Friday 2 June 2023

تفسيرسورة البقرة ح40 أحكام الطلاق والخلع

           


 تفسير سورة البقرة- ح ٤٠

                 (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ)

                    فيها بيان لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وولي

                   (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ)

  الخلع وأحكامه- متى يكون؟ممن يصلح؟

( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ)

المسلم موقوف عند هذه 

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-تحديد عدد مرات الطلاق التي يجوز للزوج أن يراجع في العدة، بلا مهر ولا ولي.

-للمرأة الحق في الإنفصال عن زوجها إذا رأت أنها لن تتمكن أن تقيم حدود الله معه بسبب..

-ما يحق للزوج أن يأخذ منها إذا أرادت أن تنخلع منه.

-النهي عن أن يمسك الزوج زوجته تحت عصمته يريد إضرارها، وليس العشرة بالمعروف.

-تحذير من الله وتخويف لمن يريد الإضرار بأن الله عليم بما في نفسه، وسيجازى عليه.

التفسير:

قوله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩)

قوله تعالى: الطلاق مرتان ثبت أن أهل الجاهلية لم يكن عندهم للطلاق عدد، وكانت عندهم العدة معلومة مقدرة، وكان هذا في أول الإسلام برهة، يطلق الرجل امرأته ما شاء من الطلاق، فإذا كادت تحل من طلاقه راجعها ما شاء، فقال رجل لامرأته على عهد النبي ﷺ: لا آويك ولا أدعك تحلين، قالت: وكيف ؟ قال: أطلقك فإذا دنا مضي عدتك راجعتك. فشكت المرأة ذلك إلى عائشة، فذكرت ذلك للنبي ﷺ، فأنزل الله تعالى هذه الآية بيانا لعدد الطلاق الذي للمرء فيه أن يرتجع دون تجديد مهر وول، ونسخ ما كانوا عليه. وقال ابن مسعود وابن عباس وغيرهم: (المراد بالآية التعريف بسنة الطلاق، أي من طلق اثنتين فليتق الله في الثالثة، فإما تركها غير مظلومة شيئا من حقها، وإما أمسكها محسنا عشرتها، والآية تتضمن هذين المعنيين) .

-الطلاق هو حل العصمة المنعقدة بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها، وبقوله ﷺ في حديث ابن عمر عن طلاقه لزوجته وهي حائض، قال له رسول اللهﷺ : " مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إنْ شَاءَ أمْسَكَ بَعْدُ، وإنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتي أمَرَ اللَّهُ أنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ." ( البخاري)،وقد طلق رسول الله ﷺ حفصة ثم راجعها، (خرجه ابن ماجه). وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهرا في طهر لم يمسها فيه أنه مطلق للسنة، وللعدة التي أمر الله تعالى بها، وأن له الرجعة إذا كانت مدخولا بها قبل أن تنقضي عدتها، فإذا انقضت العدة فهو خاطب من الخطاب .

-روى الدارقطني بسنده عن معاذ بن جبل قال: "قال لي رسولُ اللهِ ﷺ: يا معاذُ ! ما خلق اللهُ شيئًا على وجهِ الأرضِ أبغضَ إليه من الطلاقِ، وما خلق اللهُ شيئًا على وجهِ الأرضِ أحبَّ إليه من العتاقِ، فإذا قال الرجلُ لمملوكِه: أنت حرٌّ إن شاءَ اللهُ فهو حرٌّ ولا استثناءَ له، وإذا قال لامرأتِه: أنت طالقٌ إن شاءَ اللهُ فله الاستثناءُ ولا طلاقَ عليه" (ضعيف مرفوعا).

فتوى: والاستثناء بإن شاء الله لا يفيد في يمين الطلاق عند بعض أهل العلم، وقال بعضهم يفيد، لكن شرط حل اليمين بالاستثناء أن يكون متصلا بالمستثنى منه بحيث لا يفصل بينهما كلام أجنبي ولا سكوت اختيارا يمكن فيه الكلام وبالتالي، فمضي زمن مقدر بدقيقة مانع من إفادة الاستثناء بإن شاء الله.

اختلف العُلَماءُ في الاستِثناءِ في الطَّلاقِ، على قَولَينِ: القول الأول: إذا وقَعَ الاستِثناءُ في الطَّلاقِ، كقَولِ الرَّجُلِ لامرأتِه: أنتِ طالِقٌ إن شاء اللهُ، وأراد بالمشيئةِ التَّعليقَ: لم يَقَعِ الطَّلاقُ، وهذا مَذهَبُ الحَنَفيَّة، والشَّافِعيَّةِ، ورواية عن أحمد ، وبه قال طائِفةٌ مِنَ السَّلَفِ، وهو قَولُ ابنِ المُنذِرِ، وابنِ تيميَّةَ، وابنِ القَيِّمِ، والشَّوكانيِّ، وابنِ باز، وابنِ عُثيمين

الأدِلَّةُ:أوَّلًا: مِنَ السُّنَّةِ

عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال رسول الله ﷺ: "مَن حلفَ فاستثنَى، فإن شاءَ رجَعَ، وإن شاءَ تركَ غَيرَ حَنِثٍ"وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الحديثَ صَريحٌ في أنَّ التقييدَ بالمشيئةِ يُوجِبُ عَدَمَ وُقوعِ ما عُلِّقَ بها.قال ابن المنذر: وممن رأى الاستثناء في الطلاق والشافعي. ولا يجوز الاستثناء في الطلاق في قول مالك والأوزاعي، وهو قول الحسن وقتادة في الطلاق خاصة. قال: وبالقول الأول أقول .

-قوله تعالى: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ..) أي فعليكم إمساك بمعروف، أو فالواجب عليكم إمساك بما يعرف أنه الحق. على أن العبارة فيها حذف،  ويجوز في غير القرآن "فإمساكًا " على أنها المصدر. ومعنى " بإحسان " أي لا يظلمها شيئا من حقها، ولا يتعدى في قول. والإمساك: خلاف الإطلاق.

والتسريح: إرسال الشيء، ومنه تسريح الشعر، ليخلص البعض من البعض. وسرح الماشية: أرسلها.

فالمعنى:إن طلقها ثالثة فيسرحها، هذا قول مجاهد وعطاء وغيرهما، وهو أصح لوجوه ثلاثة :

أحدها : ما رواه الدارقطني عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله، قال الله تعالى: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ) فلم صار ثلاثا ؟ قال: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ) في رواية -هي الثالثة". ذكره ابن المنذر

- إن التسريح من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنه قد قرئ " إن عزموا السراح" .

قال أبو عمر : وأجمع العلماء على أن قوله تعالى: ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ) هي الطلقة الثالثة بعد الطلقتين، وإياها عنى بقوله تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ) وأجمعوا على أن من طلق امرأته طلقة أو طلقتين فله مراجعتها، فإن طلقها الثالثة لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فأفادة للبينونة الموجبة للتحريم إلا بعد زوج وكان هذا من محكم القرآن الذي لم يختلف في تأويله.

قال الطبري: فوجب حمل قوله: ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ)، على فائدة مجددة، وهو وقوع البينونة بالثنتين عند انقضاء العدة، وعلى أن المقصود من الآية بيان عدد الطلاق الموجب للتحريم، ونسخ ما كان جائزا من إيقاع الطلاق بلا عدد محصور، فلو كان قوله: ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ) هو الثالثة لما أبان عن المقصد في إيقاع التحريم بالثلاث، إذ لو اقتصر عليه لما دل على وقوع البينونة المحرمة لها إلا بعد زوج، وإنما علم التحريم بقوله تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ). فوجب ألا يكون معنى قوله: أو تسريح بإحسان الثالثة، ولو كان قوله: أو تسريح بإحسان بمعنى الثالثة، فهذا يوهم أن قوله عقيب ذلك: فإن طلقها.. يعني الرابعة ؛ لأن الفاء للتعقيب، وقد اقتضى طلاقا مستقبلا بعد ما تقدم ذكره، فثبت بذلك أن قوله تعالى: أو تسريح بإحسان هو تركها حتى تنقضي عدتها .

-ما حكم من طلق ثلاثا في لفظ واحد؟

عن الأئمة الأربعة يقولون: إن الطلاق بالثلاث ولو بكلمة واحدة يقع، فإذا قال لزوجته: أنت طالق بالثلاث أو مطلقة بالثلاث، أو قال: هي طالق بالثلاث، يعني: زوجته طالق عند الأكثرين من أهل العلم، وحرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره، بهذا قال الكيا الطبري: قال علماؤنا: واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة، وهو قول جمهور السلف، وهو المشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة الأربعة؛ أنه لازم واقع ثلاثا. وقالوا: ولا فرق بين أن يوقع ثلاثا مجتمعة في كلمة أو متفرقة في كلمات، ما ذكره الطحاوي أن سعيد بن جبير ومجاهدا وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم  رووا عن مجاهد  قال: ( كنتُ عندَ ابنِ عَبَّاسٍ فجاءه رَجُلٌ، فقال: إنَّه طَلَّق امرأتَه ثلاثًا، فسَكَتَ، حتى ظَنَنْتُ أنَّه سيَرُدُّها إليه، فقال: يَنطَلِقُ أحَدُكم فيَركَبُ الأُحموقةَ، ثمَّ يقولُ: يا ابنَ عَبَّاسٍ! إنَّ اللهَ قال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا)، وإنَّك لم تتَّقِ اللهَ فلا أجِدُ لك مخرجًا، عَصَيتَ رَبَّك، وبانت منك امرأتُك) (حققه محمد أمين الشنقيطي وقال:إسناده صحيح وله متابعات عن ابن عباس بنحوه)  وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة، وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه.

فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء. وهذا يعم كل مطلقة إلا ما خص منه. والصحيح قول ابن عباس يحتج به .

والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : (كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم). ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات، ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو كان حالهم ذلك في أول الإسلام في زمن النبي ما قاله، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريق أنه (أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة)، وقول ابن عباس يوافق قول الجماعة وانعقد به الإجماع، يقول الطبري:ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يلزمه، أصل ذلك إذا أوقعه مفردا  .

عن محمد بن إدريس الشافعي يقول:حدثني عمي محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد: أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة المزنية البتة، فأخبر النبي بذلك، فقال: والله ما أردت إلا واحدة ، فقال رسول الله : " والله ما أردت إلا واحدة "؟- يتأكد من نيته- فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة ، فردها إليه رسول الله، فطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب، والثالثة في زمان عثمان" (قال أبو داود : هذا حديث صحيح ). فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثا، وطلاق البتة قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج والحمد لله، والله أعلم. وقال أبو عمر : رواية الشافعي لحديث ركانة عن عمه أتم، وقد زاد زيادة لا تردها الأصول، فوجب قبولها لثقة ناقليها، والشافعي وعمه وجده أهل بيت ركانة، كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم .  

والفتوى من العلماء الآن: أن طلاق الثلاث، يقع واحدة، يحتجوا بأن هذا ما كان معمول به في عهد رسول الله وأبي بكر، وسنتين من عهد عمر رضي الله عنهما، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه.

الطلاق ينقسم على ضربين :

طلاق سنة ، وطلاق بدعة؛ فطلاق السنة هو الواقع على الوجه الذي ندب الشرع إليه – أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه- وطلاق البدعة نقيضه؛ وهو أن يطلقها في حيض أو نفاس أو ثلاثا في كلمة واحدة، فإن فعل لزمه الطلاق.

أما صريح ألفاظ الطلاق فهي كثيرة، وبعضها أبين من بعض: الطلاق والسراح والفراق والحرام والخلية والبرية. وقال الشافعي: الصريح ثلاثة ألفاظ، وهو ما ورد به القرآن من لفظ الطلاق والسراح والفراق، قال الله تعالى: (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)( الطلاق ٢ وقال : (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ) ( البقرة٢٢٩)، وقال سبحانه: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ).( الطلاق ١)

-وإذا تقرر هذا فالطلاق على ضربين: صريح وكناية، فالصريح ما ذكرنا، والكناية ما عداه، والفرق بينهما أن الصريح لا يفتقر إلى نية، بل بمجرد اللفظ يقع الطلاق ، والكناية تفتقر إلى نية، والحجة لمن قال: إن الحرام والخلية والبرية من صريح الطلاق كثرة استعمالها في الطلاق حتى عرفت به، فصارت بينة واضحة في إيقاع الطلاق، ثم إن عمر بن عبد العزيز قد قال : "لو كان الطلاق ألفا ما أبقت" البتة " منه شيئا " فمن قال: البتة ، فقد رمى الغاية القصوى " أخرجه مالك . وقد روى الدارقطني عن علي قال : (الخلية والبرية والبتة والبائن والحرام ثلاث، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره) .

واختلفوا فيمن قال لامرأته : قد فارقتك، أو سرحتك، أو أنت خلية، أو برية ، أو بائن ، أو حبلك على غاربك ، أو أنت علي حرام ، أو الحقي بأهلك ، أو قد وهبتك لأهلك ، أو قد خليت سبيلك ، أو لا سبيل لي عليك ، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف : هو طلاق بائن ، وروي عن ابن مسعود وقال : (إذا قال الرجل لامرأته استقلي بأمرك ، أو أمرك لك ، أو الحقي بأهلك فقبلوها فواحدة بائنة) . وروي عن مالك فيمن قال لامرأته : قد فارقتك ، أو سرحتك ، أنه من صريح الطلاق ، كقوله: أنت طالق. وروي عنه أنه كناية يرجع فيها إلى نية قائلها ، ويسأل ما أراد من العدد ، مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها . قال ابن المواز : وأصح قوليه في التي لم يدخل بها أنها واحدة، إلا أن ينوي أكثر، وقال أبو يوسف: هي ثلاث، ومثله خلعتك، أو لا ملك لي عليك. وأما سائر الكنايات فهي ثلاث عند مالك في كل من دخل بها لا ينوي فيها قائلها، وينوي في غير المدخول بها . فإن حلف وقال أردت واحدة كان خاطبا من الخطاب؛ لأنه لا يخلي المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يبينها ولا يبريها إلا ثلاث تطليقات . والتي لم يدخل بها يخليها ويبريها ويبينها الواحدة. وقد روى مالك وطائفة من أصحابه، وهو قول جماعة من أهل المدينة ، أنه ينوي في هذه الألفاظ كلها ويلزمه من الطلاق ما نوى. وقد روي عنه في " البتة " خاصة من بين سائر الكنايات أنه لا ينوي فيها لا في المدخول بها ولا في غير المدخول بها.

وقوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) أي : لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الصدقة أو ببعضه، كما قال تعالى: (وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ) ( النساء ١٩)، فأما إن وهبته المرأة شيئا عن طيب نفس منها . فقد قال تعالى: (فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا ) (النساء ٤ )

وأما إذا تشاقق الزوجان، ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها، ولا حرج عليها في بذلها، ولا عليه في قبول ذلك منها؛ ولهذا قال تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)

فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه، فقد قال ابن جرير :

عن ثوبان ، أن رسول الله قال : " أيُّما امرأةٍ سأَلتْ زوجَها طلاقَها مِن غيرِ بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنَّةِ " (صححه الألباني)

-قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف: إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية، واحتجوا بالآية. قالوا : فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عدم الدليل، وممن ذهب إلى هذا ابن عباس، والجمهور، حتى قال مالك والأوزاعي: لو أخذ منها شيئا وهو مضار لها وجب رده إليها، وكان الطلاق رجعيا. قال مالك: وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه.

قال الإمام مالك في موطئه: عن عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة، أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية، أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله خرج إلى الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس، فقال رسول الله : " من هذه ؟ " قالت : أنا حبيبة بنت سهل. فقال: " ما شأنك ؟ " فقالت: لا أنا ولا ثابت بن قيس لزوجها، فلما جاء زوجها ثابت بن قيس قال له رسول الله: "هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر " . فقالت حبيبة : يا رسول الله، كل ما أعطاني عندي. فقال رسول الله : " خذ منها ". فأخذ منها وجلست في أهلها .

حديث آخر : عن عائشة : ( أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، فضربها فكسر نغضها- غضروف الكتف- فأتت رسول الله بعد الصبح فاشتكته إليه، فدعا رسول الله ثابتا فقال: " خذ بعض مالها وفارقها " قال: ويصلح ذلك يا رسول الله؟ قال: " نعم ". قال: فإني أصدقتها حديقتين، فهما بيدها. فقال النبي : " خذهما وفارقها " . ففعل .

وفي البخاري: عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي ، فقالت: يا رسول الله، ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله : " أتردين عليه حديقته ؟ " قالت : نعم . قال رسول الله : "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" .

وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه : هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها ؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك، لعموم قوله تعالى: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)  وقال ابن جرير : عن كثير مولى سمرة : أن عمر أتي بامرأة ناشز ، فأمَرَ بها إلى بَيتٍ كَثيرِ الزِّبْلِ، ثم دَعا بها، فقال: كيف وَجَدتِ؟! فقالت: ما وَجَدتُ رَاحةً مُنذُ كُنتُ عِندَه إلَّا هذه اللَّياليَ التي حَبَستَني. فقال لِزَوجِها: "اخلَعْها ولو مِن قُرطِها."، وقيل: حبسها فيه ثلاثة أيام.( تخريج أحمد شاكر-ضعيف) .

وقال البخاري: وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها .

وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل : أن الربيع بنت معوذ بن عفراء حدثته قالت : كان لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عن . قالت: فكانت مني زلة يوما ، فقلت له: أختلع منك بكل شيء أملكه؟ قال: نعم. قالت: ففعلت. قالت فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت: ما دون عقاص الرأس .

وقال أصحاب أبي حنيفة ، رحمهم الله : إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا تجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء: وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئا، فإن أخذ جاز في القضاء .

وكان علي يقول : لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها. وقال الأوزاعي: القضاة لا يجيزون أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها .

- ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية قتادة عن ابن عباس، في قصة ثابت بن قيس : فأمره رسول الله أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد .

وعن عطاء: أن النبي كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة وحملوا معنى الآية على معنى فلا جناح عليهما فيما افتدت به أي: من الذي أعطاها ؛  لتقدم قوله: ( ولا [ يحل لكم أن] تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ)  أي: من ذلك . ولهذا قال بعده : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) فصل

قال الشافعي: اختلف أصحابنا في الخلع هل يعتبر طلقة؟  عن ابن عباس في رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه بعد، قال: يتزوجها إن شاء لأن الله تعالى يقول : (الطلاق مرتان قرأ إلى : ( أن يتراجعا قال الشافعي : وأخبرنا سفيان ، عن عمرو [ بن دينار ] عن عكرمة قال : كل شيء أجازه المال فليس بطلاق .

وروى غير الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس: أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال: رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه، أيتزوجها ؟ قال: نعم، ليس الخلع بطلاق، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك، فليس الخلع بشيء ، ثم قرأ : (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ ) وقرأ : ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره)

وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنهما من أن الخلع ليس بطلاق، وإنما هو فسخ هو رواية عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، وابن عمر  وغيرهم  وهو مذهب الشافعي في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة .

والقول الثاني في الخلع: إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك . قال مالك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه.

غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخالع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة. وإن نوى ثلاثا فثلاث. وللشافعي قول آخر في الخلع، وهو : أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق ، وعري عن النية فليس هو بشيء بالكلية .

مسألة : في عدة المختلعة:

ذهب مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد وإسحاق في رواية عنهما ، وهي المشهورة: إلى أن المختلعة عدتها عدة المطلقة بثلاثة قروء، إن كانت ممن تحيض . وروي ذلك عن عمر ، وعلي ، وابن عمر ، قال الترمذي: وهو قول أكثر أهل العلم من الصحابة وغيرهم. ومأخذهم في هذا أن الخلع طلاق ، فتعتد كسائر المطلقات .

والقول الثاني : أنها تعتد بحيضة واحدة تستبرئ بها رحمها. قال ابن أبي شيبة: عن نافع : أن الربيع اختلعت من زوجها ، فأتى عمها عثمان رضي الله عنه ، فقال : تعتد حيضة. قال : وكان ابن عمر يقول: تعتد ثلاث حيض، حتى قال هذا عثمان ، فكان ابن عمر يفتي به ويقول : عثمان خيرنا وأعلمنا .

وعن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها على عهد النبي ، فأمرها النبي أن تعتد بحيضة. ثم قال الترمذي : حسن غريب .

حديث آخر : قال الترمذي: عن الربيع بنت معوذ بن عفراء: أنها اختلعت على عهد رسول الله ، فأمرها النبي أو أمرت أن تعتد بحيضة. قال الترمذي: الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة .

مسألة :

وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء؛  لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء .

وهل له أن يوقع عليها طلاقا آخر في العدة؟

الأصح: ليس له ذلك؛ لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه .قاله ابن عباس.

وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )  أي : هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده، فلا تتجاوزوها. كما ثبت في الحديث الصحيح: "إنَّ اللهَ فرضَ فرائضَ فلا تُضيِّعوها، و حَدَّ حدودًا فلا تعتَدوها و حرَّمَ أشياءَ فلا تنتهِكوها ، و سكَت عَن أشياءَ رحمةً بكم غيرَ نسيانٍ فلا تَبحثوا عَنها "

وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام، كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة واحدة، لقوله : (الطلاق مرتان..) ثم قال : (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )  ويقوون ذلك بحديث محمود بن لبيد الذي رواه النسائي في سننه حيث قال : حدثنا سليمان بن داود ، أخبرنا ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه ، عن محمود بن لبيد قال : أخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام غضبان، ثم قال : " أيُلعَبُ بِكِتابِ اللَّهِ وأنا بينَ أظهرِكُم؟ " حتى قام رجل فقال يا رسول الله، ألا أقتله ؟  ( ضعفه الألباني)

وقوله تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠)

وقوله تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ) أي: أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتي، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره، أي: حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح، فلو وطئها واطئ في غير نكاح، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول؛ لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول .

وعن ابن عمر رضي الله عنه،عن النبي في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها، قبل أن يدخل بها: أترجع إلى الأول؟ قال: " لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " .

وقال الإمام أحمد: عن أنس بن مالك: " أن رسول الله سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله : "لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته"ومثله في البخاري ومسلم  

حدثنا محمد بن العلاء الهمدان ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام عن أبيه، عن عائشة : أن رسول الله سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ، فتتزوج رجلا فيطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ قال: " لا حتى يذوق عسيلتها " .

قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا ابن فضيل : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية جميعا ، عن هشام بهذا الإسناد .

وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري: عن عائشة، عن النبي: أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ، فتزوجت آخر فأتت النبي ، فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فقال : " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "

فصل

والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة، قاصدا لدوام عشرتها ، كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحا، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف ، لم تحل للأول بهذا الوطء. وكذا لو كان الزوج الثاني ذميا لم تحل للمسلم بنكاحه، لأن أنكحة الكفار باطلة .

ومن قوله : " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "، ويلزم على هذا أن ينزل الرجل، و تنزل المرأة أيضا. وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله قال : " ألا إن العسيلة الجماع "

 فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة .

ذكر الأحاديث الواردة في ذلك

الحديث الأول : عن ابن مسعود . قال الإمام أحمد :

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه،قال : لعَنَ رسولُ اللهِ الواشِمةَ، والمُتَوشِّمةَ، والواصِلةَ، والمَوصولةَ، والمُحِلَّ، والمُحَلَّلَ له، وآكِلَ الرِّبا، ومُوكِلَه." (صحيح على شرط البخاري)، ثم رواه أحمد ، والترمذي وقال عنه: حسن صحيح، والنسائي.

وعن الليث بن سعد يقول: قال عقبة بن عامر : قال رسول الله : " ألا أخبرُكم بالتَّيسِ المستعارِ قالوا بلى قالَ هوَ المحلِّلُ ثمَّ قالَ لعنَ اللَّهُ المحلِّلَ والمحلَّلَ لَه."

وعن ابن عباس قال: سئل رسول الله عن نكاح المحلل قال: " لا إلَّا نِكاحَ رغبةٍ، غير دُلسةٍ، ولا مُستَهزئٍ بِكِتابِ اللَّهِ تعالى لم يَذُقِ العُسَيْلةَ"( ضعيف) .

وقوله : فإن طلقها أي: الزوج الثاني بعد الدخول بها فلا جناح عليهما أن يتراجعا أي : المرأة والزوج الأول إن ظنا أن يقيما حدود الله أي: يتعاشرا بالمعروف، (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أي : شرائعه وأحكامه ( يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي: يوضحها لأهل العلم.

وقد اختلف الأئمة، فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين، وتركها حتى انقضت عدتها، ثم تزوجت بآخر فدخل بها، ثم طلقها فانقضت عدتها، ثم تزوجها الأول : هل تعود إليه بما بقي من الثلاث، كما هو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة ، رضي الله عنهم ؟ أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق، فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث؟، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ؟ وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، والله أعلم .

وقوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١)

قوله تعالى: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)، هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها، أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها ، أي: يتركها حتى تنقضي عدتها ، ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال الله تعالى: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ) قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الرجل يطلق المرأة ، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارا ، لئلا تذهب إلى غيره ، ثم يطلقها فتعتد ، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة ، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعدهم عليه فقال: (وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) أي: بمخالفته أمر الله تعالى .

وقوله: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ) قال ابن جرير : عن أبي موسى: أن رسول الله غضب على الأشعريين ، فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، أغضبت على الأشعريين؟  فقال: يقول أحدكم: قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها" .

وقال مسروق : هو الذي يطلق في غير كنهه، ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها، لتطول عليها العدة .

وقال الحسن ، وقتادة، ومقاتل بن حيان : هو الرجل يطلق ويقول : كنت لاعبا أو يعتق أو ينكح ويقول : كنت لاعبا . فأنزل الله: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ)،فألزم الله بذلك . وروي عن عائشة : (أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول: والله لا أورثك ولا أدعك. قالت: وكيف ذاك؟ قال: إذا كدت تقضين عدتك راجعتك، وهذا من الظلم، أن يمسكها لإضرارها، وليس رغبة بها.

وقال ابن مردويه: عن ابن عباس قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب، لا يريد الطلاق؛ فأنزل الله : (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ) فألزمه رسول الله الطلاق . ومما يروى، أن رجلًا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى علي؟ فقال ابن عباس: (طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا).

وقال ابن أبي حاتم: عن الحسن البصري، قال: كان الرجل يطلق ويقول : كنت لاعبا أو يعتق ويقول : كنت لاعبا وينكح ويقول : كنت لاعبا فأنزل الله: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ)،وقال رسول الله: "من طلَّق أو أعتقَ أو نكحَ أو أنكَحَ جادًّا أو لاعبًا فقد جازَ عليه "(مرسل) أي وقع عليه.

وقال رسول الله: "ثلاثٌ ليس فيهنَ لَعِبٌ من تكلَّم بشيءٍ منهنَّ لاعبًا فقد وجب عليه الطلاقُ والعِتاقُ والنِّكاحُ ". (ضعيف)، وقالوا: من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره .

والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود ، والترمذي ،عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : " ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وهَزلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكاح، والطَّلاقُ، والرَّجعةُ." (قال الترمذي: حسن غريب).

وقوله: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ) أي: في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم ( َمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) أي: السنة (يَعِظُكُم بِهِ ۚ) أي: يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أي: فيما تأتون وفيما تذرون (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، أي: فلا يخفى عليه شيء من أموركم  التي تعملونها سرًا أو جهرًا  وستحاسبون عليها. 

والله أولى وأعلم.

 

No comments:

Post a Comment