Monday 7 November 2022

تفسير أوائل سورة النور 2- القذف من الزوج يلزم اللعان

   


 

 ما حكم الزوج الذي يرمي زرجته بالفاحشة؟

وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ( 6 ) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 7 ) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( 8 ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9 ) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ( 10 ) .

هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته، وتعسّر عليه إقامة البينة أن يلاعنها كما أمر اللّه عزَّ وجلَّ، وهو أن يحضرها إلى الإمام فيدعي عليها بما رماها به، فيحلفه الحاكم أربع شهادات باللّه في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين: أي فيما رماها به من الزنا (وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) ، فإذا قال ذلك بانت منه وحرمت عليه أبداً، ويعطيها مهرها ويتوجب عليها حد الزنا، ولا يدرأ عنها الحد إلا أن تلاعن، فتشهد أربع شهادات باللّه إنه لمن الكاذبين: أي فيما رماها به، (وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) ، ولهذا قال: (وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ) يعني الحد، { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ( 8 ) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ( 9 )  وإنما كانت شهاداتها على الزوج  دارئة عنه الحد، وإن لم تشهد لم تتقي نفسها من الحد، بل تحد هي، ويفرق بينهما، وولدها الا ينسب إليه.

( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ) على رميهم بذلك ( شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ) بأن لم يقيموا شهداء، على ما رموهم به ( فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ) سماها شهادة، لأنها نائبة مناب الشهود، بأن يقول: « أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به » .

( وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ) أي: يزيد في الخامسة مع الشهادة المذكورة، مؤكدا تلك الشهادات، بأن يدعو على نفسه، باللعنة إن كان كاذبا، فإذا تم لعانه، سقط عنه حد القذف، ظاهر الآيات، ولو سمى الرجل الذي رماها به، فإنه يسقط حقه تبعا لها. وهل يقام عليها الحد، بمجرد لعان الرجل ونكولها أم تحبس؟ فيه قولان للعلماء، الذي يدل عليه الدليل، أنه يقام عليها الحد، بدليل قوله: ( وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ ) إلى آخره، فلولا أن العذاب وهو الحد قد وجب بلعانه، لم يكن لعانها دارئا له.

ويدرأ عنها، أي: يدفع عنها العذاب، إذ قابلت شهادات الزوج، بشهادات من جنسها.

( أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ) وتزيد في الخامسة، مؤكدة لذلك، أن تدعو على نفسها بالغضب، فإذا تم اللعان بينهما، فرق بينهما إلى الأبد، وانتفى الولد الملاعن عليه، أي لا ينسب لهذا الزوج، وظاهر الآيات يدل على اشتراط هذه الألفاظ عند اللعان، منه ومنها، واشتراط الترتيب فيها، وأن لا ينقص منها شيء، ولا يبدل شيء بشيء، وأن اللعان مختص بالزوج إذا رمى امرأته، لا بالعكس، وأن الشبه في الولد مع اللعان لا عبرة به، كما لا يعتبر مع الفراش، وإنما يعتبر الشبه حيث لا مرجح إلا هو.

لما نزلت هذه الآية قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي اللّه عنه: أهكذا أنزلت يا رسول اللّه؟ فقال رسول اللّه ﷺ: (يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟) فقالوا: يا رسول اللّه لا تلمه، فإنه رجل غيور، واللّه ما تزوج امرأة قط إلا بكراً، وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: واللّه يا رسول اللّه إني لأعلم إنها لحق وأنها من اللّه، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه، حتى آتي بأربعة شهداء، فواللّه إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته، قال: فما لبثوا إلا يسيراً حتى جاء هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تيب عليهم، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً، فرأى بعينيه وسمع بأذنيه، فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول اللّه ﷺ فقال: يا رسول اللّه إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول اللّه ﷺ ما جاء به واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار، وقالوا: قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، الآن يضرب رسول اللّه ﷺ هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس، فقال هلال: واللّه إني لأرجو أن يجعل اللّه لي منها مخرجاً؛ وقال هلال: يا رسول اللّه فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به واللّه يعلم أني لصادق، فواللّه إن رسول اللّه ﷺ يريد أن يأمر بضربه إذا أنزل اللّه على رسوله ﷺ الوحي، وكان إذا أنزل عليه الوحي عرفوا ذلك في تربد وجهه، يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي، فنزلت: { والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات باللّه} الآية، فسري عن رسول اللّه ﷺ فقال: (أبشر يا هلال فقد جعل اللّه لك فرجاً ومخرجاً)، فقال هلال: قد كنت أرجو ذلك من ربي عزَّ وجلَّ، فقال رسول اللّه ﷺ: (فأرسلول إليها)، فأرسلول إليها فجاءت فتلاها رسول اللّه ﷺ عليهما فذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال: واللّه يا رسول اللّه لقد صدقت عليها، فقال: كذب، فقال رسول اللّه ﷺ: (لاعنوا بينهما)، فقيل لهلال، اشهد، فشهد أربع شهادات باللّه إنه لمن الصادقين، فلما كانت الخامسة قيل له يا هلال اتق اللّه فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فقال: واللّه لا يعذبني اللّه عليها كما لم يجلدني عليها، فشهد في الخامسة أن لعنة اللّه عليه إن كان من الكاذبين، ثم قيل للمرأة: اشهدي أربع شهادات باللّه إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة اتقي اللّه فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف، ثم قالت: واللّه لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب اللّه عليها إن كان من الصادقين؛ ففرق رسول اللّه ﷺ بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت لها من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها، وقال ﷺ: (إن جاءت به أصهيب أريشح حمش الساقين فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به)، فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سابغ الأليتين، فقال رسول اللّه ﷺ: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن)، قال عكرمة: فكان بعد ذلك أميراً على مصر، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب ""أخرجه الإمام أحمد وأبو داود بنحوه مختصراً" 

قال عكرمة : فكان ولدها بعد ذلك أميرا على مصر ، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب .

( وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ ) وجواب الشرط محذوف، يدل عليه سياق الكلام أي: لأحل بأحد المتلاعنين الكاذب منهما، ما دعا به على نفسه، ومن رحمته وفضله، ثبوت هذا الحكم الخاص بالزوجين، لشدة الحاجة إليه، وأن بين لكم شدة الزنا وفظاعته، وفظاعة القذف به، وأن شرع التوبة من هذه الكبائر وغيرها.

 

قوله تعالى:

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٢٣﴾‏ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٤﴾‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴿٢٥﴾‏ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿٢٦﴾

التفسير

هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات -خرج مخرج الغالب- المؤمنات. فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول ، وهي عائشة بنت الصديق، رضي الله عنهما .

وقد أجمع العلماء، رحمهم الله ، قاطبة على أن من سبها بعد هذا ورماها بما رماها به (بعد هذا الذي ذكر) في هذه الآية، فإنه كافر، لأنه معاند للقرآن. وفي بقية أمهات المؤمنين قولان: أصحهما أنهن كهي، والله أعلم .

وقوله تعالى : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا) [ الأحزاب ٥٧] .

وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة ، فقال ابن أبي حاتم:

عن ابن عباس : (نَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) [ قال ] : نزلت في عائشة خاصة .

و قالت عائشة رضي الله عنها: رميت بما رميت به وأنا غافلة ، فبلغني بعد ذلك. قالت: فبينا رسول الله ﷺ جالس عندي إذ أوحي، إليه . قالت: وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات، وإنه أوحي إليه وهو جالس عندي، ثم استوى جالسا يمسح على وجهه، وقال : " يا عائشة أبشري". قالت: قلت: بحمد الله لا بحمدك . فقرأ : (نَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ)، حتى قرأ : (أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) (النور ٢٦) .

وعن ابن عباس في قوله : (نَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) الآية : يعني أزواج النبيﷺ، رماهن أهل النفاق، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب، وباؤوا بسخط من الله، فكان ذلك في أزواج النبي ﷺ ثم نزل بعد ذلك : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) إلى قوله : (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) ﴿٥﴾، فأنزل الله الجلد والتوبة، فالتوبة تقبل، والشهادة ترد .

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هشيم ، أخبرنا العوام بن حوشب ، عن شيخ من بني أسد ، عن ابن عباس - قال : فسر سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)- قال : في شأن عائشة ، وأزواج النبيﷺ، وهي مبهمة، فقول : "وهي مبهمة"، أي: عامة في تحريم قذف كل محصنة، ولعنته في الدنيا والآخرة .

وقد اختار ابن جرير عمومها ، وهو الصحيح ، ويعضد العموم ما رواه ابن أبي حاتم :

بسنده  عن أبي هريرة; أن رسول اللهﷺ قال : " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ" قالوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، وَما هُنَّ؟ قالَ: الشِّرْكُ باللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَومَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ." .

أخرجاه في الصحيحين

 وعن حذيفة ، عن النبي ﷺ قال : " إنَّ قَذْفَ المُحصَنَةِ يَهدِمُ عملَ مائةِ سنةٍ " ( ضعيف)

وقوله تعالى: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿٢٤﴾‏ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴿٢٥﴾‏ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴿٢٦﴾‏

وقوله ((يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)،

 عن ابن عباس قال: إنهم- يعني: المشركين- إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، قالوا: تعالوا حتى نجحد أي ننكر الأعمال السيئة-فيجحدون فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم، ولا يكتمون الله حديثا .

وعن أنس بن مالك ، قالَ: "ضَحِكَ النَّبيُّ ﷺ حتَّى بَدَتْ نَواجِذُه، ثُمَّ قالَ: تَدْرونَ ممَّا أَضحَكُ؟ قُلْنا: اللهُ ورَسولُه أَعلَمُ، قالَ: مِن مُجادَلةِ العَبْدِ رَبَّه يَوْمَ القِيامةِ، يقولُ: يا رَبِّ، أَلَمْ تُجِرْني مِن الظُّلْمِ؟ فيقولُ: بَلى، فيقولُ: لا أُجيزُ علَيَّ إلَّا شاهِدًا مِن نَفْسي، فيقالُ: كَفى بنَفْسِك اليَوْمَ عليك شَهيدًا، فيُختَمُ على فيه، فيُختَمُ علَى فِيهِ ويُقالُ لأركانِه انطِقي فتنطقُ بعَملِه ثمَّ يُخَلَّى بينه وبينَ الكلامِ فيقولُ : بُعْدًا لَكُنَّ وسُحْقًا فعنكُنَّ كنتُ أُناضِلُ" .(وقد رواه مسلم والنسائي )

وقال قتادة : ابن آدم ، والله إن عليك لشهودا غير متهمة من بدنك، فراقبهم واتق الله في سرك وعلانيتك، فإنه لا يخفى عليه خافية، والظلمة عنده ضوء والسر عنده علانية، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن ، فليفعل ولا قوة إلا بالله .

وقوله : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ) قال ابن عباس : ( دينهم ) أي : حسابهم ، وكل ما في القرآن ( دينهم) أي : حسابهم . وكذا قال غير واحد .

وقوله : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي : وعده ووعيده وحسابه هو العدل، الذي لا جور فيه .

وقوله تعالى: (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ۚ أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ ۖ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ﴿٢٦﴾

قال ابن عباس : الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول. والطيبات من القول، للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من القول – أي القول الخبيث يصدر من الرجل الخبيث، والطيب من القول يصدر من الرجل الطيب، وهكذا في النساء- قال : ونزلت في عائشة وأهل الإفك .

واختاره ابن جرير ، ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة هم أولى به، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم; ولهذا قال: (أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) ، وهم أقرب المذكور، الطيبات من القول.

تفسير آخر للآية: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء .

وهذا - أيضا - يرجع إلى ما قاله أولئك باللازم ، أي : ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله ﷺ إلا وهي طيبة; لأنه أطيب من كل طيب من البشر ، ولو كانت خبيثة لما صلحت له ، لا شرعا ولا قدرا; ولهذا قال: (أُولَٰئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ) أي : هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان ، (لَهُم مَّغْفِرَةٌ) أي : بسبب ما قيل فيهم من الكذب ، (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي : عند الله في جنات النعيم . وفيه وعد بأن تكون زوجة النبي ﷺفي الجنة .

وقال ابن أبي حاتم: قال : جاء أسير بن جابر إلى عبد الله فقال: لقد سمعت الوليد بن عقبة تكلم بكلام أعجبني . فقال عبد الله : إن الرجل المؤمن يكون في قلبه الكلمة غير طيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها رجل عنده يتلها فيضمها إليه. وإن الرجل الفاجر يكون في قلبه الكلمة الطيبة تتجلجل في صدره ما تستقر حتى يلفظها، فيسمعها الرجل الذي عنده يتلها فيضمها إليه، ثم قرأ عبد الله : (الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ ۖ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ ) .

وروى الإمام أحمد في المسند مرفوعا : " ‏‏مَثَلُ الَّذِي يَسْمَعُ الْحِكْمَةَ ثُمَّ لَا يُخْبِرُ عَنْ صَاحِبِهِ إِلَّا بِشَرِّ مَا سَمِعَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى رَاعِيَ غَنَمٍ فَقَالَ أَجْزِرْنِي شَاةً مِنْ غَنَمِكَ فَقَالَ اخْتَرْ فَأَخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الْغَنَمِ ‏" (ضعيف)

وفي الحديث الآخر : " الكلمةُ الحِكمةُ ضالَّةُ المؤمنِ حيثُ وجدَها فَهوَ أحقُّ بِها " ( ضعيف الترمذي)

 

 

No comments:

Post a Comment