في هذه الآيات يبيان لحال بعض الناس ،
الذين يتمنون على الله الأماني، ولا يصدقون في عهودهم ، ويعقدون نية ليس في القلب
تأكيد لها ولا حرص على وفائها ، ,إنما هي نوايا تلفظ باللسان ليس العزم أكيد على
فعلها ، يعلمها الله تعالى ، فهو علام الغيوب ، ويعلم ما في القلوب، ويعلم حتى ما
يعلمه العبد عن نفسه .
فكم منا من يقول لو كان عندى مثل فلان
لأنفقت مثله وخير منه ، لو عندي وقت لحفظت القرآن ، ولتعلمت وعلمت، لو متعت بالصحة
لعملت في سبيل الله ...!! اماني لا يعلم مقدار الصدق منها إلا الله ، وإن صدقه يظهر بعمله بالقليل الذي أوتيه ، فلو عمل
بالقليل من المال بما يعد ، فكان صادقا إن أؤتي الكثير لأنفق بمقداره ، وهكذا .
وهنا أيضا تنبيه للإنسان أن يحرص أن يطلب
دائما من ربه ما يصلحه في الدنيا والآخرة ، فكم من أماني يتمناها الإنسان يلح على
الله طلبها ، ولا يعلم إن أوتيها أن تكون نقمة عليه ، وقد يدعو بالشر ويحسب أنه
خير له ، ولا يدري عظم البلاء الذي يبتلاه بزيادة في المال أو الصحة أو الأولاد ، أو حتى العلم ... كما قال تعالى : ( وَيْدعُ الإنْسانُ بالشَّرِ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ
)
( الإسراء 11)
تعالوا بنا نتعظ من هذه الحكاية التي نبهَ
الله تعالى إلى الموعظة منها في سورة التوبة ، وننظر من أنفسنا قد يكون لها صدى ،
لنصلحه.
قال تعالى : ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا
آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ* فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي
قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) (التوبة 75-78)
نزلت هذه الآيات في شخص يقال له ثعلبة
بن حاطب الأنصاري ـ على قول كثير من المفسرين ، منهم ابن عباس والحسن البصري ـ
اقرؤوا معي القصة ، ولنستشعر مقدار هذا الإختبار
، هل كنا سنجتازه لو اختبرناه ، أو هل فعلا وقعنا في مثله ؟؟؟
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي أمامة الباهلي عن ثعلبة بن حاطب الأنصاريأنه قال
لرسول الله ﷺ: ادع
الله أن يرزقني مالا .
فقال رسول الله ﷺ: ( ويحك يا
ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه ) انظر رأفة النبي ﷺ وتوجيهه إلى الأفضل له ، وأن عسى أن يكون القليل خير له من الكثير .
قال : ثم قال مرة
أخرى ، فقال رسول الله ﷺ : أما ترضى أن تكون
مثل نبي الله ( يقصد نفسه ﷺ) فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت، قال- اي ثعلبة- : والذي
بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه ، فقال رسول الله ﷺ: " اللَّهم
ارزق ثعلبة مالاً "
قال : فاتخذ غنما ،
فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها ،
حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما . ثم نمت وكثرت ، فتنحى حتى
ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، حتى ترك الجمعة . فطفق يتلقى
الركبان يوم الجمعة ، يسألهم عن الأخبار ، فقال رسول الله ﷺ: ما فعل ثعلبة ؟ فقالوا : يا رسول الله ، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة .
فأخبروه
بأمره فقال : يا ويح ثعلبة ، يا ويح
ثعلبة ، يا ويح ثعلبة .
وأنزل
الله جل ثناؤه : ( خذ من أموالِهِم صَدَقَةً تُطَهِرُهم وتُزَكيهِم بها ) ( التوبة 103)
قال: ونزلت على رسول
الله ﷺ فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله ﷺ رجلين على الصدقة ؛
رجلاً من جهينة ، ورجلاً من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ،
وقال لهما : "مرا بثعلبة ، وبفلان - رجل من بني سليم- فخذا صدقاتهما" ، فخرجا
حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله ﷺ فقال : ما هذه
إلا جزية . ما هذه إلا أخت الجزية . ما أدري ما هذا ، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا
إليَ .
فانطلقا وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان
إبله ، فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ،
وما نريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى ، فخذوها ، فإن نفسي بذلك طيبة ، وإنما هي
له ، فأخذوها منه
فلما
فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فنظر فيه ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية .
انطلقا حتى أرى رأيي
فانطلقا
حتى أتيا النبي ﷺ فلما رآهما قال :"
يا ويح ثعلبة" ، قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي
، فأنزل الله عز وجل: (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ
لَنَصَّدَّقَنَّ) إلى
قوله : ( وبما كانوا يكذبون ) الآية
قال : وعند رسول
الله ﷺ رجل من أقارب ثعلبة ، فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا
ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا ، فخرج
ثعلبة حتى أتي النبي ﷺ فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال ﷺ: " إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك " .
، فجعل يحثو على
رأسه التراب ، فقال له رسول الله ﷺ: "[ هذا ] عملك ،
قد أمرتك فلم تطعني "، فلما أبى أن يقبض رسول الله ﷺ منه صدقته رجع إلى منزله ، فقبض رسول الله ﷺ ولم يقبل منه شيئا .
ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه حين استخلف فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله ، وموضعي من الأنصار ، فاقبل صدقتي ،
فقال أبو بكر
( لم يقبلها منك رسول الله ﷺ وأبى أن يقبلها ، فقبض أبو بكر
ولم يقبلها . فلما
ولي عمر رضي الله عنه اتاه فقال :
: يا أمير المؤمنين
، اقبل صدقتي . فقال : لم يقبلها رسول الله
ﷺ ولا أبو بكر ، وأنا أقبلها منك !
فقبض ولم يقبلها ؛ ثم ولي عثمان رضي الله
عنه ، فاتاه فساله أن يقبل صدقته ، فقال : لم يقبلها منك رسول الله ﷺ ،ولا أبو بكر ولا عمر ،
وأنا أقبلها منك ؟؟ ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه
وقوله تعالى :
(فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي
قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
ـ
أي بسبب إخلافهم الوعد
وكذبهم عقب على قلوبهم النفاق، وجعله يسكن قلوبهم بما هيئوا له المكان ، وبأخذهم
بأسبابه ، فالإنسان يعمل على أن يملأ قلبه بالإيمان بأن يأخذ بأسبابه كما قال
تعالى : ( والذين اهتدوا زادهم
هدى وآتاهم تقواهم ) ( محمد 17 ) ، أو أن يعمل يستمر على نفاق حتى يستقر في قلبه ، كما جاء في الصحيح
عن رسول الله ﷺ:
(إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) ( البخاري ومسلم )
(إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) ( البخاري ومسلم )
فالنفاق ينبت في قلب
الإنسان بما يغذيه من العمل به ، من الكذب وإخلاف الوعد كما جاء في الحديث الصحيح
: ( آية المنافق ثلاث ، إذا حدّث كذب ،
وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان ) وشواهده
كثيرة
ولكن هل يجهل
المنافق أن الله عز وجل مطّلع على خفايا القلوب ، أم يتجاهل ، أم هو الغرور ؟؟ لقد
أجاب في قوله تعالى : (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللهَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ )
فهو سبحانه وتعالى يعلم
السر وأخفى ، وأنه أعلم بضمائرهم وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها
وشكروا عليها ، فإنه أعلم بهم من أنفسهم ؛ لأنه تعالى علام الغيوب ، أي : يعلم كل
غيب وشهادة ، وكل سر ونجوى ، ويعلم ما ظهر وما بطن.
نسأل الله العظيم أن يفقهنا في ديننا
وأن يجعل أفضل أعمالنا خواتيمها
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
No comments:
Post a Comment