Saturday 26 November 2022

تفسير سورة البقرة ح 21 ما المفهوم من تقديم التعليم على التزكية في هذا...

   
 

تفسير سورة البقرة- ح ٢١

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ

وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۖ) 

أنا دَعوةُ أبي إبراهيمَ ، وبشارَةُ عيسى بي ورؤيا أمِّي الَّتي رأَت

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ)

لن تُسألَ أمةٌ عن سابقتها، ولا نفسٌ عن نفسٍ شيئًا

 

مواضيع هذا الجزء:

- الأب الرحيم يدعو للعرب من أمته-ويدخل فيها بقية الناس- إن يبعث فيهم ربهم رسولًا يتلو عليهم آيات الكتاب ويهديهم، ويزكيهم.

-كانت دعوة إبراهيم عليه السلام بطلب العلم قبل التزكية، وجاءت نظير هذه الدعوة فيما بعد بطلب التزكية قبل العلم.

-وصية إبراهيم لبنيه، تقول لنا أن محلها حصل بالقبول، فامتدت للأبناء أن يوصوا أبناءهم،،

 

التفسير:

وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ﴿١٢٨﴾‏،  قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك. وقال عكرمة:   (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال اللّه: قد فعلت (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)، قال اللّه: قد فعلت. وقال السدي: (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ) يعنيان العرب. قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم  تخصيص العرب لا ينفي من عداهم.

وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا اللّه تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) ﴿الفرقان ٧٤﴾‏، وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة اللّه تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد اللّه وحده لا شريك له.

وقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)، إن أصل النسك في اللغة الغسل ، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله . وهو في الشرع اسم للعبادة، يقا : رجل ناسك إذا كان عابدا .قال عطاء: أخرجها لنا، علمنا أياها، (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا). اختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا :

 فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة، وقال مجاهد: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح . وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومنسك . والناسك : العابد . ثم قال: (وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة . وقيل : المعنى وتب على الظلمة منا.

عن ابن عباس قال: إنَّ إبراهيمَ عليه الصلاةُ والسلامُ لما أُرِيَ المناسكَ عرَض له شيطانٌ عندَ المَسعى فسابَقه ، فسبَقه إبراهيمُ  عليه السلامُ ، ثم انطلَق به جبريلُ عليه السلامُ حتى أتى به مِنًى ، فقال: مناخُ الناسِ هذا، ثم انتَهى إلى جمرةِ العقبةِ، فعرَض له شيطانٌ فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب به إلى جمرةِ الوُسطى، فعرَض له الشيطانُ، فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب ، ثم أتى جمرةَ القُصوى، فعرَض له الشيطانُ فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب، ثم أتى به جمعًا فقال: هذا المشعرُ الحرامُ، ثم أتى به عَرَفَةَ فقال: هذه عَرَفَةُ،  قال ابنُ عباسٍ : أتَدري لِمَ سُمِّيَتْ عَرَفَةَ ؟ قال: لا قال: لأنَّ جبريلَ عليه السلامُ  قال له: أعَرَفتَ ؟) "أخرجه الطيالسي عن ابن عباس".

 والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ) ﴿١٢٩﴾. والمراد بذلك محمد ﷺ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ ) ﴿الجمعة  ٢﴾  ، ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ﴿الأعراف ١٥٨﴾‏  وغير ذلك من الأدلة القاطعة.

عن العرباض بن سارية،أن رسول الله ﷺ قال: (إنِّي عندَ اللَّهِ لخاتِمُ النَّبيِّينَ، وإنَّ آدمَ لمنجدِلٍ في طينتِهِ ، وسأنبِّئُكُم بأوَّلِ ذلِكَ : دَعوةُ أبي إبراهيمَ ، وبشارَةُ عيسى بي ورؤيا أمِّي الَّتي رأَت ، وَكَذلِكَ أمَّهاتِ النبيِّينَ يريْنَ) ( عمدة التفسير- صحح إسناده أحمد شاكر-بدون جملة (وكذلك أمهات النبيين يرين)

قوله تعالى : ومن ذريتنا أمة مسلمة لك أي ومن ذريتنا فاجعل ، فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة. ومن في قوله: ومن ذريتنا للتبعيض ; لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين . وحكى الطبري : أنه أراد بقوله ومن ذريتنا العرب خاصة. قال السهيلي : وذريتهما العرب؛  لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال : قيدر بن نبت بن إسماعيل. أما من جاء بعدهم؛ فالعدنانية فمن نبت ، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل ، أو تيمن على أحد القولين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ; لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم .

والأمة : الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى : ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفً ..ا) ﴿ النحل١٢٠﴾

 وقال ﷺ في زيد بن عمرو بن نفيل: (إنَّهُ يُبْعَثُ أُمَّةً وحْدَهُ ) لأنه لم يشرك في دينه غيره.


وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى ، ومنه قوله تعالى: (بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ)﴿الزخرف ٢٢﴾‏؛ أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى: ( إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) ﴿الأنبياء ٩٢﴾‏

-وقال تعالى: (وَإِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ﴿المؤمنون ٥٢﴾‏.

 وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ...) ﴿٤٥يوسف﴾ أي بعد حين وزمان .

 والأمة: الأم ، يقال : هذه أمة زيد.

والأمة أيضا : القامة ، يقال : فلان حسن الأمة ، أي حسن القامة

نبذه عن زيد بن عمرو بن نفيل العدوي القرشي مؤمن حنيفي: هو أحد أشهر الموحدين في الجاهلية، وهو والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، من زوجته فاطمة بنت بَعْجَة بن أُميّة بن خُويلد.

ذكر عنه أنه: وحد الله باحثاً عن دين إبراهيم الحنيف. ارتحل في الجزيرة العربية والشام والعراق باحثاً عن الإسلام، وهناك قابل أحبار اليهود والنصارى، وعلم أن نبياً سيبعث، ولم يقتنع باليهودية ولا النصرانية فظل على حنيفيته، إلا أن أحد الأحبار قال له: «إرجع فإن النبي الذي تنتظره يظهر في أرضك». فرجع زيد إلى مكة، وقد لقي محمداً غير ما مرة، غير أنه لم يدرك البعثة، وذكر عنه النبيﷺ أنه كان يأبى أكل ما ذبح للأصنام.

عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لقد رأيت زيداً بن عمرو بن نفيل مسندا ظهره إلى الكعبة يقول: «يا معشر قريش والذي نفس زيد بيده ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري»، ثم يقول: «اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم»، ثم يسجد على راحلته.

وجاء في صحيح البخاري: عن عبد الله بن عمر، رضى الله عنهما : «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلِ بَلْدَحَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْوَحْىُ فَقُدِّمَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ سُفْرَةٌ، فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، ثُمَّ قَالَ زَيْدٌ إِنِّي لَسْتُ آكُلُ مِمَّا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ، وَلاَ آكُلُ إِلاَّ مَا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ. وَأَنَّ زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ، وَيَقُولُ: «الشَّاةُ خَلَقَهَا اللَّهُ، وَأَنْزَلَ لَهَا مِنَ السَّمَاءِ الْمَاءَ، وَأَنْبَتَ لَهَا مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ إِنْكَارًا لِذَلِكَ وَإِعْظَامًا لَهُ.»    والله أعلم .

عودة للتفسير:

قوله تعالى: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يعني محمدا ﷺ. وفي قراءة أبي " وابعث في آخرهم رسولا منهم "  ويعلمهم الكتاب والحكمة الكتاب القرآن والحكمة المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله  الإمام مالك،  وقال قتادة : الحكمة السنة وبيان الشرائع . وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب.

ونسب التعليم إلى النبي ﷺ من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه. ويزكيهم أي يطهرهم من وضر الشر، والزكاة : التطهير، لذلك كانت زكاة المال : طهرة للمال.

ويزكيهم أي يطهرهم من نجس الشرك، وقيل أنه خص هنا التزكية على التعليم لأنهم كانوا يشركين بالله فلزم أن يطهر نفوسهم من الشرك قبل أن يتلوا القرآن والحكمة.

وقيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ. والكتاب معاني الألفاظ. والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد ، ومفسر ومجمل ، وعموم وخصوص ، وهو معنى ما تقدم ، والله تعالى أعلم .

(إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)  والعزيز معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب، ولا يعجزه شيء ، دليله قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ) ﴿فاطر ٤٤﴾‏.

قال الكسائي: العزيز الغالب، ومنه قوله تعالى : (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) ﴿ص ٢٣﴾؛ أي غلبني، وفي المثل : " من عزَّ بز " أي؛ من غلب سلب . وقيل: العزيز الذي لا مثل له .

الحَكَمَةُ: ما أحاط بحَنَكَي الفرس، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، وتُذلِّل الدَّابَّة لراكبها، حتى تمنعها من الجِماح، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل.

وأَحْكَمَ الأَمْرَ: أي أَتْقَنَه فاستَحْكَم، ومنعه عن الفساد، أو منعه من الخروج عمَّا يريد.

والحِكْمَة:  اسم لإحكام وضع الشيء في موضعه.

وقال ابن القيِّم: (الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)

وَالحَكِيمُ سُبْحَانَهُ هُوَ المُتَّصِفُ بِحِكْمَةٍ حَقِيقِيَّةٍ عَائِدَةٍ إِلَيْهِ وَقَائِمَةٍ بِهِ كَسَائِرِ صِفَاتِهِ وَالتِي مِنْ أَجَلِهَا خَلَقَ فَسَوَّى، وَقَدَّرَ فَهَدَى، وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى، وَأَضَلَّ وَهَدَى، وَمَنَعَ وَأَعْطَى.

 فَهُوَ المُحْكِمُ لِخَلْقِ الأَشْيَاءِ عَلَى مُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، وهو الحكِيم في كُل مَا فعله وخلقه، بحكمة بالغة، والله عز وجل يفعل ما يشاء، ولا يرد له قضاء، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وما ذلك  إلا لأنه الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضها الصحيحة، لأنه يعلم خواصها ومنافعها، وهو الذي يرتب الأسباب والنتائج.

قوله تعالى: (وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ۚ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي؛ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، والمعنى: من يزهد في ملة إبراهيم عليه السلام، وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع . إلا من سفه نفسه قال قتادة : هم اليهود والنصارى ، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى .  قال الزجاج : سفه بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. والمعنى أهلك نفسه .

وقال كيف يغفل المخلوق أن يفكرمن يفكر في نفسه من أعطاه يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء،،، وغيره ما لا يحصى، منها يستدل على أن له خالقا قادرا عليما حكيما ، وهذا معنى قوله تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) ﴿الذاريات ٢١﴾‏

وقد استدل بهذه الآية من قال: إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها وهذا كقوله : (مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ) ﴿الحج ٧٨﴾،  وقوله: ( أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ﴿النحل ١٢٣﴾‏،

وقوله: قوله تعالى : (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا ۖ)  أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس . والأصل في اصطفيناه اصتفيناه ، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق . واللفظ مشتق من الصفوة ، ومعناه تخير الأصفى .

قوله تعالى : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)، الصالح في الآخرة هو الفائز . التقدير: إنه لمن الصالحين في الآخرة .

وقوله تعالى‏:‏ ‏ (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۖ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏) ‏ أي أمره اللّه بالإخلاص له والاستسلام والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً . والإسلام هنا على أتم وجوهه.

 والإسلام في كلام العرب : الخضوع والانقياد للمستسلم. وليس كل إسلام إيمانا، وكل إيمان إسلام ، لأن من آمن بالله فقد استلم وانقاد لله . وليس كل من أسلم آمن بالله؛ لأنه قد يتكلم فزعا من السيف ، ولا يكون ذلك إيمانا ، ودليلنا قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَـٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) ﴿الحجرات ١٤﴾. فأخبر الله تعالى أنه ليس كل من أسلم مؤمنا ، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمنا ،عن سعد بن أبي وقاص:  أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ أعْطَى رَهْطًا وسَعْدٌ جالِسٌ فيهم، قالَ سَعْدٌ: فَتَرَكَ رَسولُ اللهِ ﷺ منهمْ مَن لَمْ يُعْطِهِ، وهو أعْجَبُهُمْ إلَيَّ، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، ما لكَ عن فُلانٍ؟ فَواللَّهِ إنِّي لأَراهُ مُؤْمِنًا، فقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: أوْ مُسْلِمًا، .... ) (رواه مسلم ) الحديث ، فدل على أن الإيمان ليس الإسلام ، فإن الإيمان باطن ، والإسلام ظاهر ، وهذا بين . وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام ، والإسلام ويراد به الإيمان ، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه ، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته.

وقوله‏:‏ ‏ ( وَوَصَّىٰ بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) أي وصّى بهذه الملة وهي الإسلام للّه، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله‏:‏ ‏(أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏)‏ لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة،  ووصوا أبناءهم من بعدهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏ (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ..) ﴿الزخرف٢٨﴾.

  ووسياق الآيات بين أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة، لأن البشارة وقعت بهما في قوله‏:‏ ‏ (فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )﴿هود ٧١﴾‏ ، وقال تعالى:‏ (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ) ﴿الأنبياء ٧٢﴾‏‏، وهذا يقتضي أنه وجد في حياته، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت‏: (قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ أَوَّلَ؟ قالَ: المَسْجِدُ الحَرَامُ. قُلتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ المَسْجِدُ الأقْصَى. قُلتُ: كَمْ كانَ بيْنَهُمَا؟ قالَ: أَرْبَعُونَ) ( البخاري)، ومن زعم أن سليمان هو باني بيت المقدس فقد أخطأ،  إنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه - لإن المدة بين إبراهيم عليه السلام ، وسليمان عليه السلام تزيد على ألوف السنين واللّه أعلم.

‏ووصى وأوصى لغتان لقريش وغيرهم بمعنى ، مثل كرمنا وأكرمنا ، وقرئ بهما . وفي مصحف عبد الله " ووصى " ، وفي مصحف عثمان " وأوصى " وهي قراءة أهل المدينة والشام .

ووصى " وفيه معنى التكثير . " وإبراهيمُ " رفع بفعله " ويعقوبُ " عطف عليه ، وقيل : هو مقطوع مستأنف، والمعنى : وأوصى يعقوب وقال يا بني إن الله اصطفى لكم الدين ، فيكون إبراهيم قد وصى بنيه، ثم وصى بعده يعقوب بنيه.

وقوله: (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)، لكم الدين أي الإسلام ، والألف واللام في " الدين " للعهد؛  لأنهم قد كانوا عرفوه . فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون إيجاز بليغ.والمعنى: الزموا الإسلام ودوموا عليه ولا تفارقوه حتى تموتوا . فأتى بلفظ موجز يتضمن المقصود، ويتضمن وعظا وتذكيرا بالموت ، وذلك أن المرء يتحقق أنه يموت ولا يدري متى ،

لا نهي تموتن في موضع جزم بالنهي، أكد بالنون الثقيلة، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين . إلا وأنتم مسلمون ابتداء وخبر في موضع الحال، أي محسنون بربكم الظن، وقيل مخلصون، وقيل مفوضون ، وقيل مؤمنون .

وقوله تعالى: (أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل، وعلى الكفار من بني إسرائيل بأن يعقوب لما حضرته الوفاة، وصّى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له فقال لهم‏:‏ ‏ (مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَٰهَكَ وَإِلَٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) ، وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه، قال النحاس‏:‏ والعرب تسمي العم أباً نقله القرطبي، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أباً وحجب به الإخوة - كما هو قول الصديق - حكاه البخاري عنه‏.‏ وقوله:‏‏ (إِلَٰهًا وَاحِدًا )‏ أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئاً غيره، ‏ (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)

 ‏ أي مطيعون خاضعون؛ كما قال تعالى‏:‏ ‏ ( وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) ﴿آل عمران ٨٣﴾‏ ‏‏.‏ والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏ (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ﴿الأنبياء ٢٥﴾ ‏ وقال ﷺ ‏:‏ ‏"أنا أَوْلَى النَّاسِ بابْنِ مَرْيَمَ، ليسَ بَيْنِي وبيْنَهُ نَبِيٌّ، وَالأنْبِيَاءُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ ، امهاتهم شتى ودينهم واحد." ‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏ أي مضت، ‏ (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ) ‏ أي أن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم.

وهذا مذهب أهل السنة ، والآي في القرآن بهذا المعنى كثيرة . فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مقارنة للفعل ، يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرعشة مثلا ، وذلك التمكن هو مناط التكليف .  (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، أي لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، مثل قوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ.. )﴿الأنعام ١٦٤﴾‏  أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى،  ولهذا جاء في الأثر‏:‏ "مَنْ أبْطأَ بهِ عملُهُ لمْ يُسرِعْ بهِ نَسبُهُ" ‏( صحيح ابن حبان- الألباني).

No comments:

Post a Comment