Friday 3 March 2023

تفسير سورة البقرة ح33 وأتموا الحج والعمرة لله

  

تفسير سورة البقرة- ح ٣٣

                  ذكر الحج وأحكامه- وأن العمل لا يتقبل منه إلا ما كان لله

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)

ما هي أنواع الأحرام بالحج، وما الفرق بينها

(فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)

واستثني من حج التمتع حاضري المسجد الحرام

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-ما هي أشهر الحج؟ وهل يجوز الإحرام بحج في أي شهر من العام؟

- )فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ( صور الحصر، واحكامه.

- خصص ساكنى المسجد الحرام بالنهي عن حج التمتع، في قوله: ( ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ..)  

 

التفسير:

 

قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ۗ ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (١٩٦)

يقول تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ) واتمامهما هو أداؤهما أي الإتيان بهما تامتين، وهذا المعنى على من أوجب العمرة، ومن لم يوجبها قال: المراد تمامهما بعد الشروع فيهما، فإن من أحرم بنسك وجب عليه المضي فيه ولا يفسخه، ويتوجب أيضا فيهما النية  وقال سفيان الثوري : إتمامهما أن تخرج قاصدا لهما لا لتجارة – وإن كان يحل له التجارة على ما سيأتي، لكن أن تكون النية هي الإتيان بهما- ولا لغير ذلك، ويقوي هذا قوله " لله " . وقال مقاتل: إتمامهما ألا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم ، وذلك أنهم كانوا يشركون في إحرامهم فيقولون : لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، فقال: فأتموهما ولا تخلطوهما بشيء آخر

وقيل أدائها هو أن يحرم من مكانه، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك"- أي من بيتك- وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم. واستدلوا بحديث عند أبي داود والدارقطني ؛ عن أم سلمة رضي الله عنها، عن رسول الله ﷺ قال: "مَن أحْرَمَ من بَيتِ المَقدِسِ بِحَجٍّ أو عُمرةٍ، كان من ذُنوبِه كَهَيْئةِ يَومِ وَلَدَتْه أُمُّه." (تحقيق شعيب الأرناؤوط- ضعيف)

هل يصح الإحرام من مكان قبل الميقات؟

روي عن ذلك عن عمر بن الخطاب، وأنه أنكر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على ابن عمر إحرامه قبل الميقات، وقال أحمد وإسحاق: وجه العمل المواقيت، ومن الحجة لهذا القول أن رسول الله ﷺوقت المواقيت وعينها ، فصارت بيانا لمجمل الحج ، ولم يحرم ﷺ من بيته لحجته، بل أحرم من ميقاته الذي وقته لأمته، وما فعله ﷺ فهو الأفضل، وبقول عائشة : " ما خُيِّرَ رَسولُ اللهِ ﷺ بيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُما أَيْسَرُ مِنَ الآخَرِ، إلَّا اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا، ما لَمْ يَكُنْ إثْمًا، فإنْ كانَ إثْمًا، كانَ أَبْعَدَ النَّاسِ منه. "(مسلم)، ومع ما ذكر عن الصحابة في ذلك، وقد شهدوا إحرام رسول الله ﷺ في حجته من ميقاته،وعلموا أن إحرامه من ميقاته كان تيسيرا على أمته .

هل من أحرم من مكان قبل الميقات صح إحرامه؟

أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم ، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل، كراهية أن يضيِّق المرء على نفسه ما قد وسع الله عليه، وأن يتعرض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك؛ لأنه زاد ولم ينقص

المواقيت التي حددها رسول اللهﷺ :

الثانية : روى الأئمة أن رسول الله ﷺ وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ول أهل الشام  ومصر ومن في طريقهم “الجحفة” وهي فى الشمال الغربي من مكة، ولأهل نجد قرن ولأهل اليمن يلملم ، وقت لأهل المشرق  ويدحل فيها أهل العراق؛ العقيق وفي حديث صحيح أنه وقت لأهل العراق ذات عرق، وقالوا: أن العقيق أحوط عندهم وأولى من ذات عرق.

 والمواقيت هذه لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة ، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة يهلون منها.

لفته من رسول الله:

وقد حدد رسول الله ﷺ المواقيت لبلاد الشام – مصر- والعراق، ولم تكن بلاد مسلمة، وهذا يدل على أنه مؤيد من الله تعالى يوحي له غير القرآن، يعلمه أنه سيدخلهما الإسلام.

هل العمرة واجبة مثل الحج ولو مرة في العمر،  أم سنة أو مستحبة؟

قوله تعالى: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ ..) فقد قرن تعالى بين الحج والعمرة في الأمر بالإتمام ، هذا دليل على وجوب العمرة ؛ لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج . قال الصبي بن معبد: " أتيتُ عمرَ بنَ الخطَّابِ فقلتُ لَهُ يا أميرَ المؤمنينَ إنِّي كنتُ رجلاً أعرابيًّا نصرانيًّا وإنِّي أسلمتُ وأنا حريصٌ على الجِهادِ وإنِّي وجدتُ الحجَّ والعمرةَ مَكتوبينِ علىَّ فأتيتُ رجلاً من قومي فقالَ لي اجمعْهما واذبح ما استيسرَ منَ الْهديِ وإنِّي أَهللتُ بِهما معًا. فقالَ لي عمرُ رضي الله عنه هديتَ لسنَّةِ نبيِّكَ ﷺ." ( صححه الألباني في صحيح ابي داود)،  قال ابن المنذر : ولم ينكر عليه قوله : "وجدت الحج والعمرة مكتوبتين علي" ، أي أنه أقر بوجوبهما.

 قال علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس ، وروى الدارقطني عن ابن جريج قال : أخبرني نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول : ليس من خلق الله أحد إلا عليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع ذلك سبيلا ، فمن زاد بعدها شيئا فهو خير وتطوع .وعن عكرمة أن ابن عباس قال : العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلا.

النية في الحج والعمرة والتلبية بهما:

وقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ ..)،ومن تمام العبادة حضور النية، وهي فرض كالإحرام عند الميقات ، لقوله ﷺلما ركب راحلته للحج: "لبيك بحجة وعمرة معا ".

عن الشافعي قال: ولو لبى رجل ولم ينو حجا ولا عمرة لم يكن حاجا ولا معتمرا، ولو نوى ولم يلب حتى قضى المناسك كان حجه تاما، واحتج بحديث النبي ﷺ : "إنما الأعمال بالنيات"

وقوله تعالى:  (..فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ)، الإحصار هو المنع من الوجه الذي تقصده بالعوائق جملة " فجملة " أي بأي عذر كان، كان حصر عدو أو جور سلطان أو مرض أو ما كان.

ورأى أكثر أهل اللغة على أن " أحصر " عرض للمرض ، و " حصر " نزل به العدو . وقال الفراء : هما بمعنى واحد في المرض والعدو، وهو ما اصطلحوا عليه.

وأصل الحصر الحبس قالت الحنفية : المحصر من يصير ممنوعا من مكة بعد الإحرام بمرض أو عدو أو غير ذلك.

وعند الشافعي وأهل المدينة: المراد بالآية حصر العدو ؛ لأن الآية نزلت في سنة ست في عمرة الحديبية حين صد المشركون رسول الله ﷺ عن مكة . قال ابن عمر : خرجنا مع رسول الله ﷺ فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي ﷺهديه وحلق رأسه، ودل على هذا قوله تعالى: (فإذا أمنتم )، ولم يقل: برأتم، والله أعلم .

-جمهور الناس على أن المحصر بعدو يحل حيث أحصر وينحر هديه -إن كان ثَمَّ هدي- ويحلق رأسه، فإذا بلغ-هديه-  محله صار حلالا ، وقال أبو حنيفة : دم الإحصار لا يتوقف على يوم النحر ، بل يجوز ذبحه قبل يوم النحر إذا بلغ محله.

- الجمهور على أن من شروط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده، ذلك لأن رسول الله ﷺ لم يحل يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتى نحر الهدي، فدل ذلك على وجوبه، وإن كان فقيرا فمتى وجده وقدر عليه لا يحل إلا به ، وهو مقتضى قوله: (..فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ)

الإشتراط في الحج والعمرة لمن أحصر:

والاشتراط أن يقول إذا أهل: لبيك اللهم لبيك ، ومحلي حيث حبستني من الأرض، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: لا بأس أن يشترط وله شرطه ، وقاله غير واحد من الصحابة والتابعين، وحجتهم حديث ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أنها أتت رسول الله ﷺ فقالت : "يا رسول الله ، إني أردت الحج ، أأشترط ؟ قال : نعم . قالت : فكيف أقول ؟ قال : قولي لبيك اللهم لبيك ومحلي من الأرض حيث حبستني ". أخرجه أبو داود والدارقطني وغيرهما. (صححه غير واحد ، منهم أبو حاتم البستي وابن المنذر ، وإسناد صحيح.)

هل يجب على من أحصر بمرض أو عدو القضاء:

قال مالك والشافعي: من أحصر بعدو فلا قضاء عليه بحجه ولا عمرته، إلا أن يكون ضرورة لم يكن حج ، فيكون عليه الحج على حسب وجوبه عليه ، وكذلك العمرة عند من أوجبها فرضا . وقال أبو حنيفة: المحصر بمرض أو عدو عليه حجة وعمرة ، وهو قول الطبري . قال أصحاب الرأي : إن كان مهلا بحج قضى حجة وعمرة.

واستدلوا بما رواه الحجاج بن عمرو الأنصاري ، قال ﷺ: "مَنْ كُسِرَ أوْ عَرَجَ فقدْ حَلَّ ، وعليهِ حُجَّةٌ أُخْرَى " ( الترمذي – حسن) ، قالوا : فاعتمار رسول الله ﷺ وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة ، قالوا : ولذلك قيل لها عمرة القضاء . واحتج مالك بأن رسول الله ﷺ لم يأمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه أن يقضوا شيئا ولا أن يعودوا، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل، والقول الأول أقرب للصواب.

هل يحل من اشترط وكُسر، أو مرض؟

قالوا فيمن كسر أو عرج أنه يحل مكانه بنفس الكسر ، وقالوا  ، وأجمع العلماء على أنه يحل من كسر ، ولكن اختلفوا فيما به يحل من العمل، فقال مالك وغيره : يحل بالطواف بالبيت لا يحله غيره ، ومن خالفه من الكوفيين يقول: يحل بالنية وفعل ما يتحلل به.

قوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۖ)" ما " في موضع رفع ، أي فالواجب أو فعليكم ما استيسر، وما استيسر عند جمهور أهل العلم شاة ، وقال الحسن: أعلى الهدي بدنة ، وأوسطه بقرة ، وأخسه شاة.

وقوله:(من الهدي )،  وهو ما يهدى إلى بيت الله من بدنة أو غيرها، والعرب تقول: كم هدي بني فلان ، أي كم إبلهم . وقال أبو بكر : سميت هديا لأن منها ما يهدى إلى بيت الله ، فسميت بما يلحق بعضها.

وواحد الهدي: هدية، ويقال في جمع الهدي : أهداء .

قوله تعالى: ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ) الخطاب لجميع الأمة محصر ومخلى، والمحل : الموضع الذي يحل فيه ذبحه ، فالمحل في حصر العدو عند مالك والشافعي: موضع الحصر ، اقتداء برسول اللهﷺ زمن الحديبية قال الله تعالى: والهدي معكوفا أن يبلغ محله قيل : محبوسا إذا كان محصرا ممنوعا من الوصول إلى البيت العتيق. بدليل نحر النبي ﷺ وأصحابه هديهم بالحديبية وليست من الحرم.

السنة الثابتة التي لا اختلاف فيها :أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه ، قال الله تعالى : ( وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ۚ)، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا حل المحصر قبل أن ينحر هديه فعليه دم ، ويعود حرما كما كان حتى ينحر هديه، وإن أصاب صيدا قبل أن ينحر الهدي فعليه الجزاء ، وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحل أبدا حتى ينحر أو ينحر عنه . قالوا : وأقل ما يهديه شاة ، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين ، وليس هذا عندهم موضع صيام.

 إذا نحر المحصر هديه هل عليه أن يحلق أو لا ؟ والصواب: أنه ليس عليه أن يحلق رأسه؛ لأنه قد ذهب عنه النسك، واحتجوا بأنه لما سقط عنه بالإحصار جميع المناسك كالطواف والسعي -وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه- سقط عنه سائر ما يحل به المحرم من أجل أنه محصر.وفعل رسول الله أنه حلق يوم الحديبية، وشدد على أصحابه بالحلق، فدل على أنه يكون فعل الأفض.

أيهما أفضل: الحلق، أم التقصير؟

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ، قالَ:" اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ قالوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يا رَسولَ اللهِ؟، قالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ المُحَلِّقِينَ قالوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ." (مسلم) ،  ففي دعاء رسول الله ﷺ للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة دليل على أن الحلق في الحج والعمرة أفضل من التقصير ، وهو مقتضى قوله تعالى: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ ..) الآية ، ولم يقل تقصروا، وأجمع أهل العلم على أن التقصير يجزئ عن الرجال.

وليس على النساء الحلق، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، عن رسول الله ﷺ قال: "ليس على النِّساءِ حَلقٌ، إنَّما عليهِنَّ التَّقصيرُ." (المجموع  للنووي- إسناده حسن).

وفي قدر ما تقصر من رأسها:  فكان ابن عمر والشافعي وأحمد وإسحاق يقولون : تقصر من كل قرن- ضفيرة- مثل الأنملة . وقال عطاء : قدر ثلاث أصابع مقبوضة، وقال قتادة: تقصر الثلث أو الربع ، وقال مالك : تأخذ من جميع قرون رأسها، وما أخذت من ذلك فهو يكفيها -لم يقدر طول ما تأخذ. 

قوله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ۚ)

سبب نزول هذه الآية: روى الأئمة واللفظ للدارقطني: (عن كعب بن عجرة أن رسول اللهﷺ رَآهُ وأنَّهُ يَسْقُطُ علَى وجْهِهِ، فَقالَ: أيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟، قالَ: نَعَمْ، فأمَرَهُ أنْ يَحْلِقَ وهو بالحُدَيْبِيَةِ، ولَمْ يَتَبَيَّنْ لهمْ أنَّهُمْ يَحِلُّونَ بهَا وهُمْ علَى طَمَعٍ أنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ، فأنْزَلَ اللَّهُ الفِدْيَةَ، فأمَرَهُ رَسولُ اللَّهِ ﷺأنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بيْنَ سِتَّةٍ، أوْ يُهْدِيَ شَاةً، أوْ يَصُومَ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ،) (أخرجه البخاري بهذا اللفظ)، فقوله: ولم يبين لهم أنهم يحلون بها، يدل على أنهم ما كانوا على يقين من حصر العدو لهم، فإذا الموجب للفدية الحلق للأذى والمرض، والله أعلم .

قال الأوزاعي في المحرم يصيبه أذى في رأسه : إنه يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق .فعلى هذا يكون المعنى فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك إن أراد أن يحلق، ولا يفتدي حتى يحلق، والله أعلم .

قال ابن عبد البر : كل من ذكر النسك في هذا الحديث مفسرا فإنما ذكره بشاة، وأما الصوم والإطعام فاختلفوا فيه ، فجمهور فقهاء المسلمين على أن الصوم ثلاثة أيام، وهو محفوظ صحيح في حديث كعب بن عجرة ، وقد قال له فيه: "احْلِقْ رَأْسَكَ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةً نُسُكًا، أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ ثَلَاثَةَ آصُعٍ مِن تَمْرٍ، علَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ." (رواه مسلم)

وفي مقدار الفدية: من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير والزبيب صاع . وروي عن أبي حنيفة أيضا مثله،  جعل نصف صاع بر عدل صاع تمر . قال ابن المنذر : وهذا غلط ؛ لأن في بعض أخبار كعب أن النبي قال له :" قالَ: صُمْ ثَلَاثَةَ أيَّامٍ، أوْ أطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِن طَعَامٍ، واحْلِقْ رَأْسَكَ." ( البخاري)

وقوله تعالى: ( أو نُسُك..)،

 النسك: جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى، ويجمع أيضا على نسائك ، والنسك  في اللغة: العبادة في الأصل ، ومنه قوله تعالى: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا..) ( البقرة ١٢٨) ،أي متعبداتنا، وقيل:  إن أصل النسك في اللغة الغسل ، ومنه نسك ثوبه إذا غسله ، فكأن العابد غسل نفسه من أدران الذنوب بالعبادة.

قوله تعالى : (فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ )

فإذا أمنتم قيل : معناه برأتم من المرض ، وقيل : من خوفكم من العدو المحصر ، وهو أقرب للفظ،  إلا أن يتخيل الخوف من المرض فيكون الأمن منه، والله أعلم .

قوله تعالى : (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ..). اختلف العلماء من المخاطب بهذا ؟ فقال عبد الله بن الزبير: الآية في المحصرين دون المخلى سبيلهم. وصورة المتمتع عند ابن الزبير: أن يحصر الرجل حتى يفوته الحج، ثم يصل إلى البيت فيحل بعمرة، ثم يقضي الحج من قابل، فهذا قد تمتع بما بين العمرة إلى حج القضاء .

وصورة المتمتع المحصر عند غيره : أن يحصر فيحل دون عمرة ويؤخرها حتى يأتي من قابل فيعتمر في أشهر الحج ويحج من عامه ، وقال ابن عباس وجماعة: الآية عامة في المحصرين وغيرهم ممن خلي سبيله .

أي أنواع الحج أفضل؟

أنواع الإحرام بالحج: وهي ثلاثة أنواع: - التمتُّع. والقِران. والإفراد.

ويجوز للحاجّ أداء الحجّ بأيٍّ نوعٍ أراد باتّفاق العلماء؛ ونورد أدلتهم على النحو الآتي: ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (خَرَجْنَا مع رَسولِ اللهِ ﷺ، فَقالَ: "من أَرَادَ مِنكُم أَنْ يُهِلَّ بحَجٍّ وَعُمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ، وَمَن أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بحَجٍّ فَلْيُهِلَّ، وَمَن أَرَادَ أَنْ يُهِلَّ بعُمْرَةٍ، فَلْيُهِلَّ "قالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فأهَلَّ رَسولُ اللهِ ﷺ بحَجٍّ، وَأَهَلَّ به نَاسٌ معهُ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بالعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، وَأَهَلَّ نَاسٌ بعُمْرَةٍ، وَكُنْتُ فِيمَن أَهَلَّ بالعُمْرَةِ).( مسلم)، ومِن الأدلّة على جواز ذلك أيضاً قَوْله -تعالى-: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)  وقد أجمع العلماء على مشروعيّة أنواع النُّسك الثلاثة.

لا خلاف بين العلماء في أن التمتع جائز، وأن الإفراد جائز وأن القرآن جائز؛  لأن رسول الله ﷺ رضي كلا ولم ينكره في حجته على أحد من أصحابه، بل أجازه لهم ورضيه منهمﷺ . وإنما اختلف العلماء فيما كان به رسول اللهﷺ محرما في حجته وفي الأفضل من ذلك ، لاختلاف الآثار الواردة في ذلك .

الفرق بين التمتع والقران:

 فرّق العلماء بين حج التمتُّع والقِران؛ فالتمتُّع في الحجّ تكون فيه العُمرة منفصلةً عن الحجّ وذلك من خلال الإحرام بالعُمرة، ثمّ الإحرام بالحجّ تباعاً.

 أمّا حج القِران؛ فيكون فيه تداخُلٌ بين أعمال العُمرة والحجّ.

 الفرق بين الإفراد وغيره

اتّفق العلماء على أنّ الإفراد في الحجّ لا يجب بسببه الهَدْي على الحاجّ، أمّا حج القِران أو حج التمتُّع، فيجب بسببهما الهَدْي؛ لقَوْل الله تعالى: (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)، وقوله تعالى: (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّـهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ).

فقال قائلون منهم مالك : كان رسول اللهﷺ مفردا ، والإفراد أفضل من القران. قال: والقران أفضل من التمتع .

وقال بعضهم فيه : قال رسول الله ﷺ: وأما أنا فأهل بالحج وهذا نص في موضع الخلاف، وهو حجة من قال بالإفراد وفضله.

وقال تعالى : (فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ۚ) أي : فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة ، وله أن يذبح البقر؛ لأن رسول الله ﷺذبح عن نسائه البقر  وعن أبي هريرة : "ذبح رسولُ اللهِﷺ عمَّنِ اعتمرَ من نسائِهِ في حجَّةِ الوداعِ بقرةً بينهنَّ": (رواه البخاري) في هذا دليل على شرعية التمتع في الحج، كما جاء في الصحيحين عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله، وفعلناها مع رسول الله ﷺ. ثم لم ينزل قرآن يحرمه، ولم ينه عنها، حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء. وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحا به أن عمر، رضي الله عنه ، كان ينهى الناس عن التمتع، ويقول: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام . يعني قوله : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ ۚ) وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الله عنه ، ينهى عنها محرما لها ، إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين ، كما قد صرح به ، رضي الله عنه .

وقوله : ( فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)  

يقول تعالى : فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج ، أي: في أيام المناسك. قال العلماء: والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر من ذي الحجة، قاله عطاء. أو من حين يحرم، قاله ابن عباس وغيره ، لقوله: ( في الحج ) ومنهم من يجوز صيامها من أول شوال وهو شاذ، وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين ، وعن ابن عباس : إذا لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله. وعن ابن عمر ، قال : يصوم يوما قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة . وكذا روي عن علي أيضا .

فلو لم يصمها أو بعضها قبل [ يوم ] العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق ؟ فيه قولان للعلماء ، وهما للإمام الشافعي أيضا ، القديم منهما أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر في صحيح البخاري، عن عائشة، وابن عمر رضي الله عنهم  : "لَمْ يُرَخَّصْ في أيَّامِ التَّشْرِيقِ أنْ يُصَمْنَ، إلَّا لِمَن لَمْ يَجِدِ الهَدْيَ." . وعن ابن عمر [ إنما قالوا ذلك لعموم قوله : (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ)] . والأقرب من القولين : أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق ، لما رواه مسلم عن نبيشة الهذلي ، رضي الله عنه ، قال: قال رسول اللهﷺ : " أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله "

وقوله : (وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ) فيه قولان :

أحدهما : إذا رجعتم في الطريق . ولهذا قال مجاهد : هي رخصة إذا شاء صامها في الطريق .

والقول الثاني : إذا رجعتم إلى أوطانكم؛ قال عبد الرزاق : عن ابن عمر قال : ( فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ ۗ) قال: إذا رجع إلى أهله .

وفي البخاري : أن ابن عمر قال : "تَمَتَّعَ رَسولُ اللهِﷺفي حَجَّةِ الوَدَاعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، وَأَهْدَى، فَسَاقَ معهُ الهَدْيَ مِن ذِي الحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسولُ اللهِ ﷺ فأهَلَّ بالعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بالحَجِّ، وَتَمَتَّعَ النَّاسُ مع رَسولِ اللهِﷺبالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فَكانَ مِنَ النَّاسِ مَن أَهْدَى فَسَاقَ الهَدْيَ وَمِنْهُمْ مَن لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ رَسولُ اللهِ ﷺ مَكَّةَ قالَ لِلنَّاسِ: مَن كانَ مِنكُم أَهْدَى، فإنَّه لا يَحِلُّ مِن شيءٍ حَرُمَ منه حتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَن لَمْ يَكُنْ مِنكُم أَهْدَى، فَلْيَطُفْ بالبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ، ثُمَّ لِيُهِلَّ بالحَجِّ وَلْيُهْدِ، فمَن لَمْ يَجِدْ هَدْيًا، فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ في الحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ " . وذكر تمام الحديث .

وقوله : (ۗ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)  قيل : تأكيد ، كما تقول العرب : رأيت بعيني ، وسمعت بأذني وكتبت بيدي . وقال الله تعالى : ( ولا طائر يطير بجناحيه ) ( الأنعام ٣٨ ) وقال : (ولا تخطه بيمينك ) ( العنكبوت ٤٨ )، وقال : (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة ) ( الأعراف١٤٢ ) .

وقيل : معنى (كَامِلَةٌ) الأمر بإكمالها وإتمامها، اختاره ابن جرير . وقيل : معنى  (كَامِلَةٌ)  أي : مجزئة عن الهدي .

وقوله : (ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )ۚ قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل فيمن عني بقوله : (ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )ۚ بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم ، فقال بعضهم : عني بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم ..

قال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة ، لا متعة لكم ، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم واديا أو قال : يجعل بينه وبين الحرم واديا ثم يهل بعمرة .

وعن ابن طاوس ، عن أبيه قال: المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم . وذلك قول الله عز وجل : (ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )ۚ  

وقال آخرون : هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت ، كما قال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن رجل ، عن عطاء ، قال : من كان أهله دون المواقيت ، فهو كأهل مكة، لا يتمتع .

وقال ابن جريج عن عطاء: (ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ )ۚ قال : عرفة ، ومر ، وعرنة ، وضجنان ، والرجيع .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، سمعت الزهري يقول : من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع . وفي رواية عنه : اليوم واليومين . واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ، ومن كان منه على مسافة لا تقصر منها الصلاة؛ لأن من كان كذلك يعد حاضرا لا مسافرا ، والله أعلم .

وقوله : وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي : فيما أمركم وما نهاكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) أي : لمن خالف أمره ، وارتكب ما عنه زجره .

No comments:

Post a Comment