Friday 9 June 2023

تفسير سورة البقرة ح 41 أحكام العضل والعدة للمتوفى عنها زوجها

   
   

     تفسير سورة البقرة- ح ٤١

                 (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ ۗ)

                ينهي الله تعالى عن عضل الولي لموليته أن ترجع لزوجها

         فيه تاكيد لوجوب الولي

             (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ)

هل الوالدة- المطلقة- حق لها أن ترضع ولدها؟ أم واجب عليها؟

محور مواضيع هذا الجزء:

-لم يدع الله تعالى شاردة ولا واردة في المعاملات إلا بينها، فللولي أن يرقب مصالح موليته، ولكن لا يعضلها أن عما ترى لنفسها خيرا.

-ويوجه الولي إلى ما هو أزكى له ولموليته، الا يقعوا في المحظور.

- بيان ما للأم المطلقة إن أرضعت طفلها، وهل هو حقها، أم واجب عليها.

-بيان أي الرضاع يحرم، والإستثناء فيه هل هو خاص أو عام؟

-ذكر عدة المرأة المتوفى عنها زوجها، والحكمة منها، ومن تحديد الزمن بدقة.

التفسير

قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ( ٢٣٢)

قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى اللّه أن يمنعوها، والذي قاله ظاهر من الآية.

في الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي: لأن أخت معقل كانت ثيبا، ولو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فظاهره أنها لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لا بد في النكاح من ولي ، فالخطاب في قوله تعالى (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) للأولياء، وأن الأمر إليهم في التزويج مع رضاهن.

وقد قيل : إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها، والله أعلم.

سبب النزول:

وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأُخته. روى البخاري: (أنَّ مَعْقِلَ بنَ يَسَارٍ، كَانَتْ أُخْتُهُ تَحْتَ رَجُلٍ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ خَلَّى عَنْهَا، حتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، ثُمَّ خَطَبَهَا، فَحَمِيَ مَعْقِلٌ مِن ذلكَ أنَفًا، فَقالَ: خَلَّى عَنْهَا وهو يَقْدِرُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَخْطُبُهَا، فَحَالَ بيْنَهُ وبيْنَهَا. فأنْزَلَ اللَّهُ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فلا تَعْضُلُوهُنَّ) (البقرة ٢٣٢) إلى آخِرِ الآيَةِ، فَدَعَاهُ رَسولُ اللَّهِ ﷺ فَقَرَأَ عليه، فَتَرَكَ الحَمِيَّةَ واسْتَقَادَ لأمْرِ اللَّهِ"

وعند الترمذي عن معقل بن يسار: " أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول اللّه ﷺ، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب، فقال له- أخوها-: يا لكع ابن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، واللّه لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك، قال فعلم اللّه حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل اللّه: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ) ، إلى قوله: (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)، فلما سمعها معقل قال: سمع لربي وطاعة، ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة واللفظ للترمذي). وقال مقاتل: فدعا رسول اللهﷺ معقلا فقال: "إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبي البداح"

في اللغة؛ تعضلوهن:

 أي معناه تحبسوهن. وقيل: العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال : أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت علي. وأعضل الأمر : إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قولهم : إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه. وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم : عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة : نشب بيضها. وفي حديث معاوية : (معضلة ولا أبا حسن)، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج، رضي الله عن الصحابة أجمعين.

وقوله تعالى: (ذَٰلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ) ولم يقل "ذلكم" لأنه محمول على معنى الجمع، ويكون معناه: إن هذا ما أرشد الله إليه هو ما يعظكم الله به، ولا يتعظ وينساق لأمر الله من كان يؤمن بالله وأن ما عند الله خير لكم ، فهذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له (مَنْ كَانَ مِنْكُمْ) أيها الناس (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۗ)، أي يؤمن بشرع اللّه ويخاف وعيد اللّه وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء  (ذَٰلِكُمْ أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۗ) أي اتبعاكم شرع اللّه في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحَمِيَّة في ذلك (أَزْكَىٰ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ۗ) لقلوبكم (وَاللَّهُ يَعْلَمُ) أي من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه (وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) أي الخيرة والصلاح فيما تأتون ولا فيما تذرون.

وقوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ۚ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ( ٢٣٣)

قوله تعالى: هذا إرشاد من اللّه تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن، لأن الزوجين قد يفترقان وثَمَّ ولد، فالآية إذن أخص في المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن، أي هن أحق برضاع أولادهن من الأجنبيات لأنهن أحنى وأرق، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها، وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالأم أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، وإنما تكون أحق بالحضانة إذا لم تتزوج على ما يأتي.

فتوي فيمن له حضانة الأولاد بعد الطلاق:

إن حضانة هذا الولد الصغير لأمه ما لم يكن بها مانع من موانع الحضانة المبينة

قال زكريا الأنصاري في أسنى المطالب: الطفل بعد التمييز يخير بين أبويه إن افترقا وصلحا للحضانة ، ويكون عند من اختار منهما ، لأنهﷺ خير غلاماً بين أبيه وأمه : "جاءت امرأةٌ إلى رسولِ اللهِ ﷺ فقالت إن زوجِي يريد أن يحولَ بيني وبين ابني وكان قد طلّقَها فقال رسولُ اللهِ ﷺ استهِما عليه فقال الرجلُ من يحولُ بيني وبين ابني، فخيّر رسولُ اللهِ ﷺالغلامَ بين أبيهِ وأمهِ فاختارَ أمّهُ فذهبتْ بهِ" (رواه الترمذي وحسنه- وصححه الطحاوي)

فإذا كان أحدهما أفضل من الآخر دينا أو مالاً أو محبة للولد فإن الطفل يخير بينهما، ولا يختص به الفاضل، أما إذا صلح أحدهما فقط فلا يخير، والحضانة له ،فإن عاد صلاح الآخر أنشئ التخيير.

وهي أولى بالحضانة من غيرها بلا خلاف بين أهل العلم؛ جاء في الموسوعة الفقهية الكويتية: حضانة الطفل تكون للأبوين إذا كان النكاح قائمًا بينهما، فإن افترقا فالحضانة لأم الطفل باتفاق. اهـ.

وإذا صار هذا الطفل مميِّزًا، فإنه يخير بين أبويه إذا كان عارفًا بأسباب الاختيار، وإلا أُخِّر إلى حصول ذلك، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد الحاكم. والله أعلم.

في هذه الآية  (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ)، على هذا هل تستحق المطلقة الكسوة إذا لم تكن رجعية؟ لا خلاف أنها لا تستحق إلا الأجرة  على الرضاعة- إلا أن الآية لم تخصص والله أعلم- وقيل: تحمل على مكارم الأخلاق فيقال: الأولى ألا تنقص الأجرة عما يكفيها لقوتها وكسوتها.

وقوله: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ) ارشاد من الله  للناس بأن كمال الرضاعة وهي سنتان، ولا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ) وذهب أكثر الأئمة، إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم، قال رسول اللّهﷺ: " لا يُحرِّمُ مِن الرَّضاعِ إلَّا ما فَتَقَ الأمْعاءَ في الثَّدْيِ، وكانَ قَبْلَ الفِطامِ." (رواه الترمذي عن أم سلمة وقال: حديث حسن صحيح- فيه انقطاع) ومعنى قوله: "إلا ما كان في الثدي" أي في محالّ الرضاعة قبل الحولين لحديث: "إنَّ إبراهيمَ ابني  و إنه مات في الثدْي، و إن لُه ظِئْرَيْنِ يُكْمِلَانِ رضاعَه في الجنةِ" (رواه أحمد عن البراء بن عازب وقد قاله عليه السلام عند موت ولده إبراهيم) وإنما قال ﷺ ذلك لأن ابنه إبراهيم عليه السلام مات وله سنة وعشرة أشهر، فقال: إن له مرضعاً يعني تكمل رضاعته ويؤيده ما رواه الدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول اللّه ﷺ: ("لا رَضاعَ إلَّا ما كانَ في الحَوْلَينِ") (رواه مالك في الموطأ أخرجه الدارقطني واللفظ له) وقال الطيالسي عن جابر قال: قال رسول اللّه ﷺ:( لا رَضَاعَ بعدَ فِصالٍ ولا يُتْمَ بعدَ احْتِلامٍ) لا يُتْم: بسكون التاء. يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) (لقمان ١٤)‏ وقال: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) (الأحقاف ١٥)‏، والقول بأن الرضاعة لا تحرِّم بعد الحولين يروى عن عليّ وابن عباس وابن مسعود وهو مذهب الشافعي وأحمد. وقد روي عن عمر وعلي أنهما قال: "لا رضاع بعد فصال فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور سواء فطم أو لم يفطم، ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك، واللّه أعلم. وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي ﷺ امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي ﷺ ورأين ذلك من الخصائص- وأقول هو الأولى-وهو قول الجمهور، وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللّه ﷺ قالت عائشة: (دَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ ﷺ وعِندِي رَجُلٌ، قالَ: يا عَائِشَةُ، مَن هذا؟ قُلتُ: أخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، قالَ: يا عَائِشَةُ، انْظُرْنَ مَن إخْوَانُكُنَّ؛ فإنَّما الرَّضَاعَةُ مِنَ المَجَاعَةِ).( البخاري )

ومن قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ..) هل الرضاعة حق للأم أو هو حق عليها؟ واللفظ محتمل أنهه حقها،  لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال سبحانه: وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما أرشد تعالى: (َعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ) ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها ألا ترضع وذلك كالشرط!

وقالوا الرضاع عليها:  إن لم يقبل الولد غيرها واجب.

وهو عليها إذا عدم غيرها، او الحليب، لاختصاصها به.

 فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة.

وقال في كتاب ابن الجلاب: رضاعه في بيت المال. وهو فقير من فقراء المسلمين.

وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق بأجرة المثل.

هذا مع يسر الزوج فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع.

وكل من يلزمها الإرضاع  يقول: إن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب. وروي عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي أن الرضاع على الأم، فإن لم يكن لها لبن ولها مال فالإرضاع عليها في مالها.

 قال الشافعي: لا يلزم الرضاع إلا والدا أو جدا وإن علا.

وقوله تعالى: (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ) دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه تحديد لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين. وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الأم لم يكن له ذلك. والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين.

في اللغة:

 رَضع يرْضَع رِضاعة ورَضاعا، (بكسر الراء في الأول وفتحها في الثاني) واسم الفاعل راضع فيهما.

والرَضاعة: اللؤم- أي يلؤم الثدي- (مفتوح الراء لا غير).

وقوله تعالى: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ) أي وعلى والد الطفل، نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن، من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) ( الطلاق ٧)‏، قال الضحاك: إذا طلق زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف.

وقوله تعالى: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا) أي: لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها، وأيضًا: لا يحل للأب أن يمنع الأم من ذلك مع رغبتها في الإرضاع.

 أو أن تدفع الأم الرضيع عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك.

كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال: (وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ ۚ) أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضراراً بها قاله مجاهد وقتادة.

وقوله تعالى: (وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ ۗ)، قيل: على الوارث للأب الذي سيتحمل مسئولية الطفل الرضيع أيضًا عدم الضرار لقريبه، قاله مجاهد والضحاك، وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها وهو قول الجمهور، وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره، وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف، ويُرجَّح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعاً: (مَن مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحرَمٍ عُتِقَ عليه) (البخاري) [ أي: في حالةِ إذا وقَعَ شَخْصٌ في الرِّقِّ ومَلَكَه شخْصٌ آخَرُ مِن ذَوي رَحِمِه ومحارِمِه، بَطَلَ هذا الرِّقُّ، وصارَ المَحْرَمُ حُرًّا بمجرَّدِ المِلْكِ دونَ أنْ يتلفَّظَ المالِكُ بلَفْظِ العِتْقِ- فهذه في حق الرحم] وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو في عقله، والله أعلم.

مسألة: في حق الأم في حضانه ابنها إذا طلقت:

قال القرطبي: في هذه الآية دليل لمالك على أن الحضانة للأم، فهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النكاح، وذلك حق لها، وبه قال أبو حنيفة.

وقال الشافعي: إذا بلغ الولد ثماني سنين وهو سن التمييز، خير بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم القرآن والأدب ووظائف العبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية. وروى النسائي وغيره عن أبي هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت له : زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال له النبيﷺ : " يا غلامُ ! هذا أبوكَ ، وهذه أُمُّكَ ، فخُذْ بيدِ أَيِّهِما شِئْتَ " فأخذ بيد أمه. ( صححه الألباني في الصحيحة)

وما رواه أبو داود عن الأوزاعي قال : حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني، فقال لها رسول الله ﷺ : (أنتِ أحقُّ به ما لم تَنكِحي).( حسنه الأرناؤوط والشوكاني)

قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد أن الأم أحق به ما لم تنكح. وكذا قال أبو عمر : لا أعلم خلافا بين السلف من العلماء في المرأة المطلقة إذا لم تتزوج أنها أحق بولدها من أبيه ما دام طفلا صغيرا لا يميز شيئا إذا كان عندها في حرز وكفاية ولم يثبت فيها فسق ولا تبرج.

 أما في تخييره إذا ميز وعقل بين أبيه وأمه وفيمن هو أولى به، قال ابن المنذر : وثبت أن النبي ﷺ قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير.

القصة:  عند أبي داود عن علي قال: خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة رضي الله عنه، فقال جعفر: أنا آخذها أنا أحق بها، ابنة عمي وخالتها عندي والخالة أم. فقال علي: أنا أحق بها: ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله ﷺ وهي أحق بها. فقال زيد: أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها. فخرج النبي ﷺ فقال: "وأمَّا الجاريةُ فقد قضَيْتُ بها لجَعفرٍ؛ تكونُ مع خالتِها، والخالةُ أُمٌّ ".

وقال ابن المنذر: وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا حق للأم في الولد إذا تزوجت.

 ولكن من أحق بالولد؟

ذكر القاضي عبد الوهاب في شرح الرسالة له عن الحسن: أنه لا يسقط حقها من الحضانة بالتزوج. وأجمع مالك والشافعي والنعمان وأبو ثور على أن الجدة أم الأم أحق بحضانة الولد. واختلفوا إذا لم يكن لها أم وكان لها جدة هي أم الأب، فقال مالك: أم الأب أحق إذا لم يكن للصبي خالة. وقال ابن القاسم: قال مالك: وبلغني ذلك عنه أنه قال: الخالة أولى من الجدة أم الأب.

وقوله تعالى: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ)

فصالا :أي فطاما - يفصل عن الرضاعة من الثدي- فإن اتفق والدي الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه، أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۖ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ ۖ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَىٰ) ( الطلاق٦).

وقوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ۗ)،  أي إذا أتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد، إما لعذر منها أو لعذر منه، فلا جناح عليهما في بذله ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف، وقوله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي في جميع أحوالكم (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.

وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٣٤)

انتقل الحديث هنا عن الأرملة التي يتوفى عنها زوجها، كم عدتها؟ وما يجوز لها فعله؟

قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ) هذا أمر من اللّه للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال، والتقدير في هذه الصيغة: وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن- فجاءت العبارة في غاية الإيجاز.

قوله تعالى: (يَتَرَبَّصْنَ)

 التربص: التأني والتصبر عن النكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح وذلك بألا تفارقه ليلا. ولم يذكر الله تعالى السكنى للمتوفى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلقة بقوله تعالى ( أسكنوهن) وليس في لفظ العدة في كتاب الله تعالى ما يدل على الإحداد، وإنما قال (يَتَرَبَّصْنَ) فبينت السنة جميع ذلك. والأحاديث عن النبي ﷺ متظاهرة بأن التربص في الوفاة إنما هو بإحداد، وهو الامتناع عن الزينة ولبس المصبوغ الجميل والطيب ونحوه، وهذا قول جمهور العلماء. وقال الحسن بن أبي الحسن: ليس الإحداد بشيء، إنما تتربص عن الزوج، ولها أن تتزين وتتطيب؛ وهذا ضعيف لأنه خلاف السنة على ما نبينه إن شاء الله تعالى.

بقاء المعتدة من وفاة زوجها في بيتها الذي كانت تقيم فيه معه:

وفي الحديث عن الفريعة بنت مالك بن سنان أنَّ زوجَها قتِلَ فسألتْ رسولَ اللهِ ﷺأنْ ترجعَ إلى أهلِها وقالتْ : إنَّ زوجيَ لم يتركْني في منزلٍ يملكُه، فأذِن لها في الرجوعِ، قالتْ: فانصرفتُ حتَّى إذا كنتُ في الحجرةِ أو في المسجدِ دعاني فقال: "امكُثي في بيتكِ حتَّى يبلغَ الكتابُ أجلَه"، قالتْ : فاعتددتُ فيه أربعةَ أشهرٍ وعشرًا) (حديث ثابت)

وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع.

 ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فترددوا إليه مراراً في ذلك، فقال عبد الله بن مسعود: "أقول فيها برأيي، فإن يك صواباً فمن اللّه، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملاً - وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط - وعليها العدة، ولها الميراث" فقامَ رهطٌ من أشجعٍ فيهم الجراحُ بنُ سنانٍ وأبو سنانٍ فقالوا : نشهدُ أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ قضى فينا في بِرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ وكان زوجُها هلالُ بنُ مرةٍ مِثْلَ مَا قَضَيْتَ" (أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي).

ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فإن عدتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق ٤)‏، وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين: من الوضع، أو أربعة أشهر وعشر، للجمع بين الآيتين، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي، لولا ما ثبتت به السنّة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه، قالت: فَكَتَبَ عُمَرُ بنُ عبدِ اللهِ إلى عبدِ اللهِ بنِ عُتْبَةَ يُخْبِرُهُ، أنَّ سُبَيْعَةَ أَخْبَرَتْهُ: "أنَّهَا كَانَتْ تَحْتَ سَعْدِ بنِ خَوْلَةَ وَهو في بَنِي عَامِرِ بنِ لُؤَيٍّ، وَكانَ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا، فَتُوُفِّيَ عَنْهَا في حَجَّةِ الوَدَاعِ وَهي حَامِلٌ، فَلَمْ تَنْشَبْ أَنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَلَمَّا تَعَلَّتْ مِن نِفَاسِهَا، تَجَمَّلَتْ لِلْخُطَّابِ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا أَبُو السَّنَابِلِ بنُ بَعْكَكٍ، رَجُلٌ مِن بَنِي عبدِ الدَّارِ، فَقالَ لَهَا: ما لي أَرَاكِ مُتَجَمِّلَةً؟ لَعَلَّكِ تَرْجِينَ النِّكَاحَ، إنَّكِ، وَاللَّهِ، ما أَنْتِ بنَاكِحٍ حتَّى تَمُرَّ عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قالَتْ سُبَيْعَةُ: فَلَمَّا قالَ لي ذلكَ، جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي حِينَ أَمْسَيْتُ، فأتَيْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ،فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ، فأفْتَانِي : بأَنِّي قدْ حَلَلْتُ حِينَ وَضَعْتُ حَمْلِي، وَأَمَرَنِي بالتَّزَوُّجِ إنْ بَدَا لِي".

 قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة، يعني لما احتج عليه به.

وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمَة، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة على قول الجمهور، لأنها لما كانت على النصف من الحرة فكذلك في العدة، ومن العلماء من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية، ولأن العدة من باب الأمور الجِبِليَّة، التي تستوي فيه الخليقة. وقد ذكر أن الحكمة في جعل عدة الوفاء أربعة أشهر وعشراً، احتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجوداً، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين: (يُجمع خلقُ أحدِكم في بطن أمهِ أربعين يومًا نطفةً، ثم يكونُ علقةً مثلَ ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يبعث اللهُ إليهِ الملَكَ فيؤمرُ بأربعِ كلماتٍ فيكتبُ رزقُه وعملُه وأجلُه وشقيٌّ أو سعيدٌ) فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، واللّه أعلم.

 وقوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها مدة عدتها، لما ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه ﷺ قال: "لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ، إلَّا علَى زَوْجِهَا أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا."، وفي الصحيحين أيضاً عن أم سلمة : (أنَّ امْرَأَةً تُوُفِّيَ زَوْجُهَا، فَخَشُوا علَى عَيْنَيْهَا، فأتَوْا رَسولَ اللَّهِ ﷺ فَاسْتَأْذَنُوهُ في الكُحْلِ، فَقالَ: لا تَكَحَّلْ، قدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ تَمْكُثُ في شَرِّ أحْلَاسِهَا أوْ شَرِّ بَيْتِهَا، فَإِذَا كانَ حَوْلٌ فَمَرَّ كَلْبٌ رَمَتْ ببَعَرَةٍ، فلا حتَّى تَمْضِيَ أرْبَعَةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ." (البخاري).

قالت زينب بنت أم سلمة: "كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتُعطى بعرة فترمي بها ثم تؤتي بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات أي من نتنها " [والإفتضاض مسح الفرج به]

 ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ) (٢٤٠) الآية كما قاله ابن عباس وغيره، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره.

 والغرض من الإحداد:

هو ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان: ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والحرة والأمة والمسلمة، والكافرة لعموم الآية، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا حداد على الكافرة، وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك، وحجة قائل هذه المقالة قوله ﷺ: "لا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أيَّامٍ، إلَّا علَى زَوْجِهَا أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا."، قالوا: فجعله تعبداً.

الحكمة من جعل عدة المتوفى عنها زوجها هذا المقدار:

وقال الشوكاني رحمه الله في "فتح القدير": " ووجه الحكمة في جعل العدة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر، والأنثى لأربعة، فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً ، لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلاً ولا تتأخر عن هذا الأجل " انتهى .

الإعجاز العلمي من عدة المتزوفى عنها زوجها:

أثبتت الدراسات الحديثة أن ماء الرجل يحتوي على 62 نوعاً من البروتين وأن هذا الماء يختلف من رجل إلى آخر فلكل رجل بصمة في رحم زوجته. وإذا تزوجت من رجل آخر بعد الطلاق مباشرة، قد تصاب المرأة بالأمراض، ومنها مرض سرطان الرحم لدخول أكثر من بصمة مختلفة في الرحم، وقد اثبتت الابحاث العلمية أن أول حيض بعد طلاق المرأة يزيل من 32 % الى 35 %، وتزيل الحيضة الثانية من 67% الى 72% منها، بينما تزيل الحيضة الثالثة 99.9% من بصمة الرجل، وهنا يكون الرحم قد تم تطهيره من البصمة السابقة وصار مستعداً لاستقبال بصمة أخرى.

أما عن عدة المتوفي عنها زوجها لماذا هي أطول من عدة المطلقة،في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ) (سورة البقرة ٢٣٤) فقد أثبتت الأبحاث أن المرأة المتوفى عنها زوجها بحزنها عليه وبالكآبة التي تقع عليها هذا يزيد من تثبيت البصمة لديها وقالوا أنها تحتاج لدورة رابعة كي تزيل البصمة نهائيا، وبالمقدار الذي قال عنه الله عز وجل تقريبا أربعة أشهر وعشرا.والله أعلم.

وقوله تعالى: ( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) أي انقضت عدتهن (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ)، قال الزهري: أي على أوليائها (فِيمَا فَعَلْنَ) يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال ابن عباس: إذا طُلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف. وقد روي عن مقاتل، وقال مجاهد: (بِالْمَعْرُوفِ ۗ) النكاح الحلال الطيب، وهو قول الحسن والزهري، (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) واللّه أعلم.

No comments:

Post a Comment