Sunday 2 August 2020

تفسير وربط للآيات – وبيان المتشابهات -سورة المدثر ج1- بداية الرسالة المحمدية، وأول ما أُمر به، إقامة دعائم الدين.


  

سورة المدثر ج1- بداية الرسالة المحمدية، وأول ما أُمر به، من إقامة دعائم الدين.

 

سبب التسمية:

سُميت السورة ‏بهذا ‏الاسم ‏لأن ‏المرتكز ‏الأساسي ‏دار ‏حول ‏الرسول ﷺ ‏فناداه ‏الله ‏بحالته ‏وهى ‏التدثر ‏بالثوب ‏فوصف ‏بحالته التي كان عليها بعد رؤية جبريلعليه السلام على الكرسي بين الأرض والسماء.

تبدأ السورة بنداء النبي ﷺ

 والسور التي تبدأ بالنداء عموما هي عشر سور: اثنتان منها تبدأ بنداء الناس كافة، وثلاثة تبدأ بنداء المؤمنين وهي:

 

1- قوله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم من نفس واحدة…..} النساء .

2- قوله تعالى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شيء عَظِيم.. } الحج .

3- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ } المائدة .-

4- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الحجرات.

5- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي أَولِيَاءَ  } الممتحنة .

 

وخمسة سور تبدأ بنداء النبي ﷺ خاصة، وهي:

6- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ } الأحزاب

7- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء} الطلاق .

8- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ } التحريم .

9- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ } المزمل .

10- قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ } المدثر.

 

تعريف بالسورة:

-  سورة مكية، آياتها 56 آية، قصار ما عدا الآية 31، تنتهي آياتها  بـــ (ر د ن)

-تعنى بالنبوة والرسالة، والعقيدة؛ الإيمان بالغيب؛ يوم القيامة وأحوال الناس فيه، الجنة والنار وأهم أسباب دخولها.

 -فيها ثلاث أقسام، أقسم تعالى بآيات دالات على قدرته سبحانه، بـ( القمر- الليل – الصبح)

-تحكي قصة الوليد بن المغيرة وكفره بالرغم من اعترافه بعظمة القرآن، ونفيه عن النبي ﷺ الكذب أو الشعر أو الكهانة، فرماه بالسحر، وهو يعلم أنه كاذب.

- فيها ذكر الملائكة خزنة النار.

سبب النزول:

روى الحاكم، وغيره، عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي ﷺ، فقرأ عليه القرآن، فكأنه رق له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالًا! قال: لم؟ قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدًا تتعرض لما قبله، قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له، قال: وماذا أقول؟! فوالله، ما فيكم من رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن مني، والله، ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا، والله، إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته، قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه! قال: فدعني حتى أفكر، فلما فكر، قال: (هذا سحر يؤثر) يأثره عن غيره، فنزلت: ذرني ومن خلقت وحيدًا. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط البخاري، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

ترتيب نزولها

 الثانية بعد العلق، نزلت السبع آيات الأولى منها بعد الخمس آيات الأولى من سورة (العلق)  

-ترتيبها في المصحف الرابعة والسبعون وهي من المفصل، والمفصل من سورة (ق) إلى سورة (الناس).

 

بداية نزول السورة :

 

عن جابر قال : سَأَلْتُ أبا سَلَمَةَ: أيُّ القُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قالَ: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ}، فَقُلتُ: أوِ {اقْرَأْ}؟ فقالَ: سَأَلْتُ جابِرَ بنَ عبدِ اللهِ: أيُّ القُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قالَ: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ}، فَقُلتُ: أوِ {اقْرَأْ}؟ قالَ جابِرٌ: أُحَدِّثُكُمْ ما حَدَّثَنا رَسولُ اللهِ ، قالَ: جاوَرْتُ بحِراءٍ شَهْرًا، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوارِي نَزَلْتُ فاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الوادِي، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أمامِي وخَلْفِي، وعَنْ يَمِينِي، وعَنْ شِمالِي، فَلَمْ أرَ أحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أرَ أحَدًا، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فإذا هو علَى العَرْشِ في الهَواءِ، يَعْنِي جِبْرِيلَ عليه السَّلامُ، فأخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ، فأتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَقُلتُ: دَثِّرُونِي، فَدَثَّرُونِي، فَصَبُّوا عَلَيَّ ماءً، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {يا أيُّها المُدَّثِّرُ * قُمْ فأنْذِرْ * ورَبَّكَ فَكَبِّرْ * وثِيابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر ١ -٤) " (رواه مسلم).

وفي حديث آخر عن عن جابر بن عبد اللّه أيضا، أن رسول اللّه ﷺ قال: (جاورت بحراء فلما قضيت جواري، هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني، فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة، فقلت: دثروني وصبوا عليَّ ماء بارداً - قال - فدثروني وصبُّوا عليَّ ماء بارداً، قال، فنزلت: { يا أيها المدثر . قُمْ فأنذر . وربك فكبِّر} )رواه البخاري(.

 

التفسير:

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ﴿١﴾ قُمْ فَأَنذِرْ ﴿٢﴾ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ﴿٣﴾ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴿٤﴾ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴿٥﴾ وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴿٦﴾ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ﴿٧﴾

كان الوَحْيُ قد بَدَأ يَأْتِي النبيَّ ﷺ في غار حراء حيث نزل عليه الخمس الآيات الأول من سورة العلق، ثُمَّ انْقَطَع عنه مُدَّةً، ثُمَّ جاءَه جِبْرِيلُ عليه السَّلامُ مَرَّةً أُخرَى بعد تشوق من النبي ﷺ وترقب.

واختلف علماء السيرة في مدة انقطاع جبريل عليه السلام عن النبي ﷺ بعد اللقاء الأول في غار حراء، فمن قائل إنها كانت أياماً، وقيل إنها كانت ستة أشهر، وقيل إن الأقرب إلى الصواب هو ما روى عن ابن عباس أن فترة انقطاع الوحي كانت أربعين يوماً، وأما ما اشتهر من أنها دامت ثلاث سنوات أو سنتين ونصفاً فليس بصحيح.

 

  وفي الحديث عن أبي سلمة قال: أخبرني جابر بن عبد اللّه أنه سمع رسول اللّه ﷺ يحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه: "فَبيْنَا أنَا أمْشِي سَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ، فَرَفَعْتُ بَصَرِي قِبَلَ السَّمَاءِ، فَإِذَا المَلَكُ الذي جَاءَنِي بحِرَاءٍ قَاعِدٌ علَى كُرْسِيٍّ بيْنَ السَّمَاءِ والأرْضِ، فَجَئِثْتُ منه حتَّى هَوَيْتُ إلى الأرْضِ، فَجِئْتُ أهْلِي فَقُلتُ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي فَزَمَّلُونِي، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أيُّها المُدَّثِّرُ قُمْ فأنْذِرْ} إلى قَوْلِهِ {فَاهْجُرْ} - قالَ أبو سَلَمَةَ: والرِّجْزَ الأوْثَانَ - ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ." قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان، (ثم حمي الوحي وتتابع) (أخرجه البخاري ومسلم)

واقتضى هنا التنبيه على رواية عن الزهري فيها: حَدَّثَنَا ابْن عَبْد الْأَعْلَى , قَالَ : ثنا ابْن ثَوْر , عَنْ مَعْمَر , عَنِ الزُّهْرِيّ , قَالَ : [ فيما بلَغَنا ] فَتَرَ الْوَحْي عَنْ رَسُول اللَّه ﷺ فَتْرَة، فَحَزِنَ حُزْنًا، فَجَعَلَ يَعْدُو إِلَى شَوَاهِق رُءُوس الْجِبَال لِيَتَرَدَّى مِنْهَا، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَل تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام فَيَقُول: إِنَّك نَبِيّ اللَّه، فَيَسْكُن جَأْشه،  وَتَسْكُن نَفْسه؛ فَكَانَ النَّبِيّ ﷺ يُحَدِّث عَنْ ذَلِكَ ، قَالَ : " بَيْنَمَا أَنَا أَمْشِي يَوْمًا إِذْ رَأَيْت الْمَلَك الَّذِي كَانَ يَأْتِينِي بِحِرَاءٍ عَلَى كُرْسِيّ بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض , فَجُثِثْت مِنْهُ رُعْبًا , فَرَجَعْت إِلَى خَدِيجَة فَقُلْت : زَمِّلُونِي , فَزَمَّلْنَاهُ " : أَيْ فَدَثَّرْنَاهُ ، فَأَنْزَلَ اللَّه { يَا أَيّهَا الْمُدَّثِّر قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبّك فَكَبِّرْ وَثِيَابك فَطَهِّرْ } ( صحيح ابن حبان)

وكون الحديث صحيح لا يعني أنه الجملة الإعتراضية التي هي من قول الزهري من نفسه (فيما بلغنا) صحيحة، بل هي من قبيل البلاغات، التي لم يصححها البخاري، فرواية عن رسول الله أنه عزم على أن يتردي من رؤوس الجبال- اي ينتحر- غير صحيحة ولا تليق بالنبي، أنما هي مبالغة من قائلها يبين حزن النبي ﷺ على فترة الوحي، ولا تجوز.

 ثُمَّ تَتَابَع بعدَ ذلك الوَحْيُ على النبيِّ ، وحَمِيَ، أي: اشتَدَّ وكَثُرَ نُزولُه وازدادَ.

وهذا السياق يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: "إِذْ رَأَيْت الْمَلَك الَّذِي كَانَ يَأْتِينِي بِحِرَاءٍ" وهو جبريل حين أتاه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، ثم إنه حصل بعد هذا فترة ثم نزل الملك بعد هذا، كما قال الإمام أحمد، عن جابر بن عبد اللّه، الحديث السابق

التفسير:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} نداء فيه ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله، وعبر عنه بصفته، ولم يقل يا محمد ويا فلان، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما في سورة المزمل ‏أيضا.

وقوله تعالى: {قُمْ فَأَنذِرْ} أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس، ولأن النداء له وهو قد تدثر، فقال له: قُمْ مِنْ نَوْمك فَأَنْذِرْ عَذَاب اللَّه قَوْمك الَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ، وَعَبَدُوا غَيْره، ويلاحظ أنه هنا جاء بالنذارة فقط، ولم يقابلها كعادة بقية القرآن بالبشارة، وذلك لأن دعوته في البداية وهي إلى قوم كلهم مشركون بالله،  فقال له ربه خوِّف أهل مكة وحذرهم العذاب إن لم يؤمنوا‏.‏ وقيل‏:‏ الإنذار هنا إعلامهم بنبوته؛ لأنه مقدمة الرسالة، وهذا محتمل من اللفظ والحال.

{وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} أي عظّم الله، وصِفْه بأنه أكبر‏ وأعظم أن يشرك به.

 فأرشده إلى التكبير والتقديس والتنزيه، لخلع الأنداد والأصنام دون الله، ولا تتخذ وليا غيره، ولا تعبد سواه، ولا ترى لغيره فعلا إلا له، ولا نعمة إلا منه‏.

وحمل عليه لفظ النبي ﷺ الوارد على الإطلاق في موضع؛ منها قوله‏:‏ ‏(‏تحريمُهَا التَّكبيرُ وتحليلُهَا التَّسلِيمُ )‏ ( صحيح، مشهور)

وقد يراد بالأمر بالتكبير هو تكبير الصلاة. والمنقول عن النبي ﷺ قول: {‏الله أكبر‏} ‏ وهو القول المتعبد به للدخول في الصلاة ( وعليه فيجوز أن يكون الأمر بالتكبير هو  أمر بالصلاة، وكنى عنها بالتكبير لأنه تحريمها)، ، وفي تفسير القرطبي‏:‏ أنه لما نزل قوله تعالى‏: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ‏ قام رسول الله ﷺ وقال‏:‏ ‏(‏اللهُ أكْبَرُ‏) ‏فكبرت خديجة، وعلمت أنه الوحي من الله تعالى؛  قال ذكره القشيري‏.‏ ( لم أجده)

وقد روي أن أبا سفيان قال يوم أحد‏:‏ اعل هبل؛ فقال النبي ﷺ أي لأصحابه على جبل أُحد: ‏(‏ قولوا اللهُ أعلى وأجلُّ ‏)‏ وقد صار هذا اللفظ بعرف الشرع في تكبير العبادات كلها ، أذانا وصلاة وذكرا بقوله: ‏{ ‏الله أكبر‏}

تفصيل الحوار عند جبل أحد:

لمَّا كان  يومُ أُحدٍ ولقينا المشركينَ أجلَس رسولُ اللهِ ﷺ جيشًا مِن الرُّماةِ وأمَّر عليهم عبدَ اللهِ بنَ جُبيرٍ وقال: ( لا تبرَحوا مِن مكانِكم إنْ رأَيْتُمونا ظهَرْنا عليهم، وإنْ رأَيْتُموهم ظهَروا علينا فلا تُعينونا ) فلمَّا لقينا القومَ وهزَمهم المسلِمون حتَّى رأَيْتُ النِّساءَ يشتدِدْنَ في الجبلِ قد رفَعْنَ عن سوقِهنَّ قد بدت خَلاخيلُهنَّ، فأخَذوا ينقلِبون ويقولون: الغنيمةَ الغنيمةَ، فقال لهم عبدُ اللهِ: مهلًا، أمَا علِمْتم ما عهِد إليكم رسولُ اللهِ ﷺ فانطلَقوا فلمَّا أتَوْهم صرَف اللهُ وجوهَهم فأُصيب مِن المسلِمينَ تسعونَ قتيلًا ثمَّ إنَّ أبا سُفيانَ أشرَف علينا وهو على نَشَزٍ فقال: أفي القومِ محمَّدٌ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: ( لا تُجيبوه ) ثمَّ قال: أفي القومِ ابنُ أبي قُحافةَ ثلاثًا قال رسولُ اللهِ ﷺ: ( لا تُجيبوه ) ثمَّ قال: أفي القومِ عمرُ بنُ الخطَّابِ فقال رسولُ اللهِ ﷺ: ( لا تُجيبوه ) فالتفَت إلى أصحابِه فقال: أمَّا هؤلاء فقد قُتِلوا لو كانوا أحياءً لأجابوا، فلم يملِكْ عمرُ نفسَه أنْ قال: كذَبْتَ يا عدوَّ اللهِ قد أبقى اللهُ لكَ ما يُخزيكَ

فجاء أبو سُفْيانَ، فقال: اعْلُ هُبَلُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: قولوا: اللهُ أعلى وأجَلُّ، فقالوا: اللهُ أعلى وأجَلُّ، فقال أبو سُفْيانَ: لنا عُزَّى ولا عُزَّى لكم، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: قولوا: اللهُ مَولانا، والكافرونَ لا مَولى لهم، ثُمَّ قال أبو سُفْيانَ: يومٌ بيومِ بَدرٍ؛ يومٌ لنا، ويومٌ علينا، ويومٌ نُساءُ، ويومٌ نُسَرُّ، حَنظَلةُ بحَنظَلةَ، وفُلانٌ بفُلانٍ، وفُلانٌ بفُلانٍ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: لا سَواءً؛ أمَّا قَتلانا فأحْياءٌ يُرزَقونَ، وقَتلاكم في النَّارِ يُعذَّبون،،،)

{وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} سئل ابن عباس عن هذه الآية: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } فقال: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، وفي رواية عنه: فطهر من الذنوب، وقال مجاهد: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال: نفسك ليس ثيابه، وفي رواية عنه: أي عملك فأصلح، وقال قتادة: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي طهرها من المعاصي، وقال محمد بن سيرين: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي اغسلها بالماء، وقال ابن زيد: كان المشركون لا يتطهرون، فأمره اللّه أن يتطهر وأن يطهر ثيابه، وهذا القول اختاره ابن جرير.

 وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب، فإن العرب تطلق الثياب عليه. وقال سعيد بن جبير {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وقلبك ونيتك فطهر.

ويجوز أن تعني التجهز للصلاة- اتباعا لما قلنا أن قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ‏ هي التكبير للصلاة- ومن شروط الصلاة طهارة البدن والثوب والمكان، فيكون هذا الأمر لتطهير كل ذلك مع تطهير القلب ليلقى ربه جل في علاه.

وعموما فإنها تجوز أن تعني كل ما سبق: الثياب، والقلب والنفس، والخلق، والدين، والجسم، والعمل- وكانوا يقولون وإذا كان الرجل خبيث العمل قالوا إن فلانا خبيث الثياب، وإذا كان حسن العمل قالوا إن فلانا طاهر الثياب؛ ومنه ما روي عن النبي ﷺ أنه قال‏:‏ ‏(‏يحشر المرء في ثوبيه اللذين مات عليهما‏)‏ يعني عمله الصالح والطالح.

وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} قال ابن عباس: والرجز وهو الأصنام والأوثان التي كانت تعبد من دون الله، فاهجر: فدعها.

وقال الضحّاك {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}: أي اترك المعصية.

تنبيه مهم: لا يلزم من أن الله أمره بهذا فلا يلزم تلبسه ﷺ بشيء منه:

وهذا  كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّـهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ۗ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }( الأحزاب١)، قالوا فيها: لكن أكان رسول الله ﷺ غير تقي حتى يأمره ربه بالتقوى؟

نقول: ليس المعنى أنْ يكون الرسول عصى، فيأمره الله بتقواه، لكن الحق سبحانه ينشئ مع رسوله كلاماً بداية دون سابقة عصيان، أو: أنه الأمر الأول بالتقوى كما تقول لمجتهد في عمله: اجتهد في هذا الأمر، أي واصل اجتهادك.

فمعنى { يَٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ} [الأحزاب ١] أي: واصل تقواك حالاً، كما فعلتها سابقاً، وواصلها مستقبلاً، فلا تنقطع عنها أبداً.

 

قوله تعالى { وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } فيه أحد عشر تأويلا؛

 الأول : لا تمنن على ربك بما تتحمله من أثقال النبوة، كالذي يستكثر ما يتحمله بسبب الغير.

 الثاني : لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها؛ قال الضحاك : هذا حرمه الله على رسول الله ﷺ؛ لأنه مأمور بأشرف الآداب وأجل الأخلاق، وأباحه لأمته؛

الثالث : عن مجاهد أيضا لا تضعُف أن تستكثر من الخير؛ من قولك حبل منين إذا كان ضعيفا؛ ودليله قراءة ابن مسعود  التفسيرية {وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } من الخير} .

 الرابع : عن مجاهد: لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير، فإنه مما أنعم الله عليك. قال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك، إنما عملك منة من الله عليك؛ إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته.

 الخامس: قال الحسن: لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، مثل شخص يقوم الليل بطوال السور، فيعجب من عمله، ويستكثره على الله سبحانه.

 السادس: لا تمنن بالنبوة والقرآن على الناس فتأخذ منهم أجرا تستكثر به.

السابع: قال القرظي : لا تعط مالك مصانعة.

 الثامن: قال زيد بن أسلم : إذا أعطيت عطية فأعطها لربك.

 التاسع: لا تقل دعوتُ فلم يُستجب لي.

العاشر: لا تعمل طاعة وتطلب ثوابها، ولكن اصبر حتى يكون الله هو الذي يثيبك عليها.

الحادي عشر: لا تفعل الخير لترائي به الناس.

وإن كانت هذه الأقوال كلها مرادة فأظهرها قول ابن عباس: لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال، وهذا المعنى المتبادر للمن.

يقال في اللغة:

مننت فلانا كذا أي أعطيته. ويقال للعطية المنة؛ فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله، لا لتوقع  ثواب من الخلق عليها؛ لأنه عليه السلام ما كان يجمع الدنيا.

 ولقد روى عبادة بن الصامت قال:  أخَذ رسولُ اللهِ ﷺ يومَ حُنينٍ وَبَرةً مِن جَنبِ بعيرٍ ثمَّ قال: ( يا أيُّها النَّاسُ إنَّه لا يحِلُّ لي ممَّا أفاء اللهُ عليكم قَدرَ هذه إلَّا الخُمُسُ والخُمُسُ مردودٌ عليكم) ( صحيح بن حبان) "إلَّا الخُمُسُ، والخمُسُ مَردودٌ فيكم"، أي: يَأخُذُ منه نفَقتَه وحاجتَه، والباقي يَصرِفُه في مَصالحِ المسلِمين، ومَصالحِ الدِّين؛ من السِّلاحِ، والخيلِ، والعُدَّةِ، وغيرِ ذلك. ولهذا لم يورث؛ لأنه كان لا يملك لنفسه الادخار والاقتناء.

 وقد عصمه الله تعالى عن الرغبة في شيء من الدنيا؛ ولذلك حرمت عليه الصدقة وأبيحت له الهدية، فكان يقبلها ويثيب عليها. وقال : (لَوْ دُعِيتُ إلى ذِراعٍ أوْ كُراعٍ لَأَجَبْتُ، ولو أُهْدِيَ إلَيَّ ذِراعٌ أوْ كُراعٌ لَقَبِلْتُ.) ، فأشارَ ﷺ بالذِّراع والكُراعِ إلى إجابةِ الدَّعوةِ ولو على شَيءٍ قليلٍ، وقَبولِ الهديَّةِ وإن قلَّتْ.

إن معناها لا تعطي عطية تنتظر ثوابها، فإن الانتظار تعلق بالأطماع، وذلك في جنابه ﷺ بحكم الامتناع، وقد قال الله تعالى له { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [طه ١٣١]. وذلك جائز لسائر الخلق؛ لأنه من متاع الدنيا، وطلب الكسب والتكاثر بها.

وأما من قال أراد به العمل أي لا تمنن بعملك على الله فتستكثره فهو صحيح؛ فإن ابن آدم لو أطاع الله عمره من غير فتور لما بلغ لنعم الله بعض الشكر.

وقوله تعالى: {ولربك فاصبر} أي ولسيدك ومالكك فاصبر على أداء فرائضه وعبادته. وقال مجاهد : على ما  ستواجه من الأذى، وقال ابن زيد : حملت أمرا عظيما؛ محاربة العرب والعجم، فاصبر عليه لله، وذلك كما قال العبد الصالح لابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ ۖ إِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } ( لقمان١٧)، لما وعظ ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثني عليها بـ {وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ}، فالدعوة لله والأمر بالمعروف يلزمه الصبر عليه، فكيف بما حُمِّل نبينا الكريم من الدعوة!!

 وقيل : فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله تعالى. وقيل : فاصبر على البلوى؛ لأنه يمتحن أولياءه وأصفياءه. وقيل : على أوامره ونواهيه. وقيل : على فراق الأهل والأوطان. وكل هذه المعاني مرادة .  والله أعلم

No comments:

Post a Comment