذا الوَجهِ، وإنَّ ناسًا يقولون: إنَّه لا حَجَّ لكَ، فقال ابنُ عُمَرَ: جاء رَجُلٌ إلى رسولِ اللهِﷺ فسألَه عن مِثلِ هذا الذي سَألْتَني، فسكَتَ حتى نزَلَتْ هذه الآيةُ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ)، قال رسولُ اللهِ ﷺ: إنَّ لكَ حَجًّا. ( رواه الدارقطني- صحيح)

قوله تعالى : (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖۖ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)

قوله تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم..)  أي اندفعتم. يقال: فاض الإناء إذا امتلأ حتى يتصبب عن نواحيه ، ورجل فياض، أي مندفق بالعطاء.

وعرفات : اسم علم ، سمي بجمع كأذرعات، قيل : سميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها ، وقيل : لأن آدم لما هبط وقع بالهند ، وحواء بجدة ، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات.

" عرفات " وإن كان علما على مؤنث؛ لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات، سمي به بقعة معينة، فروعي فيه الأصل، فصرف . اختاره ابن جرير .

وعرفة : موضع الموقف في الحج ، وهي عمدة أفعال الحج ، ولهذا روى الإمام أحمد ، وأهل السنن ، بإسناد صحيح، عن الثوري، عن بكير بن عطاء، عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : " الحجُّ عرفاتٌ ثلاثًا ، فمن أدرك عرفةَ قبل أن يطلُعَ الفجرُ فقد أدرك،  وأيَّامُ منًى ثلاثةٌ فمن تعجَّل في يومَيْن فلا إثمَ عليه ومن تأخَّر فلا إثمَ عليه.( صحيح)

ووقت الوقوف بعرفة: من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، لأن النبي ﷺ وقف في حجة الوداع، بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس، وقال: " لتأخذوا عني مناسككم" .

وقال في هذا الحديث: " فمن أدرك عرفةَ قبل أن يطلُعَ الفجرُ فقد أدرك" وهذا مذهب مالك، وأبي حنيفة، والشافعي رحمهم الله . وعند الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة. واحتجوا بحديث الشعبي ، عن عروة بن مضرس بن حارثة بن لام الطائي قال: أتيت رسول الله ﷺ بالمزدلفة ، حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رَسولَ اللهِ، إنِّي جئتُ مِن جَبَلَي طَيِّئٍ، أكْلَلْتُ راحِلَتي، وأتعَبْتُ نفسي، واللهِ ما تركْتُ مِن جَبَلٍ إلَّا وقَفْتُ عليه، فهل لي من حَجٍّ؟ فقال رَسولُ اللهِ ﷺ: "من شَهِدَ صلاتَنا هذه، وَقَف معنا حتى ندفَعَ، وقد وقف قَبْلَ ذلك بعَرَفةَ ليلًا أو نهارًا، فقد تَمَّ حَجُّه وقضى تَفَثَه " .( صحيح)

عن ابن عباس ، قال : "كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال، كأنها العمائم على رؤوس الرجال، دفعوا ، فأخر رسول الله ﷺ الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس ".

وعن المسور بن مخرمة قال : خطبنا رسول الله ﷺ، وهو بعرفات ، فحمد الله وأثنى عليه . ثم قال: (أمَّا بعدُ فإنَّ أَهلَ الشِّركِ والأوثانِ كانوا يَدفعونَ مِن ها هُنا عندَ غروبِ الشَّمسِ حتَّى تَكونَ الشَّمسُ علَى رؤوسِ الجبالِ مِثلَ عمائمِ الرِّجالِ علَى رؤوسِها هَديُنا مخالفٌ هديَهم،  وَكانوا يدفعونَ منَ المشعرِ الحرامِ عندَ طلوعِ الشَّمسِ علَى رؤوسِ الجبالِ مثلَ عمائمِ الرِّجالِ علَى رؤوسِها هَديُنا مخالفٌ لِهَديِهِم." ( رواه الحاكم في المستدرك- وقال صحيح على شرط الشيخين)

ورواه ابن مردويه ، من حديث زمعة بن صالح ، وزاد :" ثم وقف بالمزدلفة، وصلى الفجر بغلس، حتى إذا أسفر كل شيء وكان في الوقت الآخر، دفع ". وهذا حسن الإسناد .

وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال فيه : فلم يزل واقفا- رسول الله ﷺ -يعني بعرفة،  حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله ﷺ وقد شنق للقصواء الزمام ، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : " أيها الناس ، السكينة السكينة " . كلما أتى جبلا من الجبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبح بينهما شيئا ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة ، فدعا الله وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا ، فدفع قبل أن تطلع الشمس وفي الصحيح عن أسامة بن زيد ، أنه سئل كيف كان يسير رسول الله ﷺ حين دفع ؟ قال : " كان يسير العنق ، فإذا وجد فجوة نص " . والعنق : هو انبساط السير ، والنص ، فوقه .

وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبو محمد ابن بنت الشافعي ، فيما كتب إلي ، عن أبيه أو عمه ، عن سفيان بن عيينة قوله : (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖۖ) وهي الصلاتين جميعا .

وعن عبد الله بن عباس قال: إنَّ رَسولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: "إنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عن وقْتِهِمَا في هذا المَكَانِ: المَغْرِبَ والعِشَاءَ، فلا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حتَّى يُعْتِمُوا، وصَلَاةَ الفَجْرِ هذِه السَّاعَةَ" (البخاري)

عن سفيان بن عيينة قوله: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖۖ)  وهي الصلاتين جميعا .

وعن عمرو بن ميمون: "سأَلتُ عبدَ اللَّهِ بنَ عَمرٍو عنِ المشعَرِ الحرامِ ، فسَكَتَ حتى إذا هَبطت أيدي رواحِلِنا بالمزدَلِفةِ قالَ : أينَ السائلُ عنِ المشعَرِ الحرامِ ؟ هذا المشعَرُ الحَرامُ" ( رواه احمد شاكر- إسناده صحيح)، وقال عبد الرزاق : عن ابن عمر : المشعر الحرام المزدلفة كلها .

عن على بن أبي طالب رضي الله عنه قال: فلمَّا أصبحَ -يعني النَّبيَّ ﷺ ووقَفَ على قُزَحَ، فقال: "هذا قُزَحُ وهو المَوقِفُ، وجَمْعٌ كُلُّها مَوقِفٌ، ونَحرْتُ هاهنا، ومِنًى كُلُّها مَنْحَرٌ، فانحَروا في رِحالِكم."  - قُزح: اِسْم لِمَوْقِفِ الْإِمَام بِمُزْدَلِفَة.

حكم المبيت في المزدلفة:

وأما المبيت بالمزدلفة فليس ركنا في الحج عند الجمهور، وقال مالك: من لم يبت بها فعليه دم، ومن قام بها أكثر ليله فلا شيء عليه؛ لأن المبيت بها ليلة النحر سنة مؤكدة عند مالك وأصحابه ، لا فرض.

 وقال الشافعي : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه، وإن خرج قبل نصف الليل فلم يعد إلى المزدلفة افتدى، والفدية شاة

وكون الحاج يتأخر فيه حتى يصلي الفجر، هذا هو الكمال، ولو انصرف من أثناء الليل أجزأ عند جمع من أهل العلم.

وبعض أهل العلم يراه واجبًا على غير الضعفاء، لأن من واجبات الحج أن يكملوا حتى يقفوا بعد صلاة الفجر. والأظهر أنه ليس بواجب، ولو انصرفوا آخر الليل لأجزأ، ولكن هذا هو السنة تأسيًا به ﷺ، فإنه  وقف بعد صلاة الفجر حتى أسفر ثم انصرف قبل أن تطلع الشمس.( ابن باز)

كيف تصلي المغرب مع العشاء جمعا؟

اختلف العلماء في كيفية إقامتهما: قيل:

 - كأي صلاة صليت في وقتها سنتها أن يؤذن لها وتقام في الجماعة،أي يؤذن ويقيم للمغرب ، ثم يؤذن ويقيم للعشاء

-تصلى الصلاتان جميعا بالمزدلفة بإقامة ولا أذان في شيء منهما ، روي عن ابن عمر قال: جمع رسول الله ﷺ بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة

 - وقيل  تصلى الصلاتان جميعا بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة ، لما روي  عن سعيد بن جبير عن ابن عمر أنه جمع بين المغرب والعشاء بجمع بأذان واحد وإقامة واحدة، لم يجعل بينهما شيئا.

- وعن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما تصليان بأذان واحد وإقامتين – وهذا يوافق ما ورد في حديث مسلم عن فعل رسول الله ﷺ- يؤذن للمغرب ويقام للعشاء فقط ، وإلى هذا ذهب الطحاوي لحديث جابر ، وهو القول الأول وعليه المعول . وقال آخرون: تصلى بإقامتين دون أذان لواحدة منهما ، عن ابن عمر أن النبي ﷺلما جاء المزدلفة جمع بين المغرب والعشاء ، صلى المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة لكل واحدة منهما ولم يصل بينهما شيئا .

 والآثار عن ابن عمر في هذا القول- أن تصلى كل صلاة بإقامة، ولا آذان فيهما- من أثبت ما روي عنه في هذا الباب

وقوله تعالى: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)، قوله تعالى: واذكروه كما هداكم كرر الأمر تأكيدا ، كما تقول : ارم . ارم

-وقيل : الأول أمر بالذكر عند المشعر الحرام، والثاني أمر بالذكر على حكم الإخلاص

-وقيل : المراد بالثاني تعديد النعمة وأمر بشكرها .

 ثم ذكرهم بحال ضلالهم ليظهر قدر الإنعام فقال : وإن كنتم من قبله لمن الضالين والكاف في " كَمَا " نعت لمصدر محذوف ، و " ما " مصدرية أو كافة والمعنى : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة، واذكروه كما علمكم كيف تذكرونه لا تعدلوا عنه .

- (وَإِن كُنتُم )؛ أي قد كنتم، والضمير في " قبله " عائد إلى الهدى، وقيل إلى القرآن ، أي ما كنتم من قبل إنزاله إلا ضالين . والأول أظهر والله أعلم .

وقوله تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)

(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) قيل : الخطاب للحمس- قريش-  فإنهم كانوا لا يقفون مع الناس بعرفات، بل كانوا يقفون بالمزدلفة وهي من الحرم، وكانوا يقولون: نحن قطين الله ، فينبغي لنا أن نعظم الحرم، ولا نعظم شيئا من الحل، وكانوا مع معرفتهم وإقرارهم إن عرفة موقف إبراهيم عليه السلام لا يخرجون من الحرم ، ويقفون بجمع ويفيضون منه ويقف الناس بعرفة ، فقيل لهم: أفيضوا مع الجملة. و (ثُمَّ)  ليست في هذه الآية للترتيب وإنما هي لعطف جملة كلام هي منها منقطعة.  وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: " الحُمْسُ هُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فيهم: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ)، قالَتْ: كانَ النَّاسُ يُفِيضُونَ مِن عَرَفَاتٍ، وَكانَ الحُمْسُ يُفِيضُونَ مِنَ المُزْدَلِفَةِ يقولونَ: لا نُفِيضُ إلَّا مِنَ الحَرَمِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ) رَجَعُوا إلى عَرَفَاتٍ.

دفع رسول الله ﷺوعليه السكينة وقال لهم : أوضعوا في وادي محسر وقال لهم : خذوا عني مناسككم .

- فإذا أتوا منى وذلك غدوة يوم النحر، رموا جمرة العقبة بها ضحى ركبانا إن قدروا، ولا يستحب الركوب في غيرها من الجمار ، ويرمونها بسبع حصيات ، كل حصاة منها مثل حصى الخذف ، فإذا رموها حل لهم كل ما حرم عليهم من اللباس والتفث كله ، إلا النساء والطيب والصيد عند مالك ومن صاد عنده بعد أن رمى جمرة العقبة وقبل أن يفيض كان عليه الجزاء . وقال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور : يحل له كل شيء إلا النساء وهذا هو التحلل الأصغر عند العلماء .

-ويقطع الحاج التلبية بأول حصاة يرميها من جمرة العقبة، وعلى هذا أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها ، وهو جائز مباح عند مالك ، والمشهور عنه قطعها عند زوال الشمس من يوم عرفة.  

والتحلل الأكبر : طواف الإفاضة ، وهو الذي يحل النساء وجميع محظورات الإحرام.

وقوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)

المناسك الذبائح وهراقة الدماء وقيل: هي شعائر الحج ، لقوله عليه السلام : خذوا عني مناسككم . فإذا فعلتم منسكا من مناسك الحج فاذكروا الله وأثنوا عليه بآلائه عندكم، وأبو عمرو يدغم الكاف في الكاف وكذلك ما سلككم لأنهما مثلان وقضيتم هنا بمعنى أديتم وفرغتم .  (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ..)  كانت عادة العرب إذا قضت حجها تقف عند الجمرة ، فتفاخر بالآباء ، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم ، وغير ذلك ، حتى إن الواحد منهم ليقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة ، عظيم الجفنة ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيته فلا يذكر غير أبيه ، فنزلت الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية، هذا قول جمهور المفسرين.

- وقال ابن عباس: معنى الآية واذكروا الله كذكر الأطفال آباءهم وأمهاتهم: أبيه أمه ؛ أي فاستغيثوا به والجئوا إليه كما كنتم تفعلون في حال صغركم بآبائكم .

ويقول: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ) أي : بل أشد ذكرا.

وقوله تعالى: (فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ)

كانت العرب في الجاهلية تدعو في مصالح الدنيا فقط، فكانوا يسألون الإبل والغنم والظفر بالعدو، ولا يطلبون الآخرة، إذ كانوا لا يعرفونها ولا يؤمنون بها ، فنهوا عن ذلك الدعاء المخصوص بأمر الدنيا ، وجاء النهي في صيغة الخبر عنهم.

- ويجوز أن يتناول هذا الوعيد المؤمن أيضا إذا قصر دعواته في الدنيا-نسأل الله العفو ةالعافية-، و هذا فما له في الآخرة من خلاق أي كخلاق الذي يسأل الآخرة، والخلاق النصيب .

وسؤال الله هي نعمة منحها ربنا لعباده، واختص نفسه فقط بالإجابة، وأن يجيب بخير ما ينفع السائل، فلله الحمد والفضل والمنة.

وقوله تعالى: (وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)

وهنا نبه تعالى إلى دعاء جمع خيري الدنيا والآخرة، ففي هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر ، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هنيء ، وثناء جميل ، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ، ولا منافاة بينها ، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا . وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام .

وقال القاسم بن عبد الرحمن : من أعطي قلبا شاكرا ، ولسانا ذاكرا ، وجسدا صابرا ، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار . ومن دعاء رسول الله :

رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الهُدَى إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا أَوَّاهاً مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي

ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري: عن أنس بن مالك قال : كان النبي ﷺ يقول : " اللهم ربنا ، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار " .

حدثنا عبد السلام بن شداد يعني أبا طالوت قال : كنت عند أنس بن مالك ، فقال له ثابت : إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم . فقال: "اللهم آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ". وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام ، قال : يا أبا حمزة ، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال : تريدون أن أشقق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله .

وقال أحمد أيضا : عن أنس ، أن رسول الله ﷺ عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ . فقال له رسول الله ﷺ: " هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه ؟ " قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا . فقال رسول الله ﷺ: " سبحان الله لا تطيقه، أو لا تستطيعه، فهلا قلت: "رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ."  قال : فدعا الله، فشفاه .(مسلم)

وقال الإمام الشافعي : عن عبد الله بن السائب : أنه سمع النبي ﷺ يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود : ( رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.) .

(أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) ، جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أجرت نفسي من قوم على أن يحملوني، ووضعت لهم من أجرتي على أن يدعوني أحج معهم، أفيجزي ذلك؟ فقال: أنت من الذين قال الله فيهم: (أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ)  ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

(وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

الأيام المعدودات " أيام التشريق، و " الأيام المعلومات" أيام العشر . وقال عكرمة : (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ) يعني: التكبير أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات: الله أكبر، الله أكبر .وقال الإمام أحمد: عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ : " إنَّ يومَ عرفةَ ويومَ النَّحرِ وأيَّامَ التَّشريقِ عندَنا أَهلَ الإسلامِ وَهيَ أيَّامُ أَكلٍ وشربٍ" .

وقال الإمام أحمد أيضا: عن نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله ﷺ: " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله " . رواه مسلم أيضا

 ومن حديث جبير بن مطعم : " عرفة كلها موقف ، وأيام التشريق كلها ذبح "

و عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: " أيام التشريق أيام طعم وذكر " .

وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى: " لا تصوموا هذه الأيام ، فإنها أيام أكل وشرب، وذكر الله، عز وجل ".

وعن الزهري ، قال : بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن حذافة ، فنادى في أيام التشريق فقال : "إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله، إلا من كان عليه صوم من هدي " .

وعن عائشة قالت : نهى رسول الله ﷺعن صوم أيام التشريق ، قال: " هي أيام أكل وشرب وذكر الله " .

والقول الأول هو المشهور وعليه دل ظاهر الآية الكريمة ، حيث قال : (فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ) فدل على ثلاثة ايام من الحج بعد النحر .

ويتعلق بقوله : ( واذكروا الله في أيام معدودات) ؛ ذكر الله على الأضاحي، وقد تقدم ، وأن الراجح في ذلك مذهب الشافعي ، رحمه الله ، وهو أن وقت الأضحية من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق . ويتعلق به أيضا الذكر المؤقت خلف الصلوات ، والمطلق في سائر الأحوال . وفي وقته أقوال للعلماء ، وأشهرها الذي عليه العمل أنه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهو آخر النفر الآخر . وقد جاء فيه حديث رواه الدارقطني ، ولكن لا يصح مرفوعا والله أعلم . وقد ثبت أن عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كان يكبر في قبته ، فيكبر أهل السوق بتكبيره ، حتى ترتج منى تكبيرا .

ويتعلق بذلك أيضا التكبير وذكر الله عند رمي الجمرات كل يوم من أيام التشريق . وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره : " إنَّما جُعِلَ الطوافُ والسعيُ بينَ الصفا والمَروةِ ورَميُ الجِمارِ؛ لإقامةِ ذِكرِ اللهِ عزَّ وجلَّ.( ضعفه الألباني)

ولما ذكر الله تعالى النفر الأول والثاني، وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف ، قال : ( واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون ) أي : تجتمعون يوم القيامة، كما قال: ( وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون ) (المؤمنون ٧٩) .

ولله الحمد والفضل والمنة.

 

 

No comments:

Post a Comment