Friday 18 November 2022

تفسير سورة البقرة ح20 استجاب الله دعاء أبراهيم عليه السلام أن يجعل قلو...

    


 

          تفسير سورة البقرة- ح ٢٠

(وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ)  

ثوابا لمن أحسن العمل

(وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ

لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)

إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام مطهران يطهران البيت

إبراهيم: أبٌ رحيم يكفل أبناء المؤمنين في الجنة

 

محطات مضيئات من حياة وأعمال إبراهيم الخليل:

-بيت الله الحرام ملجأ لكل من أراد الأمن والأمان والسكينة، لا يمل المرىء من قدومه والوقوف عل عتباته.

-بعد أن عهد الله لإبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل أن يرفعا جدران البيت الحرام، فأتقن المطهرون العمل، فكان ما أقاموه مطهرا تطهيرًا لا مثيل له، يليق بزائريه الطايفين حوله والعاكفين فيه، فهو كرامة لهم .

-أقام إبراهيم وولده عليهما السلام قواعد البيت فاتقنه، بل وزاد إحسانا على إحسان أن دعا للبيت بالأمن ولساكنيه بالرزق، فأي فضل يفوق هذا؟

- سيدنا إبراهيم رسول نبيه، يعي من أول مرة مراد الله، فطلب الرزق للمؤمنين من سكان البيت، ولكن الرزاق يرزق البر والفاجر، فلا ينسى من فضله أحد.

-علمنا سيدنا إبراهيم عليه السلام أن نسأل الله القبول في العمل ولو كانا مأمورين به، متقنين، والدعاء بالثبات على الحق أحق ما يدعو به المؤمن.

-يحسن الدعاء لأهل بيت تزورهم ، فيقال له : ولك بمثل.

-علمنا سيدنا إبراهيم عليه السلام أن أهم واجبات الآباء والأمهات تبليغ أبنائهم وتعليمهم دين الحق، ولا يتركوهم هملا وخصوصا في هذا الزمان، وبين أن أثار تربية إسحق أن اقتدى الابن بأبيه وعلم بنيه، سلسلة صالحة مصلحة، اللهم اجعلنا مثلهم.

التفسير

 

قوله تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا) مثابة: يثوبون إليه أي يرجعون مرارًا ، لا يقضون وطرهم منه،  وحدث عبدة بن أبي لبابة قال: لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً ،  قال الشاعر:

جعل البيت مثاباً لهم ** ليس منه الدهرَ يقضون الوَطَر

 وقال سعيد بن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة (مَثَابَةً لِّلنَّاسِ): أي مجمعاً (وَأَمْنًا)، أي أمناً للناس، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبون.

ومضمون هذه الآية أن اللّه تعالى يذكر شرف البيت، وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابةً للناس، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام، وهذه استجابة من اللّه تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام، في قوله:  (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) ﴿ابراهيم  ٣٧﴾‏ .

ويصفه تعالى بأنه جعله أمناً من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً. فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له. وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً وهو خليل الرحمن كما قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا) ﴿الحج ٢٦﴾، وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ* فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ) ﴿آل عمران ٩٦﴾‏  

وفي الصحيح ؛ قالَ رسول الله ﷺ- يَومَ الفَتْحِ، فَتْحِ مَكَّةَ-: "إنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيه لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لي إلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولَا يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا"  فَقالَ العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللهِ، إلَّا الإذْخِرَ، فإنَّه لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، فَقالَ: إلَّا الإذْخِرَ." (البخاري ومسلم، واللفظ لمسلم)

تحريم مكة

أخبَرَ ﷺ أنَّ مَكَّةَ المُكرَّمةَ حرَّمَها اللهُ يومَ خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ؛ فإنَّ تَحريمَها أمرٌ قَديمٌ، وشَريعةٌ سالفةٌ، ليس ممَّا أحْدَثه النبيُّ ﷺ أو اختُصَّ بشَرْعِه. ويَحتمِلُ أنْ يكونَ المعْنى: إنَّما خلَقَ أرضَ مكَّةَ حِينَ خلَقَها مُحرَّمةً. وهذه الحُرمةُ مُستمِرةٌ إلى يَومِ القِيامةِ، باقيةٌ أبديَّةٌ.

وقد ورد في الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ عَبدِ اللهِ بنِ زَيدٍ رَضيَ اللهُ عنه: أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «إنَّ إبراهيمَ حرَّمَ مَكَّةَ ودَعَا لأهلِها»، فكيف يجمع بين الحديثين؟

يُمكِنُ الجمْعُ بيْن الحَديثينِ بأنَّ تَحريمَها كان ثابتًا مِن يومِ خلَق اللهُ السَّمواتِ والأرضَ، ثُمَّ خَفِيَ تَحريمُها واستَمَرَّ خَفاؤُه إلى زمَنِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، فأَظْهَره وأشاعَه لا أنَّه ابتَدَأَه.

 أو أن النبي ﷺ أُسْنِدَ التَّحريمُ إلى إبراهيمَ عليه السَّلامُ مِن حيثُ إنَّه مُبلِّغُه؛ فإنَّ الحاكمَ بالشَّرائعِ والأحكامِ كلِّها هو اللهُ تعالَى، والأنبياءُ يُبلِّغونها، ثمَّ إنَّها كما تُضافُ إلى اللهِ تعالَى مِن حيث إنَّه الحاكمُ بها، تُضافُ إلى الرُّسلِ؛ لأنَّها تُسمَعُ منْهم وتُبيَّنُ على لِسانِهم.

وفي نفس سياق الآية الكريمة نبّه تعالى على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده، فقال: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ) وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟  فعن ابن عباس: مقام إبراهيم الحرم كله، وقيل: مقام إبراهيم الحج كله منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة "

وقال سفيان الثوري عن سعيد بن جبير: قال: الحَجَر مقام إبراهيم نبي اللّه قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة، ثم إن أن الحجر صار تحت قدميه فيه رطوبة فصار طين حتى غاصت فيه رِجلا النبي إبراهيم عليه السلام وطبعت في الحجر ثم جفت، فكان ذلك إحدى معجزات إبراهيم ولذلك فهو أولى من اختصاص غيره به، فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى لهذا السبب.

(مِن مَّقَامِ ): المقام في اللغة : موضع القدمين . قال النحاس : مقام من قام يقوم ، ويكون مصدرا واسما للموضع. ومقام من أقام

قال السدي: أنه هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم نبي الله  إبراهيم حين غسلت رأسه.

في رواية لابن عباس قال: (حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ البِنَاءُ، جَاءَ بِهَذَا الحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ فَقَامَ عَلَيْهِ، وَهُوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ - عليه السلام - يُنَاوِلُهُ الحِجَارَةَ، قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ البَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: ﴿ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.

وعن جابر  يحدّث عن حجة النبي ﷺ قال: لما طاف النبي ﷺ قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: (نعم)، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل اللّه عزّ وجلّ: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ) وقال البخاري: باب قوله (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ)

-قال عمر بن الخطّاب: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث: قلت: يا رسول اللّه لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ) وقلت: يا رسول اللّه يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل اللّه آية الحجاب. قال: وبلغني معاتبة النبي ﷺ بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلن اللّه رسوله خيراً منكن، حتى أتيت إحدى نسائه قالت: يا عمر أما في رسول اللّه ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل اللّه (عَسَىٰ رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ ) ﴿التحريم٥﴾‏ الآية.

وقال ابن جرير عن جابر قال: استلم رسول اللّه ﷺ  الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: (وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ) فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه.

فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر، الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأُخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة ، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب، مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب، في البقعة المستقلة هناك.

وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، ولهذا - واللّه أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخّره عن جدار الكعبة أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه، أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين، الذين أمرنا بأتباعهم، قال ﷺ : "أوصيكم بتقوى اللهِ والسمعِ والطاعةِ وإن عبدًا حبشيًّا، فإنه من يعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ المهديّين الراشدين تمسّكوا بها، وعَضّوا عليها بالنواجذِ، وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ "( صحيح أبي داوود- صححه الألباني)

 وعن عائشة رضي اللّه عنها: ( أن المقام كان زمان رسول اللّه ﷺ وزمان أبي بكر رضي اللّه عنه ملتصقاً بالبيت،  ثم أخره عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه) "رواه البهيقي-إسناد صحيح"

 

ومعنى (مُصَلَّى):  مكان  يدعى فيه، قاله مجاهد . وقيل: موضع صلاة يصلى عنده، وقال الحسن: قبلة يقف الإمام عندها.

قوله تعالى : (وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)

معناه أمرنا . وقيل : أوحينا . أن طهرا، من الأوثان؛ ولكن لم يثبت أنه كان قبل بناؤه فيه أوثان،  وقيل: أنه سبحانه أمرهما أن يخلصا في بنائه للّه وحده لا شريك له فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جلّ ثناؤه: ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)  ﴿١٠٩ التوبة﴾ قال فكذلك قوله: ( (وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ)  أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب.

(بَيْتِيَ)  أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم، وهي إضافة مخلوق إلى خالق، ومملوك إلى مالك .وقوله: ( لِلطَّائِفِينَ)  ظاهره الذين يطوفون به.

(وَالْعَاكِفِينَ) المقيمين من بلدي وغريب، عن عطاء . وكذلك قوله : للطائفين . والعكوف في اللغة : اللزوم والإقبال على الشيء

(وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ)  أي المصلون عند الكعبة. وخص الركوع والسجود بالذكر لأنهما أقرب أحوال المصلي إلى الله تعالى،فذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد اللّه وحده لا شريك له، إما بطواف أو صلاة

فائدة:

 فذكر في سورة الحج أجزاءالصلاة الثلاثة قيامها وركوعها وسجودها ، قال: ( وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.) ﴿٢٦ الحج﴾‏ ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم ( وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ ..) ﴿٢٥الحج﴾، ‏ وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام

ويصلي إلى الكعبة، وإن صلى في جوفها مستقبلا حائطا من حيطانها فصلاته جائزة ، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة ، وكذلك من صلى على ظهرها؛  لأنه لم يستقبل منها شيئا. وقال مالك: لا يصلى فيه الفرض ولا السنن، ويصلى فيه التطوع، كما فعل رسول الله ﷺ في يوم الفتح.

 فقد روى البخاري عن ابن عمر قال : دخل رسول الله ﷺ هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة،  فأغلقوا عليهم الباب. فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته: "هل صلى فيه رسول الله ﷺ؟ قال، نعم بين العمودين اليمانيين " (أخرجه مسلم)،  وفيه قال : جعل عمودين عن يساره وعمودا عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة .

روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال : رأى النبيﷺ صورا في الكعبة فكنت آتيه بماء في الدلو يضرب به تلك الصور . وخرجه أبو داود الطيالسي

وعن أسامة بن زيد قال : دخلت على رسول الله ﷺ في الكعبة ورأى صورا قال : فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول : قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون . فيحتمل أن يكون النبي ﷺ صلى في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة ، فكان من أثبت أولى ممن نفى ، وقد قال أسامة نفسه : فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي .

وعن عبد الله بن صفوان قال : قلت لعمر بن الخطاب : كيف صنع رسول الله ﷺحين دخل الكعبة ؟ قال: صلى ركعتين .

وقوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

قال ابن جرير عن جابر بن عبد اللّه: قال رسول اللّه ﷺ : (إن إبراهيم حرَّم بيت اللّه وأمَّنه، وإني حرمت المدينة وما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها ""رواه النسائي وأخرجه مسلم بطريق آخر"،  عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول اللّه ﷺ ، فإذا أخذه رسول اللّه ﷺ قال: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا في مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا، وَبَارِكْ لَنَا في مُدِّنَا، اللَّهُمَّ إنَّ إبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وإنَّه دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وإنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بمِثْلِ ما دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَمِثْلِهِ معهُ، قالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ له فيُعْطِيهِ ذلكَ الثَّمَرَ." (رواه مسلم)،

. وفي الصحيحين عن أنَس بن مالك قال، قال رسول اللّه ﷺ لما أشرف على المدينة قال: (اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم)، وفي لفظ لهما: (اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في مدهم) زاد البخاري يعني: أهل المدينة. وعن أنَس أن رسول اللّه ﷺ قال: (اللهم اجعل بالمدينة ضِعفي ما جعلته بمكة من البركة) (رواه البخاري ومسلم)

وعن أبي سعيد رضي اللّه عنه عن النبي ﷺ قال: (اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مُدّنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين) (رواه مسلم)، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة

وقوله تعالى إخباراً عن الخليل: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا ) أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل اللّه ذلك شرعاً وقدراً، كقوله تعالى: (وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ ) ﴿ آل عمران ٩٧﴾، وقوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ )﴿العنكبوت ٦٧﴾‏

وقال في هذه السورة: (رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا) أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هناك لأنه - واللّه أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة، ولهذا في آخر الدعاء: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)  ﴿ابراهيم  ٣٩﴾.

 وقوله تعالى: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ النَّارِ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)

 قال أبو جعفر الرازي عن أُبيّ بن كعب (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ...) الآية هو قول اللّه تعالى وهو الأصح.

 قال ابن عباس: (كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس، فأنزل اللّه ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أأخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير) ثم قرأ ابن عباس: ( لًّا نُّمِدُّ هَـٰؤُلَاءِ وَهَـٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا ) ﴿الإسراء: ٢٠﴾‏  

وهذا كقوله تعالى: (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظ )﴿لقمان ٢٤﴾‏ ، أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا، وبسطنا عليه من ظلها ( إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظ) ومعناه أن اللّه تعالى يُنْظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: ( وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ) ﴿الحج ٤٨﴾‏.

وفي الصحيح: (إنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظّالِمِ، حتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ. قالَ: ثُمَّ قَرَأَ {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود ١٠٢)،

 وأما قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) ﴿١٢٧﴾

 فالقواعد جمع قاعدة، وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )  فهما في عمل صالح وهما يسألان اللّه تعالى أن يتقبل منهما، وقال بعض المفسِّرين: الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم، والداعي إسماعيل، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان

وفي بناء البيت ورد أن إبراهيم عليه السلام جاء لمكة وإسماعيل شابا يافعا يبري نبلاً له تحت دوحة، قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل إن اللّه أمرني بأمر قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن اللّه أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )

هكذا تبقى الكعبة  إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ذو السُّويقتين من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه ﷺ: (يُخَرِّبُ الكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ.) وفي البخاري عن ابن عباس عن النبي ﷺقال:( كَأَنِّي به أسْوَدَ أفْحَجَ، يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا.) وعن مجاهد عن عبد اللّه بن عمرو ابن العاص رضي اللّه عنهما قال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (يخرِّبُ الكعبةَ ذو السُّوَيْقتينِ منَ الحبَشةِ ، ويسلِبُها حليتَها ، ويجرِّدُها من كسوتِها ، ولَكَأنِّي أنظرُ إليهِ أُصَيْلِعُ أُفَيْدعُ يضرِبُ عليها بمسحاتِهِ ومِعولِهِ) (رواه أحمد- صححه أحمد شاكر)،  والفَدْع: زيغٌ بين القدم وعظم الساق"" وهذا - واللّه أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ : (ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج).

وقوله تعالى: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)  ﴿١٢٨﴾‏، قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك. وقال عكرمة: ( (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) قال اللّه: قد فعلت (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ)  قال اللّه: قد فعلت. وقال السدي: (وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ) يعنيان العرب. قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم،  وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم.

 والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: ( رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ﴿١٢٩﴾. والمراد بذلك محمد ﷺ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى:( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ ) ﴿الجمعة  ٢﴾  ، ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) ﴿الأعراف ١٥٨﴾‏  وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا اللّه تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله: ( وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ) ﴿الفرقان ٧٤﴾‏، وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة اللّه تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد اللّه وحده لا شريك له.

وقوله: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا)،  قال عطاء: أخرجها لنا، علمناها، وقال مجاهد: (وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا) مذابحنا. ثم قال: (وَتُبْ عَلَيْنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)  

عن ابن عباس قال: إنَّ إبراهيمَ , عليه الصلاةُ والسلامُ لما أُرِيَ المناسكَ عرَض له شيطانٌ عندَ المَسعى ، فسابَقه ، فسبَقه إبراهيمُ  عليه السلامُ ، ثم انطلَق به جبريلُ عليه السلامُ حتى أتى به مِنًى ، فقال : مناخُ الناسِ هذا ، ثم انتَهى إلى جمرةِ العقبةِ ، فعرَض له شيطانٌ فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب به إلى جمرةِ الوُسطى ، فعرَض له الشيطانُ ، فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب ، ثم أتى جمرةَ القُصوى ، فعرَض له الشيطانُ فرَماه بسبعِ حصياتٍ حتى ذهَب ، ثم أتى به جمعًا فقال : هذا المشعرُ الحرامُ ، ثم أتى به عَرَفَةَ فقال : هذه عَرَفَةُ،  قال ابنُ عباسٍ : أتَدري لِمَ سُمِّيَتْ عَرَفَةَ ؟ قال: لا قال: لأنَّ جبريلَ عليه السلامُ  قال له : أعَرَفتَ ؟) ""أخرجه الطيالسي عن ابن عباس".

No comments:

Post a Comment