Saturday, 16 August 2014

تدبر آيات من القرآن العظيم – الحزب الخامس والعشرون – عبر ومعجزات من سورة الرعد



  

 سورة الرعد

سورة الرعد: سورة مكية تعتني بتثبيت العقيدة .
هدفها : التأكيد على قوة الحق وضعف الباطل
سبب التسمية :الرعد لآية رقم 12 في السورة تذكر الرعد ، والرعد نموذج للتناقض يظهر الخوف ولكنه يحمل المطر ، صوته رهيب ولكنه يسبح الله عز وجل ، فالرسالة الا ننخدع بظاهر الاشياء بل ننظر لباطنها وكذلك الحق والباطل
هذه سورة تدعو إلى التأمل والنظر في آيات الله في السماء الكونية ، وفي الارض ، ولتكن النظرة نظرة تدقيق واعتبار ، فكم من صور الأعجاز فيها ، ونحن نمر عليها مرور الكرام ،فمن منا يتفكر ويعتبر ويتدبر خلق الله ، وأمره
 وإليكم بعض هذه الآيات ، تأملوا ودعوا القلوب تستشعر عظمة خالقها وبارئها ، وتخشع له وتنقاد طائعة راغبة راجية محبة:
يقول ربنا جل وعلا :

{   اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } ( 2 )
يخبر تعالى عن انفراده بالخلق والتدبير، والعظمة والسلطان الدال على أنه وحده المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له فقال:  { الله  الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ   بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا }  أي:فهو سبحانه الخالق لهذه السماوات على عظمتها واتساعها بقدرته العظيمة، فوق الأرض والنجوم والكواكب ، بغير أعمدة ، من تحتها تثبتها، فإنه لو كان لها عمد، لرأيتموها، أو يصح ان تعني أنها بأعمدة لكن لا ترونها ،وهو من المعقول ، إذ أن قوى الجذب والطرد المركزي التي تثبت النجوم والكواكب في مساراتها هي من الأشياء المخلوقة والمسخرة لهذة المهمة ، وقد يكتشف العلم قوى غيرها أو أن تكون هي التي تمسك السموات ، فالله أعلم بخلقة وتدبيره فقد قال تعالى :
(إِنَّ الله يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضَ أَن تَزُولَا ۚ وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ ۚ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورً‌ا(  فاطر 41
فالمعنين صحيحين لهذه القراءة ، وهما يدلان على عظمته وتقديره
 ثم بعد خلق السموات والارض استوى على العرش  العظيم الذي هو أعلى المخلوقات وأعظمها، استواءً  يليق بجلاله ويناسب كماله.
{  وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ }  لمصالح العباد ومصالح مواشيهم وثمارهم، كل من الشمس والقمر يسير  بتدبير العزيز العليم،  بسير منتظم، لا يفتران ولا ينيان، حتى يجيء الأجل المسمى وهو طي الله هذا العالم، ونقلهم إلى الدار الآخرة التي هي دار القرار، فعند ذلك يطوي الله السماوات ويبدلها، ويغير الأرض ويبدلها كما قال تعالى :(  يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (  الأنبياء 104
فتكور الشمس والقمر، ويجمع بينهما فيلقيان في النار، ليرى من عبدهما أنهما غير أهل للعبادة؛ فيتحسر بذلك أشد الحسرة وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.
وقوله {  يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ } وهو القائم على خلقة يدبره ويديره ،
قد استوى الله العظيم على عرش المُلْك، يدبر الأمور في العالم العلوي والسفلي، فيخلق ويرزق، ويغني ويفقر، ويقيل العثرات، ويفرج الكربات، وينفذ الأقدار في أوقاتها التي سبق بها علمه ،وينزل الكتب الإلهية على رسله ويبين ما يحتاج إليه العباد من الشرائع والأوامر والنواهي، ويفصلها غاية التفصيل ببيانها وإيضاحها وتمييزها
(  لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ )
 لكي يحصل لكم اليقين ثم تكون ثمرته التقوى ، بسبب ما أخرج لكم من الآيات الكونية  والآيات القرآنية،  فإن كثرة الأدلة وبيانها ووضوحها، من أسباب حصول اليقين في جميع الأمور الإلهية، خصوصا في العقائد الكبار، كالبعث والنشور والإخراج من القبور.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }(  3 )
{ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ } أي: خلقها للعباد، ووسعها وبارك فيها ومهدها للعباد، وجعل فيها جبالا عظاما، لئلا تميد بالخلق، فإنه لولا الجبال لمادت بأهلها، لأنها على تيار ماء، لا ثبوت لها ولا استقرار إلا بالجبال الرواسي، التي جعلها الله أوتادا لها.
 جعل فيها أنهارا تسقي الآدميين وبهائمهم وحروثهم، فأخرج بها من الأشجار والزروع والثمار خيرا كثيرا، ولهذا قال من كل أنواع وأصناف واشكال  الثمرات جعل منها مثيلين.
{ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ }  فتظلم الآفاق فيسكن كل حيوان إلى مأواه ويستريحون من التعب والنصب في النهار، ثم إذا قضوا مأربهم من النوم غشي النهار الليل فإذا هم مصبحون منتشرون في مصالحهم وأعمالهم في النهار.
{ ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون }
وكل ذلك ما هو إلا دلائل وبراهين على المطالب الإلهية  لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ  فيها، وينظرون فيها نظر اعتبار دالة على أن الذي خلقها ودبرها وصرفها، هو الله الذي لا إله إلا هو، ولا معبود سواه، وأنه عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، وأنه القادر على كل شيء، الحكيم في كل شيء المحمود على ما خلقه وأمر به تبارك وتعالى.
ثم لنتمعن في هذه الآية ونتفكر في عظيم صنعه سبحانه ،الذي لا يماثله ولا يقدر عليه أحد غيره تبارك وتعالى:
{  وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }( 4 )
فالله تعالى يشد انتباه الناس ، ويدعوهم إلى التفكير بعمق في هذه المعجزة ، ، هذا نبات من كل الأصناف والأشكال يسقى بنفس الماء ، في قطع متجاورة من الأرض ، ويستنشق نفس الهواء من الجو ، وكل نبات له لون وطعم ورائحة مختلف ، وبل ويحتوى على عناصر غذائية غير التي في الآخر ، بل هو متميز إلى طعوم مختلفة ، منها الحلو المذاق ، ومنها الحامض اللاذع ، ومنها النافع المفيد ومنها الضار ،فسبحان من قدرها بهذا الحال، فهذا دلالة على كمال قدرته وبديع صنعته أن جعل { فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ }  فيها أنواع الأشجار { مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } وغير ذلك، والنخيل التي بعضها { صِنْوَانٌ } أي: عدة أشجار في أصل واحد، أو من نوع واحد { وَغَيْرُ صِنْوَانٍ }  بأن كان كل شجرة على حدتها لا يماثلها غيرها ،  والجميع  { يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ }  ومع ذلك { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ } لونا وطعما ونفعا ولذة؛ فهذه أرض طيبة تنبت الكلأ والعشب الكثير والأشجار والزروع، وهذه أرض تلاصقها لا تنبت كلأ ولا تمسك ماء، وهذه تمسك الماء ولا تنبت الكلأ، وهذه تنبت الزرع والأشجار ولا تنبت الكلأ، وهذه الثمرة حلوة وهذه مرة وهذه بين ذلك.
فهل هذا التنوع في ذاتها وطبيعتها؟ أم ذلك تقدير العزيز الرحيم؟
{  إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ }  أي: لقوم لهم عقول تهديهم إلى ما ينفعهم، وتقودهم إلى ما يرشدهم ويعقلون عن الله وصاياه وأوامره ونواهيه، وأما أهل الإعراض، وأهل البلادة فهم في ظلماتهم يعمهون، وفي غيهم يترددون، لا يهتدون إلى ربهم سبيلا ولا يعون له قيلا.
{ اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ }( 5- 6 )

يخبر تعالى بعموم علمه وسعة اطلاعه وإحاطته بكل شيء فهو محيط بكل شيء عليم  يعلم ما تحمل كل أنثى من بني آدم وغيرهم- فقد أطلق الله تعالى اللفظ ، ولم يخصصه لنساء البشر ، بل كل أنثى – يعلم ما تحمل ليس نوعه فقط ، بل يعلم سبحانه بكل قدر قدَّره لهذا الحمل ، وما هو كائن إليه وما مصيره، {  وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ }  أي: تنقص مما فيها من حمل ، إما أن يهلك الحمل أو يتضاءل أو يضمحل {  وَمَا تَزْدَادُ }  الأرحام وتكبر الأجنة التي فيها، {  وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ }  لا يتقدم عليه ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص إلا بما تقتضيه حكمته وعلمه.
فإنه { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ }  في ذاته وأسمائه وصفاته { الْمُتَعَالِ } على جميع خلقه بذاته وقدرته وقهره.
وقوله عز وجل :ـ
{ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهُ إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }( 7- 8 )   
أي إن الله لا يخفى عليه منكم من يسر القول في نفسه ، ولا من يجهر به ، بعلمه بالإثنين سواء ، وكذلك عنده سواء من هو مستقر بمكان خفي فيه،  يتخفى في ظلمة الليل عن الأبصار { وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ }  أي: داخل سربه في النهار والسرب هو ما يختفي فيه الإنسان إما جوف بيته أو غار أو مغارة أو نحو ذلك.
فلكل إنسان مخلوق {  مُعَقِّبَاتٌ }  من الملائكة يتعاقبون عليه في الليل والنهار، لا يدعونه ساعة من ليل أو نهار، هم  {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ }  ويحفظونه على حالين :
فهم يحفظون بدنه وروحه من كل من يريده بسوء
ويحفظون عليه أعماله، وهم ملازمون له دائما، فكما أن علم الله محيط به، فالله قد أرسل هؤلاء الحفظة على العباد، بحيث لا تخفى أحوالهم ولا أعمالهم، ولا ينسى منها شيء
الملائكة الحفظة:
قال ابن كثير : أنهم أربعة بالليل وأربعة بالنهار، فاثنان عن اليمين والشمال يكتبان الحسنات والسيئات، واثنان من ورائه وأمامه يحرسانه.
ما جاء في معنى الحفظ الموكل به الملائكة الحفظة:
أولا : وليس معنى الآية أن الملائكة تحفظ العبد مما يأتي من قضاء الله وقدره، وإنما المراد أنها تحفظه بأمر الله فـ (من ) هنا بمعنى الباء ويدل لذلك ما في بعض القراءات الشاذة  يحفظونه بأمر الله . وهناك أقوال أخرى فيها قريبة من هذا المعنىويدل لكون الملائكة لا تحفظ العبد مما يأتي من قضاء الله وقدره قوله تعالى في آخر الآية: { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ {( الرعد: 11 ) قال البغوي في التفسير: يحفظونه من أمر الله، يعني : بأمر الله، أي : يحفظونه بإذن الله تعالى ما لم يجئ المقدور ، فإذا جاء المقدور خلوا عنه، 
ثانيا:  وقيل : يحفظونه من أمر الله: أي مما أمر الله به من الحفظ عنه،  وقال القرطبي في التفسير: اختلف في هذا الحفظ ، فقيل : يحتمل أن يكون توكيل الملائكة بهم لحفظهم من الوحوش والهوام والأشياء المضرة، لطفاً منه به ، فإذا جاء القدر خلوا بينه وبينه ، قاله ابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما . قال أبو مجلز : جاء رجل من مراد إلى علي فقال : احترس فإن ناساً من مراد يريدون قتلك ، فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبين قدر الله ، وإن الأجل حصن حصينة ، وعلى هذا ، ( يحفظونه من أمر الله )  أي بأمر الله وبإذنه ، فـ ( ـمن ) بمعنى الباء ، وحروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض . وقيل ( من ) بمعنى ( عن ) ، أي يحفظونه عن أمر الله، وهذا قريب من الأول ، أي حفظهم عن أمر الله لا من عند أنفسهم ، وهذا قول الحسن ، تقول : كسوته عن عري ومن عري ، ومنه قوله عز وجل: { أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ }(قريش: 4 ) أي عن جوع .
ثالثا:  وقيل : يحفظونه من ملائكة العذاب ، حتى لا تحل به عقوبة ، لأن الله لا يغير ما بقوم من النعمة والعافية حتى يغيروا ما بأنفسهم بالإصرار على الكفر، فإن أصروا حان الأجل المضروب ونزلت بهم النقمة، وتزول عنهم الحفظة المعقبات .
رابعا:  وقيل : يحفظونه من الجن ، قال كعب : لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن .
والخلاصة: وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم : وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان أحدهما حفظه له في مصالح دنياه كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله قال الله عز وجل له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله قال ابن عباس هم الملائكة يحفظونه بأمر الله فإذا جاء القدر خلوا عنه وقال على رضي الله عنه إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه وإن الأجل جنة حصينة وقال مجاهد ما من عبد إلا وله ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شيء يأتيه إلا قال له وراءك إلا شيئا أذن الله فيه فيصيبه .والله أعلم

 { إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ }  من النعمة والإحسان ورغد العيش {  حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }
والتغيير يفسر على المتناقضين ، أولها : أن الله لا يغير نعمة ورغد عيش يكون فيه شخص ، إلا بسبب انتقاله من طاعة إلى معصية ،   بأن ينتقلوا من الإيمان إلى الكفر ، أو من شكر نعم الله إلى البطر بها فيسلبهم الله عند ذلك إياها.
وثانيها: أنه إذا غير العباد ما بأنفسهم من المعصية، فانتقلوا إلى طاعة الله، غيَّر الله عليهم ما كانوا فيه من الشقاء إلى الخير والسرور والغبطة والرحمة
 {  وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا }  أي: عذابا وشدة وأمراً  يكرهونه، فإن إرادته لا بد أن تنفذ فيهم، ولا أحد يمنعهم منه، {  وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ }  يتولى أمورهم فيجلب لهم المحبوب، ويدفع عنهم المكروه، فليحذروا من الإقامة على ما يكره الله خشية أن يحل بهم من العقاب ما لا يرد عن القوم المجرمين.
{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } ( 12- 13 )  
يقول تعالى:  { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا }  أي: يُخاف منه ، وتشمل الصواعق والهدم وأنواع الضرر، على بعض الثمار ونحوها ، وفي نفس الوقت فإنه لما ترى الصواعق يُطمع في الخير الذي يأتي بعدها ، والنفع الذي سيعم من هطول الأمطار ، وانتعاش النبات والكلأ .

{ وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ }  بالمطر الغزير الذي به نفع العباد والبلاد.
{  وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ }  وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد، فهو خاضع لربه مسبح بحمده،  و تسبح { الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي: خشعا لربهم خائفين من سطوته، {  وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ }  وهي هذه النار التي تخرج من السحاب، {  فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ }  من عباده بحسب ما شاءه وأراده وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ أي: شديد الحول والقوة فلا يريد شيئا إلا فعله، ولا يتعاصى عليه شيء ولا يفوته هارب.
فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب التي فيها مادة أرزاقهم، وهو الذي يدبر الأمور، وتخضع له المخلوقات العظام التي يخاف منها، وتزعج العباد وهو شديد القوة - فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له. ولهذا قال:
{  لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ } ( 14 )
أي: لله وحده {  دَعْوَةُ الْحَقِّ }  وهي: عبادته وحده لا شريك له، وإخلاص دعاء العبادة ودعاء المسألة له تعالى، أي: هو الذي ينبغي أن يصرف له الدعاء، والخوف، والرجاء، والحب، والرغبة، والرهبة، والإنابة؛ لأن ألوهيته هي الحق، وألوهية غيره باطلة {  وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ }  من الأوثان والأنداد التي جعلوها شركاء لله  {  لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ }  أي: لمن يدعوها ويعبدها بشيء قليل ولا كثير لا من أمور الدنيا ولا من أمور الآخرة {  إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ }  إلا كالذي ببسط كفيه إلى الماء  ليرفع الماء إلى فيه ، ولكنه باسط يديه ، فلا يتجمع فيها ماء ، ولا يصل إلى فيه لأن يداه مبسوطتان ، {  لِيَبْلُغَ فَاهُ }  فإنه عطشان ومن شدة عطشه يتناول بيده، ويبسطها إلى الماء الممتنع وصولها إليه، فلا يصل إليه.
كذلك الكفار الذين يدعون معه آلهة لا يستجيبون لهم بشيء ولا ينفعونهم في أشد الأوقات إليهم حاجة لأنهم فقراء كما أن من دعوهم فقراء، لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير.
{  وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }  لبطلان ما يدعون من دون الله، فبطلت عباداتهم ودعاؤهم؛ لأن الوسيلة تبطل ببطلان غايتها، ولما كان الله تعالى هو الملك الحق المبين، كانت عبادته حقًّا متصلة النفع لصاحبها في الدنيا والآخرة.
وتشبيه دعاء الكافرين لغير الله بالذي يبسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه من أحسن الأمثلة؛ فإن ذلك تشبيه بأمر محال، فكما أن هذا محال، فالمشبه به محال، والتعليق على المحال من أبلغ ما يكون في نفي الشيء .
{  أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ }  
في هذه الآية مثل ناري ومثل مائي.
الناري.. فالذهب عندما يدخل في النار تخرج منه الشوائب ويبقى الذهب الخالص.
المائي.. فإذا نزل المطر فيذهب الغبش ويبقى ماينفع الناس.

شبّه تعالى الهدى الذي أنزله على رسوله لحياة القلوب والأرواح، بالماء الذي أنزله لحياة الأشباح، وشبّه ما في الهدى من النفع العام الكثير الذي يضطر إليه العباد، بما في المطر من النفع العام الضروري، وشبه القلوب الحاملة للهدى وتفاوتها بالأودية التي تسيل فيها السيول، فواد كبير يسع ماء كثيرا، كقلب كبير يسع علما كثيرا، وواد صغير يأخذ ماء قليلا، كقلب صغير، يسع علما قليلا، وهكذا.
وشبه ما يكون في القلوب من الشهوات والشبهات عند وصول الحق إليها، بالزبد الذي يعلو الماء ويعلو ما يوقد عليه النار من الحلية التي يراد تخليصها وسبكها، وأنها لا تزال فوق الماء طافية مكدرة له حتى تذهب وتضمحل، ويبقى ما ينفع الناس من الماء الصافي والحلية الخالصة.
كذلك الشبهات والشهوات لا يزال القلب يكرهها، ويجاهدها بالبراهين الصادقة، والإرادات الجازمة، حتى تذهب وتضمحل ويبقى القلب خالصا صافيا ليس فيه إلا ما ينفع الناس من العلم بالحق وإيثاره، والرغبة فيه، فالباطل يذهب ويمحقه الحق {  إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا }  وقال هنا: { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ }  ليتضح الحق من الباطل والهدى والضلال.

اللهم ارنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه   

No comments:

Post a Comment