Monday 4 April 2016

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورة المجادلة –ج3




 


تفسير  وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورة المجادلة –ج3

قوله تعالى:  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) يأمر عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله ، أي: يساره فيما بينه وبينه، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام؛ ولهذا قال: ( ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) عن قتادة ومقاتل بن حيان سأل الناس رسول الله حتى أحفوه بالمسألة ففطمهم الله بهذه الآية فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله فلا يستطيع أن يقضيها حتى يقدم بين يديه صدقة فاشتد ذلك عليهم فأنزل الله الرخصة بعد ذلك ( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )
وقوله تعالى: ( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا ) أي:إلا من عجز عن ذلك لفقده ما ينفق منه،  ( فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) فما أمر بها إلا من قدر عليها.
وقد قيل:إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد قال:نهوا عن مناجاة النبي حتى يتصدقوا، فلم يناجه إلا علي بن أبي طالب، قدم دينارا صدقة تصدق به، ثم ناجى النبي فسأله عن عشر خصال، ثم أنـزلت الرخصة.( لم أجده في الأحاديث الموقوفة )
وقال ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، قال علي، رضي الله عنه:آية في كتاب الله عز وجل لم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيت رسول الله تصدقت بدرهم، فنسخت ولم يعمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي، ثم تلا هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) الآية.
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب قال:لما نـزلت: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) قال لِيَ النَّبيُّ ﷺ: "  ما تَرى ؟ دِينارٌ "، قُلتُ : لا يُطِيقُونَه ، قال : " فنِصفُ دِينارٍ ؟"  قُلتُ : لا يُطِيقُونَه ، قال : "  فَكَمْ ؟ " قُلتُ : شَعِيرةٌ ، قال : "  إِنَّكَ لَزَهِيدٌ "، قال : (  فنَزلتْ أَأَشْفَقْتُمْ أنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ )  الآيةُ . قال : فَبِي خَفَّفَ اللهُ عن هذه الأُمَّةِ (  الترمذي وقال فيه: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه ، وقال الألباني والبخاري عنه: ضعيف، في إسناده الضعيف ) ثم قال:ومعنى قوله: « شعيرة » :يعني وزن شعيرة من ذهب
وقال عكرمة والحسن البصري في قوله: ( فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) نسختها الآية التي بعدها ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) إلى آخرها.قال عليّ : كان لى دينار فبعته، فكنت إذا ناجيت الرسول تصدقت بدرهم حتى نفد، فنسخت بالآية الأخرى.
وقال مَعْمَر، عن قتادة: ( إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) إنها منسوخة:ما كانت إلا ساعة من نهار. وهكذا روى عبد الرزاق:أخبرنا معمر، عن أيوب، عن مجاهد قال علي:ما عمل بها أحد غيري حتى نسخت وأحسبه قال:وما كانت إلا ساعة.
قوله تعالى: ( ذلك خير لكم ) أي من إمساكها ( وأطهر )  لقلوبكم من المعاصي « فإن لم تجدوا » يقصد الفقراء، فإن لم تجدوا ما تتصدقوا به: « فإن الله غفور رحيم » ثم قال: ( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) أي:أخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول،  قوله تعالى: ( أَأَشْفَقْتُمْ ) استفهام معناه التقرير. قال ابن عباس: ( أَأَشْفَقْتُمْ ) أي أبخلتم بالصدقة، وقل: خفتم، والإشفاق الخوف من المكروه. أي خفتم وبخلتم بالصدقة وشق عليكم ( أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ) ، قال مقاتل بن حيان: إنما كان ذلك عشر ليال ثم نسخ. وقال الكلبي: ما كان ذلك إلا ليلة واحدة. وقال ابن عباس: ما بقي إلا ساعة من النهار حتى نسخ. وكذا قال قتادة. والله أعلم.
قوله تعالى: ( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّـهُ عَلَيْكُمْ ) أي نسخ الله ذلك الحكم. وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به ( فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) قالوا : نسخت فرضية الزكاة هذه الصدقة.
قال ابن العربي: وهذا يدل على مسألة أصولية وهي: جواز نسخ العبادة قبل فعلها. وقال: وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف( انظر تخريج الأحاديث في المسألة)،  ويؤيد الرأي بأن أحدا لم يعمل بهذه الآية،  قول الله تعالى بعدها: ( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ) وهذا يدل على أن أحدا لم يتصدق بشيء،  والله أعلم. قال تعالى: ( وَأَطِيعُوا اللَّـهَ ) في فرائضه ( وَرَسُولَهُ ) في سننه ( وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) .

قوله تعالى: ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ( قال قتادة: هم المنافقون تولوا اليهود، واليهود مذكرون في القرآن بـ ( وغضب الله عليهم ) [ الفتح: 6 ]، وقوله: (مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) يقول: ليس المنافقون من اليهود ولا من المسلمين بل هم مذبذبون بين ذلك، كان المنافقون يمالئون اليهود ويوالونهم في الباطن وكانوا يحملون أخبار المسلمين إليهم، ثم قال: ( مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) أي:هؤلاء المنافقون، ليسوا في الحقيقة لا منكم أيها المؤمنون، ولا من الذين تولوهم وهم اليهود. قال السدي ومقاتل: نزلت في عبدالله بن أبي وعبدالله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس النبي ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا النبي في حجرة من حجراته إذ قال: " يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان " فدخل عبدالله بن نبتل - وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية - فقال عليه : " علام تشتمني أنت وأصحابك " فحلف بالله ما فعل ذلك. فقال له النبي : " فعلت " فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت هذه الآية. وقوله تعالى :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) يعني:المنافقين يحلفون على الكذب وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا، وهي اليمين الغموس، ولا سيما في مثل حالهم اللعين، عياذًا بالله منه فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا، وإذا جاءوا الرسول حلفوا بالله [ له ] أنهم مؤمنون، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به؛ لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه، وإن كان في نفس الأمر مطابقًا؛ ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك.
( أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ) أي لهؤلاء المنافقين ( عَذَابًا شَدِيدًا ) في جهنم وهو الدرك الأسفل. ( إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي بئس الأعمال أعمالهم ( اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) يستنجون بها من القتل.
اختلاف القراءات زيادة في المعاني:
وقرأ الحسن وأبو العالية ( إِيْمَانَهُمْ ) بكسر الهمزة هنا وفي سورة ( المنافقون )
فأعطى معنى ثان؛ أي إقرارهم بالإيمان اتخذوه جنة أي حماية ودرع لهم من العذاب، فآمنت ألسنتهم من خوف القتل، وكفرت قلوبهم ، أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر.
 كما أنهم اتقوا بالأيمان الكاذبة القتل، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم، فحصل بهذا صد عن سبيل الله لبعض الناس
فأوعدهم بالعذاب المهين ( فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) أي:في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم الله العظيم في الأيمان فصدوا الناس ومنعوهم عن الإسلام، وقيل: أي بإلتخويف وتثبيط المسلمين عن الجهاد .( فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار.
قوله تعالى: ( لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) أي من عذابه شيئا. وقال مقاتل: قال المنافقون إن محمدا يزعم أنه ينصر يوم القيامة، لقد شقينا إذاً،  فوالله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأولادنا وأموالنا إن كانت قيامة. فنزلت: ( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ) أي لهم عذاب مهين يوم يبعثهم الله يوم القيامة، (  فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ ) إنهم سيحلفون لله يوم القيامة ، كما هم يحلفون لكم اليوم. وهذا أمر عجيب وهو مغالطتهم باليمين غداً، وقد صارت المعرف بالضرورة. وقال ابن عباس: هو قولهم لله يوم القيامة، ( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [ الأنعام:23، 24 ]
( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) بإنكارهم وحلفهم. قال ابن زيد: ظنوا أنه ينفعهم في الآخرة. وقيل: ( وَيَحْسَبُونَ ) في الدنيا ( أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ ) لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار. والأول أظهر. ثم قال منكرًا عليهم حسبانهم ( أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) فأكد الخبر عنهم بالكذب.
 وعن بن عباس قال النبي : " ينادي مناد يوم القيامة أين خصماء الله فتقوم القدرية مسودة وجهوهم مزرقة أعينهم مائل شدقهم يسيل لعابهم فيقولون والله ما عبدنا من دونك شمسا ولا قمرا ولا صنما ولا وثنا، ولا اتخذنا من دونك إلها " . قال ابن عباس: صدقوا والله! أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا ( وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ )  هم والله القدرية. ثلاثا.( حديث ضعيف)
قوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ ) أي غلب عليهم واستعلى، أي بوسوسته في الدنيا. وقيل: قوي عليهم. وقال المفضل: أحاط بهم. ويحتمل رابعا أي جمعهم وضمهم.

في اللغة :
 يقال: استحوذ الشيء،أي استولَى عليه وجعله لنفسه، وضمه إليه وصار في ملكه، وقيل: جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا ضمهم الشيطان وقوي عليهم وأحاط بهم، صار لهم آمراً.
 ( فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ ) أي:استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله، عز وجل، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه؛ فنسوا أوامره سبحانه في العمل بطاعته. وقيل: زواجره في النهي عن معصيته. والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. ( أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ) طائفته ورهطه ( أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ  ) في بيعهم، لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة. ولهذا قال أبو داود:
فعن أبي الدرداء:سمعت رسول الله يقول: « ما من ثلاثة في قرية ولا بَدْو، لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية » . قال السائب:يعني الصلاة في الجماعة .
ثم قال تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ) أي مؤكداً الخبر عن الكفار، أنهم هم المعاندين المحادين لله ورسوله، يعني:الذين هم في حَدٍّ والشرع في حَدٍّ، أي:مجانبون للحق مشاقون له، هم في ناحية والهدى في ناحية، ( أُولَئِكَ فِي الأذَلِّينَ ) هم في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الرحمة والتمكين ، بل هم في الأذلين في الدنيا والآخرة.
( كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ) أي:قد حكم وكتب في كتابه الأول ، وقيل في اللوح المحفوظ قَدَره الذي لا يُخالَف ولا يُمانع، ولا يبدل، بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأن العاقبة للمتقين، كما قال تعالى: ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) [ غافر:51 - 52 ] وقال ها هنا ( كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) أي:كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه. وهذا قدر محكم وأمر مبرم، أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة.
قوله تعالى: ( أَنَا ) توكيد ( وَرُسُلِي ) من بعث من الرسل بالحرب فإنه غالب بالحرب، ومن بعث منمهم بالحجة فإنه غالب بالحجة. قال مقاتل قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا مكة والطائف وخيبر وما حولهن رجونا أن يظهرنا الله على. فارس والروم، فقال عبدالله بن أبي ابن سلول: أتظنون الروم وفارس مثل القرى التي غلبتم عليها؟! والله إنهم لأكثر عددا، وأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت: ( لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ). نظيره: ( لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [ الصافات 171 -173] .
 ثم قال تعالى: ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) أي:لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين، كما قال تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)  [ آل عمران:28 ] الآية، وقد قال سعيد بن عبد العزيز وغيره:أنـزلت هذه الآية ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ) إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، حين قتل أباه يوم بدر؛ ولهذا قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة، رضي الله عنهم: « ولو كان أبو عبيدة حيًّا لاستخلفته » .
وقيل في قوله: ( وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ ) نـزلت في أبي عبيده قتل أباه يوم بدر ( أَوْ أَبْنَاءَهُمْ ) في الصديق، هَمَّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، ( أَوْ إِخْوَانَهُمْ ) في مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذ ( أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ) في عمر، قتل قريبا له يومئذ أيضًا، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذ، والله أعلم.
قلت:ومن هذا القبيل حين استشار رسول الله المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله أن يهديهم. وقال عمر:لا أرى ما رأى يا رسول الله، هل تمكني من فلان- قريب لعمر- فأقتله، وتمكن عليًا من عقيل، وتمكن فلانًا من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين... القصة بكاملها.
هذه الآية استدل بها الفقهاء مالك وغيره على معاداة القدرية خاصة، وأهل الكفر والظلم عامة، وترك مجالستهم،
قال أشهب عن مالك: لا تجالس القدرية وعادهم في الله، لقوله تعالى: ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ).
قلت: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظلم والعدوان. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان.
 وعن عبدالعزيز بن أبي داود أنه لقي المنصور في الطواف فلما عرفه هرب منه وتلاها. وعن النبي أنه كان يقول: "" اللهمَّ لا تَجعلْ لفاجرٍ عندِي يدًا فيُحبَّهُ قلْبِي" ( رواه الشوكاني وإسناده ضعيف )
 وقوله: (  أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ أي خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يوال من حاد الله. وقيل: كتب أثبت، وقيل :أي:كتب له السعادة وقررها في قلبه وزين الإيمان في بصيرته. وقيل: « كتب » أي جمع وقيل: جعل، كقوله تعالى: ( فاكتبنا مع الشاهدين ) [ آل عمران: 53 ] أي اجعلنا، يدل عليه قوله تعالى: ( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) جعل في قلوبهم الإيمان وكذلك أيدهم ، وخص القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان. ( أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ) أي:من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ولو كان أباه أو أخاه، فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان،
( وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ )  قواهم ونصرهم بروح منه، قال الحسن: وبنصر منه. وقال الربيع بن أنس: بالقرآن وحججه. وقال ابن جريج: بنور وإيمان وبرهان وهدى. وقيل: برحمة من الله. وقال بعضهم: أيدهم بجبريل عليه السلام.
 ( وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) أي يدخلهم الجنات، ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) أي  قبل أعمالهم ( وَرَضُوا عَنْهُ ) فرحوا بما أعطاهم (أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ  قال سعيد بن أبي سعيد الجرجاني عن بعض مشايخه، قال داود عليه السلام: إلهي! من حزبك وحول عرشك؟ فأوحى الله إليه: « يا داود الغاضة أبصارهم، النقية قلوبهم، السليمة أكفهم، أولئك حزبي وحول عرشي » .

تناسب الثواب مع العمل:

قالوا في  قوله: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ) سر بديع، وهو أنه لما سخطوا على الأقارب والعشائر في الله عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.

وقوله: ( أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) أي:هؤلاء حزبُ الله، أي: عباد الله وأهل كرامته.
وقوله: ( أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرهم في الدنيا والآخرة، في مقابلة ما أخبر عن أولئك بأنهم حزب الشيطان. ثم قال: ( أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ )
ويروى أن أبا حازم الأعرج كتب إلى الزهري:اعلم أن الجاه جاهان، جاه يجريه الله على أيدي أوليائه لأوليائه، وأنهم الخامل ذكرهم، الخفية شخوصهم، ولقد جاءت صفتهم على لسان رسول الله قال « اليسيرُ منَ الرياءِ شركٌ ومن عادَى أولياءَ اللَّهِ فقد بارزَ اللَّهَ بالمحاربةِ وإنَّ اللَّهَ يحبُّ الأبرارَ الأتقياءَ الأخفياءَ الذينَ إن غابوا لم يُفتَقَدوا وإن حضروا لم يُعرفوا قلوبُهُم مصابيحُ الهدَى يخرجونَ من كلِّ غبراءَ مُظلمةٍ
» فهؤلاء أولياء الله تعالى الذين قال الله: ( أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) 

تم بحمد الله الذي بنعمته تتم الصالحات تفسير سورة المجادِلة 

اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين الفائزين يوم القيامة بالكرامة والفضل الكبير

No comments:

Post a Comment