Friday 1 April 2016

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورة المجادلة –ج2



 



تفسير  وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورة المجادلة –ج2

وتعقيبا على شهادته سبحانه على ما غاب وحضر، تأكيداً لشهادة الله تعالى لكل شيء،  بل وإحاطته بكل شيء وعلماً ،  يقول تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ ) يخبر عن إحاطة علمه سبحانه بخلقه واطلاعه عليهم، وسماعه كلامهم، ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأين كانوا، أي:من سر ثلاثة ( إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) أي:يطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم، ورسله أيضًا مع ذلك تكتب ما يتناجون به، مع علم الله وسمعه لهم، كما قال: ( أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ )[ التوبة 78 ] وقال: ( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ) [ الزخرف 80 ] ؛ ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو، سبحانه، مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء.
ثم قال: ( ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )
قال الإمام أحمد: افتتح الآية بالعلم، واختتمها بالعلم.
ثم في الجزء التالي من السورة مجموعة آداب أدب الله تعالى بها عباده المؤمنين فقال سبحانه: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ )
سبب نزول الآية :
قال مقاتل بن حيان:كان بين النبي وبين اليهود موادعة، وكانوا – أي اليهود- إذا مر بهم رجل من أصحاب النبي جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله- أوبما يكره المؤمن- فإذا رأى المؤمن ذلك خَشيهم، فترك طريقه عليهم. فنهاهم النبي عن النجوى، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فأنـزل الله: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ ) .
وقال ابن أبي حاتم:عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده قال:كنا نتناوب رسول الله ، نبيت عنده؛ يطرُقه من الليل أمر وتبدو له حاجة. فلما كانت ذات ليلة كَثُر أهل النّوب والمحتسبون حتى كنا أندية نتحدث، فخرج علينا رسول الله فقال: « ما هذا النجوى؟ ألم تُنْهَوا عن النجوى؟ » . قلنا:تبنا إلى الله يا رسول الله، إنا كنا في ذكر المسيح، فَرقا منه. فقال: « ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه؟ » . قلنا:بلى يا رسول الله. قال: « الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل »  (قال عنه هذا إسناد غريب، وفيه بعض الضعفاء، وحسن إسناده غيره)
وقوله: ( وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ) أي:يتحدثون فيما بينهم بالإثم، وهو ما يختص بهم، والعدوان، وهو ما يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول ومخالفته، يُصِرون عليها ويتواصون بها.
وقوله: ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ) قال ابن أبي حاتم:عن مسروق، عن عائشة قالت:دخل على رسول الله يهود فقالوا:السام عليك يا أبا القاسم. فقالت عائشة:وعليكم السام و [ اللعنة ] قالت:فقال رسول الله : « يا عائشة، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش » . قلت:ألا تسمعهم يقولون:السام عليك؟ فقال رسول الله: « أو ما سمعت أقول وعليكم؟ » . فأنـزل الله: ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ )
وفي رواية في الصحيح أنها قالت لهم:عليكم السام والذام واللعنة. وأن رسول الله قال: « إنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا »
وقال ابن جرير: عن أنس بن مالك:أن رسول الله بينما هو جالس مع أصحابه، إذ أتى عليهم يهودي فسلَّم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله : « هل تدرون ما قال؟ » . قالوا:سلم يا رسول الله. قال: « بل قال:سام عليكم، أي:تسامون دينكم » . قال رسول الله: « ردوه » . فردوه عليه. فقال نبي الله: « أقلت:سام عليكم؟ » . قال:نعم. فقال رسول الله : « إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: «عليك » أي:عليك ما قلت ( وهذا الحديث في الصحيح عن عائشة، بنحوه )
وقوله: ( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ) أي:يفعلون هذا، ويقولون ما يحرفون من الكلام وإيهام السلام، وإنما هو شتم في الباطن، ومع هذا يقولون في أنفسهم:لو كان هذا نبيًا لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأن الله يعلم ما نسره، فلو كان هذا نبيًا حقًّا لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله تعالى: ( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ ) أي:جهنم كفايتهم في الدار الآخرة ( يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ )
وقال الإمام أحمد: عن عبد الله بن عمرو؛ أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله :سام عليك، ثم يقولون في أنفسهم: ( لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ ) ؟، فنـزلت هذه الآية: ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) إسناد حسن ولم يخرجوه
وقال العوفي، عن ابن عباس: ( وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ ) قال:كان المنافقون يقولون لرسول الله إذا حيوه: « سام عليك » ، قال الله: ( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) . 

متشابهات:
ختمت هذه الآية  بـ ( فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) وهذا هو الموضع الوحيد في القرآن الذي ترد فيه عبارة  ( بِئْسَ الْمَصِيرُ ) مسبوقه بـ الفاء .


ثم قال الله مُؤدّبًا عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ ) أي:كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مَالأهم على ضلالهم من المنافقين، ( وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) أي:فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.
عن قتادة، عن صفوان بن مُحْرِز قال:كنت آخذًا بيد ابن عمر، إذ عرض له رجل فقال:كيف سمعت رسول الله يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال:سمعت رسول الله يقول: « إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كَنَفه ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له:أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قَرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك، قال:فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم. ثم يُعْطَى كتابَ حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد:هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين » .أخرجاه في الصحيحين  
ثم قال تعالى: ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) أي:إنما النجوى- وهي المُسَارّة- حيث يتوهم مؤمن بها سوءًا ( مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) يعني:إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه، ( لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) أي:ليسوءهم، وليس ذلك بضارهم شيئًا إلا بإذن الله، ومن أحس من ذلك شيئًا فليستعذ بالله وليتوكل على الله، فإنه لا يضره شيء بإذن الله.
وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذٍ على مؤمن، كما ورد في الصحيحن عن الأعمش قال:قال رسول الله: « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجَينَّ اثنان دون صاحبهما، فإن ذلك يحزنه » .
وعن ابن عمر قال:قال رسول الله : « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه » مسلم .
وعن عبدالله بن مسعود قال: قال رسول الله : "  إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتى تختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه "  فبين في هذا الحديث غاية المنع وهي أن يجد الثالث من يتحدث معه،  كما فعل ابن عمر، ذلك أنه كان يتحدث مع رجل فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يناجه حتى دعا رابعا، فقال له وللأول: تأخرا وناجى الرجل الطالب للمناجاة. خرجه في الموطأ.
وفيه أيضا التنبيه على التعليل بقوله: " من أجل أن يحزنه "  أي يقع في نفسه ما يحزن لأجله. وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنه لم يروه أهلا ليشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان وأحاديث النفس. وحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك.
 ويستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد ولا عشرة ولا ألف مثلا، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى. وإنما خص الثلاثة بالذكر، لأنه أول عدد يتأتى ذلك المعنى فيه 
.
موعظة مهمة يهديها ربنا للمؤمن في قوله تعالى: ( إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا...) الآية

فأنت إذا تأملتَ هذه الآية وجَدْتَ أن من أعظم مقاصدِ الشيطانِ إدخالَ الحزنِ على المؤمن، وأدركت أن من أعظم مقاصد الشريعة إسعادَ المؤمن، وطَرْدَ الحزنِ عنه.
ففي هذه الآية إشارة إلى أن الشيطانَ لا يُقْصِر عن محاولة تكدير صفو المؤمن، وإحزانه في كل حال؛ فتراه يذكِّره بما يسوؤه، ويمنيه بالأماني الباطلة التي تجلب له الشقاء.
فبالإضافة إلى أنه بلقي في قلبه ظنًّ السوء بغيره ، فإنه يذَكِرهُ  بالذِّكرياتِ الأليمةَ والاحتمالاتِ السيئةَ لما سيحدث، والخيالاتِ المثبطةَ عن العمل.
فإذا استجاب الإنسان لذلك؛ فصار يستدعي تلك الخواطر، ويجتر تلك المآسي، ويسترسل مع الاحتمالات الرديئة، والظنون السيئة - عاش في ألم، وضِيْق، وحَصْر، وصار يأكل بعضُه بعضاً، ويعذب نَفْسَه بنفسه.
أما إذا قطع تلك الواردات، ودرأها عن نفسه ما استطاع، واشتغل بما يعنيه، ونظر إلى الجوانب المشرقة في الحياة، وفي سيرته، واستعاذ من الشيطان ووساوسه - كَبُرَتْ نَفْسُه، وعَلَتْ هِمَّتُه، وزاد نشاطه وإقباله على الجد، وانشرح صدره، وعظم إنتاجه.
وهذا مما يفسر لنا سرَّ النجاح عند بعض الناس، وسرَّ الإخفاق عند آخرين؛ فالنجاح يَكْمُنُ في كون الناجحين يتوكلون على الله، ويستحضرون أن كيد الشيطان ضعيف، وأنه ليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله.
والإخفاق يكمن في كون المخفقين يسترسلون مع الأوهام، ويَدَعُون كيد الشيطان يستحوذ على أفكارهم، ويأخذ بمجامع قلوبهم، فيقعدهم عن العمل، ويُفْضي بهم إلى البطالة والكسل.
فالآية الكريمة تشير إلى أنه ينبغي للمؤمن أن يكون مشرق النفس، نقبلا بتفاؤلٍ على كل ما ينوي عمله، مطمئن الخاطر، يبعدعن كلِّ ما يكدر عليه صفوه؛ فذلك مما يبعثه إلى قوة الإقبال على الله، والحرصِ على ما ينفعه في أمور دينه ودنياه

عودة للتفسير: 

ثم بعد أن بيَّن ربنا سبحانه سوء أدب اليهود بتحيهم للنبي بما لم يحيه به الله وذمهم على ذلك ، انتقل بالأمر للمؤمنين بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله ، حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتعاطف والتآلف حتى يفسح بعضهم لبعض، حتى يتمكنوا من الاستماع من رسول الله والنظر إليه. قال قتادة ومجاهد: كانوا يتنافسون في مجلس النبي ، فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض، فأمرهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجالس فقال سبحانه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ ) وقرئ ( في المجلس ) ( فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ) وذلك أن الجزاء من جنس العمل، كما جاء في الحديث الصحيح: « من بَنَى لله مسجدًا بنى الله له بيتًا في الجنة » وفي الحديث الآخر: « ومن يَسَّر على مُعْسِر يَسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، [ ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة ] والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه » ولهذا أشباه كثيرة؛ ولهذا قال: ( فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ) .
قال قتادة:نـزلت هذه الآية في مجالس الذكر، وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلا ضَنّوا بمجالسهم عند رسول الله ، فأمرهم الله أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال مقاتل بن حيان:أنـزلت هذه الآية يوم جُمُعة وكان رسول الله يومئذ في الصفة، وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس، فقاموا حيال رسول الله ، فقالوا:السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. فرد النبي ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك، فردوا عليهم، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف النبي ما يحملهم على القيام، فلم يُفْسَح لهم، فشق ذلك على النبي ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار، من غير أهل بدر: « قم يا فلان، وأنت يا فلان » . فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه، وعرف النبي الكراهة في وجوههم، فقال المنافقون:ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبلُ عدل على هؤلاء، إن قوما أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب لنبيهم، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه. فبلغنا أن رسول الله قال: « رحم الله رجلا فَسَح لأخيه » . فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعًا، فَتَفَسَّحَ القومُ لإخوانهم، ونـزلت هذه الآية يوم الجمعة.
والآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه للخير والأجر، سواء كان مجلس حرب أو ذكر أو مجلس يوم الجمعة، فإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه :
وقد قال الإمام أحمد، والشافعي:حدثنا سفيان، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله قال: « لا يقيم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلسه فيجلس فيه، ولكن تَفَسَّحُوا وتَوسَّعوا » .وأخرجاه في الصحيحين من حديث نافع.
وقال الشافعي: عن جابر بن عبد الله. أن رسول الله قال: « لا يقيمن أحدُكم أخاه يوم الجمعة، ولكن ليقل:افسحوا » . على شرط السنن ولم يخرجوه
إذا قعد واحد من الناس في موضع من المسجد لا يجوز لغيره أن يقيمه حتى يقعد مكانه، لما روى مسلم عن أبي هريرة، عن النبي قال: « لا يقم الرجلُ الرجلَ من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن افسحوا يفسح الله لكم »
  فرع: القاعد في المكان إذا قام من مجلسه حتى قعد غيره موضعه نظر، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك، لأن فيه تفويت حظه.
إذا أمر إنسان إنسانا أن يبكر إلى الجامع فيأخذ له مكانا يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع، لما روي: أن ابن سيرين كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة فيجلس له فيه، فإذا جاء قام له منه.
فرع: ومثل هذا من أرسل بساطا أو سجادة فتبسط له في موضع من المسجد.ليجلس فيه إذا حضر. روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: " إذا قام أحدكم -من مجلسه - ثم رجع إليه فهو أحق به " قال علماؤنا: هذا يدل على صحة القول بوجوب اختصاص الجالس بموضعه إلى أن يقوم منه، لأنه إذا كان أولى به بعد قيامه فقبله أولى به وأحرى. وقد قيل: إن ذلك على الندب، لأنه موضع غير متملك لأحد لا قبل الجلوس ولا بعد. وهذا فيه نظر، وهو أن يقال: سلمنا أنه غير متملك لكنه يختص به إلى أن يفرغ غرضه منه، فصار كأنه يملك منفعته، إذ قد منع غيره من يزاحمه عليه.

وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد على المجلس إذا جاء على أقوال

فمنهم من رخص في ذلك محتجًّا بحديث: « قوموا إلى سيدكم » ومنهم من منع من ذلك محتجًّا بحديث: « من أحَبَّ أن يَتَمثَّلَ له الرجال قيامًا فَلْيَتبوَّأ مَقْعَدَه من النار » ( الترغيب والترهيب - صحيح) ،ومنهم من فصل فقال:يجوز عند القدوم من سفر، وللحاكم في محل ولايته، كما دل عليه قصة سعد بن معاذ، فإنه لما استقدمه النبي حاكمًا في بني قريظه فرآه مقبلا قال للمسلمين: « قوموا إلى سيدكم »( البخاري ) وما ذاك إلا ليكون أنفذ لحكمه، والله أعلم. فأما اتخاذه ديدنًا فإنه من شعار العجم. وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله ، وكان إذا جاء لا يقومون له، لما يعلمون من كراهته لذلك .
وفي الحديث المروي في السنن:أن رسول الله كان يجلس حيث انتهى به المجلس، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس، وكان الصحابة رضي الله عنهم، يجلسون منه على مراتبهم، فالصديق يجلسه عن يمينه، وعمر عن يساره، وبين يديه غالبًا عثمان وعلي؛ لأنهما كانا ممن يكتب الوحي، وكان يأمرهما بذلك، كما رواه مسلم عن أبي مسعود، أن رسول الله كان يقول: « لِيَليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » وما ذاك إلا ليعقلوا عنه ما يقوله، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا أمر أولئك النفر بالقيام ليجلس الذين وردوا من أهل بدر، إما لتقصير أولئك في حق البدريين، أو ليأخذ البدريون من العلم بنصيبهم، كما أخذ أولئك قبلهم، أو تعليما بتقديم الأفاضل إلى الأمام.
وعند مسلم عن أبي مسعود قال:كان رسول الله يمسح مناكبنا في الصلاة ويقول: « استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم، ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم » . قال أبو مسعود فأنتم اليوم أشد اختلافًا.
وإذا كان هذا أمره لهم في الصلاة أن يليه العقلاء ثم العلماء، فبطريق الأولى أن يكون ذلك في غير الصلاة.
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر أن رسول الله قال: « أقيموا الصفوف، وحَاذُوا بين المناكب، وسُدّوا الخلل، ولِينُوا بأيدي إخوانكم، ولا تَذَروا فرجات للشيطان، ومن وَصَل صفًّا وصله الله، ومن قطع صفّا قطعه الله » ( رواه النووي في رياض الصالحين – وحسَّن إسناده الألباني)
ولهذا كان أبي بن كعب - سيد القراء- إذا انتهى إلى الصف الأول انتزع منه رجلا يكون من أفناء الناس، ويدخل هو في الصف المقدم، ويحتج بهذا الحديث عن عبد الله بن مسعود: « ليلينى منكم أولو الأحلام والنهى » ( الترمذي وقال: حسن صحيح  غريب)
 وأما عبد الله بن عمر فكان لا يجلس في المكان الذي يقوم له صاحبه عنه، عملا بمقتضى ما تقدم من روايته الحديث الذي أوردناه. ولنقتصر على هذا المقدار من الأنموذج المتعلق بهذه الآية، وإلا فبسطه يحتاج إلى غير هذا الموضع، وفي الحديث الصحيح:بينا رسول الله جالس، إذ أقبل ثلاثة نفر، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها، وأما الآخر فجلس وراء الناس، وأدبر الثالث ذاهبًا. فقال رسول الله : « ألا أنبئكم بخبر الثلاثة، أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه » ( البخاري)
وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله قال: « لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما » .رواه أبو داود والترمذي، وحسنه الترمذي.
وقد رُوي عن ابن عباس، والحسن البصري وغيرهما أنهم قالوا في قوله تعالى: ( إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس فافسحوا ) يعني:في مجالس الحرب، قالوا:ومعنى قوله: ( وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) أي:انهضوا للقتال.
وقال قتادة: ( وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) أي:إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا.
وقال مقاتل [ بن حيان ] إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:كانوا إذا كانوا عند النبي في بيته فأرادوا الانصراف أحب كل منهم أن يكون هو آخرهم خروجا من عنده، فربما يشق ذلك عليه وقد تكون له الحاجة، فأمروا أنهم إذا أمروا بالانصراف أن ينصرفوا، كقوله: ( وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا)  [ النور28 ]
وقوله: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي:لا تعتقدوا أنه إذا فَسَح أحد منكم لأخيه إذا أقبل، أو إذا أمر بالخروج فخرج، أن يكون ذلك نقصا في حقه، بل هو رفعة ومزية عند الله، والله تعالى لا يضيع ذلك له، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة، فإن من تواضع لأمر الله رَفَع الله قدره، ونَشَر ذكره؛ ولهذا قال: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي:خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه.
روى مسلم : أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان، وكان عمر استعمله على مكة، فقال له عمر:من استخلفت على أهل الوادي؟ قال:استخلفت عليهم ابن أبزى. قال:وما ابن أبزى؟ فقال:رجل من موالينا. فقال عمر [ بن الخطاب ] استخلفت عليهم مولى؟. فقال:يا أمير المؤمنين، إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض. فقال عمر، رضي الله عنه:أما إن نبيكم قد قال: « إن الله يرفع بهذا الكتاب قومًا ويضع به آخرين » ( صحيح ابن ماجة – صححه الألباني)

" للهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي.
اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى.
وأسألك نعيما لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت.
وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة.

No comments:

Post a Comment