Thursday 22 June 2023

تفسير سورة البقرة ح42 أحكام الطلاق والعدة

     

تفسير سورة البقرة - ح-٤٢

بيان ما يحل للخاطب أن يقوله للمرأة التي يرغب بزواجها في عدتها

 (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ)

ذكر المتعة للمرأة المطلقة متي تجب؟ هل لها مقدار؟

(وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ)

هل المتعة حقا على المحسنين من الأزواج فقط؟ 

وقال: ( وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

 

محور مواضيع هذه الجزء:

- ما المقود بالتعريض بالخطبة، ولمن تجوز؟ وما صيغها.

- تحذير ربنا سبحانه وتعالى لعباده بأنه مطلع على سرائرهم، فليحذروه، ثم بشارته لهم بأنه (غَفُورٌ حَلِيمٌ)

-المتعة المذكورة في هذه الآيات، هي قدر من المال أو المتاع يعطيه الزوج لمطلقته.

-وينبه ربنا تعالى عباده على تذكر وذكر ما هو خير من أعمال الغير- الطليق- والعفو عن الإساءة.

التفسير:

قوله تعالى: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا ۚ وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٣٥)

قوله تعالى : (وَلَا جُنَاحَ)  أي لا إثم ، والجناح الإثم.

وقوله : (عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ) المخاطبة لجميع الناس، والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة، أي لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة.

والتعريض: ضد التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره وهو من عرض الشيء وهو جانبه، كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره. وفي الحديث: أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله وأبا بكر ثيابا بيضاء، أي أهدوا لهما. فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه .

وقد أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة -من وفاة ، أو طلاق غير بائن-بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت الأمة على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز ، وكذلك ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك. ومن أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي لفاطمة بنت قيس: كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك .

ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعا لأنها كالزوجة. وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها والله أعلم.

الفاظ التعريض الجائزة:

وروي في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جماعها يرجع إلى قسمين:

 الأول: أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها .

والثاني : أن يشير بذلك إليها دون واسطة، فيقول لها: إني أريد التزويج ، أو إنك لجميلة، إنك لصالحة  إن الله لسائق إليك خيرا ، إني فيك لراغب، ومن يرغب عنك، إنك لنافقة، وإن حاجتي في النساء، وإن يقدر الله أمرا يكن. وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول : لا تسبقيني بنفسك - وكره مجاهد أن يقول لها : لا تسبقيني بنفسك ورآه من المواعدة سرا ، ولا يقال أن النبي  قالها لفاطمة  أن يتأول قول النبي لفاطمة بنت قيس: كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك.  أنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه وإلا فهو خلاف لقول النبي .

- ولا بأس أن يهدي إليها، وأن يعينها في شغلها في العدة إذا كانت من شأنه.

وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه، قالت سكينة بنت حنظلة استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله وقرابتي من علي وموضعي في العرب. قلت:  غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي ، قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله ومن علي. وقد دخل رسول الله على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة فقال: لقد علمت أني رسول الله وخيرته وموضعي في قومي، كانت تلك خطبة ، أخرجه الدارقطني.

قوله تعالى: (مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ ) الخِطبة ( بكسر الخاء): فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول.

والخاطب، الرجل الذي يخطب المرأة ، ويقال أيضا : هي خِطبه وخطبته التي يخطبها . والخطبة فعلة كجلسة وقعدة: والخُطبة (بضم الخاء) هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره من المناسبات. قال النحاس: والخطبة ما كان لها أول وآخر .

قوله تعالى: (أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ ۚ )،معناه سترتم وأضمرتم من التزوج بها بعد انقضاء عدتها . والإكنان: الستر والإخفاء، يقال: كننته وأكننته بمعنى واحد.

وقيل : كننته أي صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستورا ، ومنه بيض مكنون ودر مكنون. وأكننته أسررته وسترته. وقيل: كننت الشيء من الأجرام إذا سترته بثوب أو بيت أو أرض ونحوه . وأكننت الأمر في نفسي. فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الإكنان ، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد. ورخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحها وضعف البشر عن ملكها .

قوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ)، أي إما سرا وإما إعلانا في نفوسكم وبألسنتكم، فرخص في التعريض دون التصريح . قال الحسن : معناه ستخطبونهن .

قوله تعالى: (وَلَٰكِن لَّا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا ۚ) اختلف العلماء في معنى قوله تعالى: سرا فقيل، معناه نكاحا ، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني، بل يعرض إن أراد ، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية، هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه وجمهور أهل العلم. وقيل: السر الزنا ، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها. قال الحسن بن أبي الحسن وأن السر في هذه الآية الزنا ، أي لا تواعدوهن زنا، واختاره الطبري.

وقال ابن زيد : معنى قوله ولكن لا تواعدوهن سرا أن لا تنكحوهن وتكتمون ذلك ، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن ، وهذا هو معنى القول الأول ، فابن زيد على هذا قائل بالقول الأول ، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة ، وذلك قلق . وحكى مكي والثعلبي عنه أنه قال : الآية منسوخة بقوله تعالى: ولا تعزموا عقدة النكاح .

قال القاضي أبو محمد بن عطية: أجمعت الأمة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها ، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته.

وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العدة ثم يتزوج بعدها: فراقها أحب إلي، دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب، هذه رواية ابن وهب.

وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا، وقاله ابن القاسم. وحكى ابن الحارث مثله عن ابن الماجشون ، وزاد ما يقتضي أن التحريم يتأبد .

وقال الشافعي : إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة فالنكاح ثابت والتصريح لهما مكروه لأن النكاح حادث بعد الخطبة .

قوله تعالى: (أَن تَقُولُوا قَوْلًا مَّعْرُوفًا ۚ)  استثناء منقطع بمعنى لكن، كقوله إلا خطأ؛ أي لكن خطأ. والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض.

قوله تعالى : (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ) قد تقدم القول في معنى العزم ، يقال: عزم الشيء وعزم عليه . والمعنى هنا : ولا تعزموا على عقدة النكاح . والمعنى : لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ثم حذف على ما تقدم .

قوله تعالى: (حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ)  يريد تمام العدة. والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة ، سماها كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله كما قال تعالى: (إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا) (النساء ١٠٣‏) فالكتاب: الفرض، أي حتى يبلغ الفرض أجله، (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) (البقرة ١٨٣) ؛ أي فُرِض.

حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ۚ)وهذا من المحكم المجمع على تأويله، أن بلوغ أجله انقضاء العدة.

واختلفوا في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة، وقد تقدم فيما سبق. واختلفوا إن عزم العقدة في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه، وذلك قبل الدخول وهي : ما ورد عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد وإن فسخ قبل الدخول، ووجهه أنه نكاح في العدة فوجب أن يتأبد به التحريم، أصله إذا بنى بها .

وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها :فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة ، يتأبد التحريم بينهما. وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم. وقال مالك : يتأبد التحريم. وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في المدونة في طلاق السنة.

وأما إن دخل في العدة فقال مالك والليث والأوزاعي: يفرق بينهما ولا تحل له أبدا . قال سعيد : ولها مهرها بما استحل من فرجها ، أخرجه مالك في موطئه .

وقال الثوري والكوفيون والشافعي: يفرق بينهما ولا يتأبد التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه، ثم يكون خاطبا من الخطاب. وورد عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان ؛ أي لا يتأبد التحريم.

وذكر القاضي أبو الوليد الباجي في المنتقى فقال : لا يخلو الناكح في العدة إذا بنى بها أن يبني بها في العدة أو بعدها ، فإن كان بنى بها في العدة فإن المشهور من المذهب أن التحريم يتأبد، وبه قال أحمد بن حنبل .

ووجه الرواية الأولى - وهي المشهورة - ما ثبت من قضاء عمر بذلك ، وقيامه بذلك في الناس ، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار، ولم يعلم له مخالف، فثبت أنه إجماع .

وقد روي مثل ذلك عن علي بن أبي طالب ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره ، وهذا حكم الإجماع .

وعن مسروق قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال: لا تنكحها أبدا وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس فبلغ عليا فقال: يرحم الله أمير المؤمنين ، ما بال الصداق وبيت المال ، إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة . قيل: فما تقول أنت فيهما ؟ فقال: لها الصداق بما استحل من فرجها ، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما ، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء. فبلغ عمر فخطب الناس فقال: أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة - أي أنه أيد كلام عليَّ رضي الله عنهما- قال الكيا الطبري: ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحها وهي في عدة من غيره أن النكاح فاسد. وفي اتفاق عمر وعلي على نفي الحد عنهما ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد ، إلا أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه ، ومع العلم به مختلف فيه . واختلفوا هل تعتد منهما جميعا وهذه مسألة العدتين:

خرج مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما ، ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول ، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ، ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا . قال مالك : ولها مهرها بما استحل من فرجها .

قوله ( فضربها عمر بالمخفقة وضرب زوجها ضربات) يريد على وجه العقوبة لما ارتكباه من المحظور وهو النكاح في العدة .

قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ) فاحذروه هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه، وتوعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يؤيسهم من رحمته، ولم يقنطهم من عائدته، فقال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)

وقوله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ)  (٢٣٦)

(لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ..)  هذا أيضا من أحكام المطلقات، وهو ابتداء إخبار برفع الحرج عن المطلق قبل البناء والجماع، فرض مهرا أو لم يفرض، ولما نهى رسول الله عن التزوج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة، وأمر بالتزوج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصد دوام الصحبة وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءا من هذا المكروه فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن.

وقال قوم : لا جناح عليكم معناه لا طلب لجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها ، والمتعة لمن لم يفرض لها .

وقيل: لما كان أمر المهر مؤكدا في الشرع فقد يتوهم أنه لا بد من مهر إما مسمى وإما مهر المثل، فرفع الحرج عن المطلق في وقت التطليق وإن لم يكن في النكاح مهر .

المطلقات أربع أحوال: - مطلقة مدخول بها مفروض لها المهر: وقد ذكر الله حكمها قبل هذه الآية وأنه لا يسترد منها شيء من المهر ، وأن عدتها ثلاثة قروء .

-ومطلقة غير مفروض لها ولا مدخول بها فهذه الآية في شأنها ولا مهر لها بل أمر الرب تعالى بإمتاعها وبين في سورة (الأحزاب) أن غير المدخول بها إذا طلقت فلا عدة عليها، وسيأتي .

-ومطلقة مفروض لها غير مدخول بها ذكرها بعد هذه الآية إذ قال: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ )

-ومطلقة مدخول بها غير مفروض لها: ذكرها الله في قوله: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن، فذكر تعالى هذه الآية والتي بعدها مطلقة قبل المسيس وقبل الفرض، ومطلقة قبل المسيس وبعد الفرض، فجعل للأولى المتعة، وجعل للثانية نصف الصداق لما لحق الزوجة من دحض العقد، ووصم الحل الحاصل للزوج بالعقد، وقابل المسيس بالمهر الواجب .

قالوا: أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضا لها لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (الأحزاب ٤٩)، قال شعبة وغيره عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة .

وقد روى البخاري في صحيحه، عن سهل بن سعد ، وأبي أسيد أنهما قالا:  تزوج رسول الله أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين ".

- لما قسم الله تعالى حال المطلقة هنا قسمين: مطلقة مسمى لها المهر ، ومطلقة لم يسم لها؛  دل على أن نكاح التفويض جائز : وهو كل نكاح عقد من غير ذكر الصداق ولا خلاف فيه، ويفرض بعد ذلك الصداق فإن فرض التحق بالعقد وجاز وإن لم يفرض لها وكان الطلاق لم يجب صداق إجماعا قاله القاضي أبو بكر بن العربي.

- إن وقع الموت قبل فرض المهر:  فذكر الترمذي عن ابن مسعود ( أنه سئل عن رجل تزوج امرأة لم يفرض لها ولم يدخل بها حتى مات:  فقال ابن مسعود : لها مثل صداق نسائها لا وكس ولا شطط وعليها العدة ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله في بروع بنت واشق امرأة منا مثل الذي قضيت ففرح بها ابن مسعود ). (قال الترمذي : حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح) ، وقد روي عنه من غير وجه ، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي وغيرهم.

قوله تعالى: (مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ)" ما "بمعنى الذي أي إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. و"أو" في أو تفرضوا قيل هو بمعنى الواو ، أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن ، كقوله تعالى: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) (الأعراف ٤)‏ ؛ أي :وهم قائلون. وقوله : (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (الصافات ١٤٧﴾)؛ أي: ويزيدون . وقوله: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا ) (الانسان ٢٤)‏ ؛ أي وكفورا . ويعتضد هذا بأنه تعالى عطف عليها بعد ذلك المفروض لها فقال: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) (البقرة ٢٣٧)  فلو كان الأول لبيان طلاق المفروض لها قبل المسيس لما كرره .

- قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ) معناه أعطوهن شيئا يكون متاعا لهن. وحمله ابن عمرو وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب . وحمله أبو عبيد مالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب . تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر . وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى: (حقا على المحسنين)  و  (على المتقين) ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين . والقول الأول أولى؛ لأن عمومات الأمر بالإمتاع في قوله ( ومتعوهن ) وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١)‏  أظهر في الوجوب منه في الندب . وقوله : على المتقين تأكيد لإيجابها ؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه ، وقد قال تعالى في القرآن: هدى للمتقين .

-واختلفوا في الضمير المتصل بقوله ( ومتعوهن ) من المراد به من النساء ؟ فقال ابن عباس والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي: المتعة واجبة للمطلقة قبل البناء والفرض ، ومندوبة في حق غيرها وثبتت المتعة للمطلقة بقول رسول الله ، قال تعالى في الأحزاب: ( يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) (٢٨)

-وقال مالك وأصحابه: المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دخل بها ، إلا في التي لم يدخل بها وقد فرض لها فحسبها ما فرض لها ولا متعة لها . وقال أبو ثور: لها المتعة ولكل مطلقة. وأجمع أهل العلم على أن التي لم يفرض لها ولم يدخل بها لا شيء لها غير المتعة.

ليس للمختلعة والمبارئة والملاعنة متعة قبل البناء ولا بعده ؛ لأنها هي التي اختارت الطلاق . وقال أصحاب الرأي: للملاعنة متعة . قال ابن القاسم: ولا متعة في نكاح مفسوخ. ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد، مثل ملك أحد الزوجين صاحبه ، أو رضاعهما من امرأة واحدة. قال ابن القاسم: وأصل ذلك قوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ )  فكان هذا الحكم مختصا بالطلاق دون الفسخ .

- قال مالك : ليس للمتعة عندنا حد معروف في قليلها ولا كثيرها . وقد اختلف الناس في هذا ، فقال ابن عمر: أدنى ما يجزئ في المتعة ثلاثون درهما أو شبهها . وقال ابن عباس: أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة. عطاء: أوسطها الدرع والخمار والملحفة. أبو حنيفة: ذلك أدناها. وقال ابن محيريز : على صاحب الديوان ثلاثة دنانير، وعلى العبد المتعة. وقال الحسن : يمتع كل بقدره ، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة ، وكذلك يقول مالك بن أنس ، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدرها ولا حددها وإنما قال: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ). ومتع الحسن بن علي بعشرين ألفا وزقاق من عسل. ومتع شريح بخمسمائة درهم. وقد قيل: إن حالة المرأة معتبرة أيضا ، قاله بعض الشافعية ، قالوا : لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوج امرأتين إحداهما شريفة والأخرى دنية ثم طلقهما قبل المسيس ولم يسم لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى : متاعا بالمعروف ويلزم منه أن الموسر العظيم اليسار إذا تزوج امرأة دنية أن يكون مثلها ؛ لأنه إذا طلقها قبل الدخول والفرض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها ، فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مثلها ، فتكون قد استحقت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر المثل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء . وقال أصحاب الرأي وغيرهم : متعة التي تطلق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير ؛ لأن مهر المثل مستحق بالعقد ، والمتعة هي بعض مهر المثل، فيجب لها كما يجب نصف المسمى إذا طلق قبل الدخول ، وهذا يرده قوله تعالى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ).وهذا دليل على رفض التحديد ، والله بحقائق الأمور عليم .

وقد ذكر الثعلبي حديثا قال: نزلت لا جناح عليكم إن طلقتم النساء الآية ، في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل أن يمسها فنزلت الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : متعها ولو بقلنسوتك . وروى الدارقطني عن سويد بن غفلة قال : كانت عائشة الخثعمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أصيب علي وبويع الحسن بالخلافة قالت : لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين ، فقال : يقتل علي وتظهرين الشماتة ، اذهبي فأنت طالق ثلاثا . قال : فتلفعت بساجها وقعدت حتى انقضت عدتها فبعث إليها بعشرة آلاف متعة، وبقية ما بقي لها من صداقها . فقالت :متاع قليل من حبيب مفارق

فلما بلغه قولها بكى وقال: لولا أني سمعت جدي - أو حدثني أبي أنه سمع جدي - يقول : أيما رجل طلق امرأته ثلاثا مبهمة أو ثلاثا عند الأقراء لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره لراجعتها . وفي رواية : أخبره الرسول فبكى وقال: لولا أني أبنت الطلاق لها لراجعتها .

-من جهل المتعة حتى مضت أعوام فليدفع ذلك إليها وإن تزوجت ، وإلى ورثتها إن ماتت ،وقال أصبغ : لا شيء عليه إن ماتت لأنها تسلية للزوجة عن الطلاق وقد فات ذلك. ووجه الأول أنه حق ثبت عليه وينتقل عنها إلى ورثتها كسائر الحقوق، وهذا يشعر بوجوبها في المذهب، والله أعلم .

قوله تعالى : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ). دليل على وجوب المتعة وقرأ الجمهور (الْمُوسِعِ)، وهو الذي اتسعت حاله، يقال : فلان ينفق على قدره ، أي على وسعه . وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وشد السين وفتحها . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر " قدْره " بسكون الدال في الموضعين. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص بفتح الدال فيهما . و" الْمُقْتِرِ " المقل القليل المال. و (مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ) نصب على المصدر ، أي متعوهن متاعا بالمعروف أي بما عرف في الشرع من الاقتصاد .

- قوله تعالى: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) أي يحق ذلك عليهم حقا، يقال : حققت عليه القضاء وأحققت ، أي أوجبت ، وفي هذا دليل على وجوب المتعة مع الأمر بها ، فقوله : (حَقًّا ) تأكيد للوجوب. ومعنى: (عَلَى الْمُحْسِنِينَ)  و على المتقين أي على المؤمنين، إذ ليس لأحد أن يقول: لست بمحسن ولا متق ، والناس مأمورون بأن يكونوا جميعا محسنين متقين، فيحسنون بأداء فرائض الله ويجتنبون معاصيه حتى لا يدخلوا النار ، فواجب على الخلق أجمعين أن يكونوا محسنين متقين . والله أعلم .

وقوله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (٢٣٧)

في هذه الآية الكريمة ما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض، وإذا طلق الزوج قبل الدخول، فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة والله أعلم .

وقال القرطبي:  كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ( البقرة ٢٤١)‏ ،ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة (الأحزاب) فاستثنى الله تعالى المفروض لها قبل الدخول بها بهذه الآية، وأثبت للمفروض لها نصف ما فرض فقط. وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور : المتعة لكل مطلقة عموما، وهذه الآية إنما بينت أن المفروض لها تأخذ نصف ما فرض لها ، ولم يعن بالآية إسقاط متعتها ، بل لها المتعة ونصف المفروض .

قوله تعالى: (فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) أي فالواجب نصف ما فرضتم، أي من المهر فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع. والنصف الجزء من اثنين وتشطير الصداق والحالة هذه أمر مجمع عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه متى كان قد سمى لها صداقا ثم فارقها قبل دخوله بها، فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج، وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشافعي في القديم، وبه حكم الخلفاء الراشدون، لكن قال الشافعي: أخبرنا بسنده عن ابن عباس أنه قال: في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن الله يقول: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) قال الشافعي: هذا أقوى وهو ظاهر الكتاب .

وقوله: (إِلَّا أَن يَعْفُونَ) أي: النساء عما وجب لها على زوجها من النصف، فلا يجب لها عليه شيء .

قال السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس في قوله: (إِلَّا أَن يَعْفُونَ) قال: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم رحمه الله، وجمع كثير ، قال: وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال : (إِلَّا أَن يَعْفُونَ) يعني: الرجال، وهو قول شاذ لم يتابع عليه. انتهى

وقوله : (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ) قال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده عن النبي قال: " ولي عقدة النكاح؛ الزوج " .

ثم قال ابن أبي حاتم رحمه الله: بسنده قال: سمعت شريحا يقول: سألني علي بن أبي طالب عن الذي بيده عقدة النكاح، فقلت له: هو ولي المرأة . فقال علي: لا بل هو الزوج .

ثم قال : وفي إحدى الروايات عن ابن عباس ، وجبير بن مطعم ، ومقاتل بن حيان: أنه الزوج .

قال ابن كثير: وهذا هو الجديد من قولي الشافعي، ومذهب أبي حنيفة. وأصحابه، والثوري ، وابن شبرمة، والأوزاعي ، واختاره ابن جرير . ومأخذ هذا القول: أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج، فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئا من مال المولية للغير، فكذلك في الصداق .

قال: والوجه الثاني: عن ابن عباس في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح قال: ذلك أبوها أو أخوها، أو من لا تنكح إلا بإذنه، وروي عن إبراهيم النخعي ،ومحمد بن سيرين في أحد قوليه: أنه الولي. وهذا مذهب مالك، وقول الشافعي في القديم؛ ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها .

وقال ابن جرير : عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به، فأي امرأة عفت جاز عفوها، فإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه .

وهذا يقتضي صحة عفو الولي، وإن كانت رشيدة!! وهو مروي عن شريح. لكن أنكر عليه الشعبي، فرجع عن ذلك، وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه .

وقوله: (وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ) قال ابن جرير: قال بعضهم: خوطب به الرجال، والنساء . عن ابن عباس: (وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ ) قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو .

وكذا روي عن الشعبي وغيره ، وقال مجاهد ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، والربيع بن أنس ، والثوري: الفضل هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها، أو إتمام الرجل الصداق لها. ولهذا قال: ( ولا تنسوا الفضل بينكم) أي: الإحسان، قاله سعيد. وقال الضحاك: المعروف، يعني: لا تهملوه بل استعملوه بينكم .

فائدة:

ففي الآية إشارةٌ إلى أن يتفضل الرجل الذي طلقَ زوجته من قبلِ أن يمسها، فيعطيها ما تبقى من مهرها، إذا كانَ لم يعطيها إياهُ سابقًا، وإن كانَ قد آتاها حقوقها التي فرضها الله تعالى لها، من مهرٍ وغيره، فليتفضل عليها بالعفو، عما وجبَ له، مع العلم بأنه يجوز له أن يأخذَ منها نصف المهرِ إن كان قد أعطاها إياهُ كاملًا، فإن لم يعفو عما تبقى لَهُ من مهرٍ، وكانَ شحيحًا معها، فلتكن المرأةُ المطلقةُ هي صاحبةُ الفضلِ، والعفو، وتَرّدُ عليه ما أخذت منه مهرٍ مقبوضٍ، فإن لم تكن قد أخذت منه شيئًا، فتعفو عن جميعه، فإن تركَ الزوجُ المُطلق، وطليقَتَهُ ما ندبَ الله إليه، ولم يتفضل أحدهما على الآخر بالعفو، فللمرأةِ المطلقةِ عندها نصفُ ما كُتب لها من مهرٍ في عقدِ الزواج، ولهُ النصفُ المتبقي.

فالله تعالى يُنبه الزوجين بأن لا ينسوا الإحسان إلى بعضهم، وختمَ الله تعالى هذه الآية بقولِهِ: (إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ).

 وجاءت هذه الآية لِتؤكدَ على قداسةِ هذهِ العلاقةِ الإنسانيةِ بين الزوجين، حرصَ الإسلامُ على احترامِها حتى في أصعبِ أوقاتِها، وهو وقت الطلاق، فأوصى الله الزوجين بأن لا ينسوا ما بينهم من فضلٍ، فهذه العلاقةُ لا تكونُ عابرةً، بل لها لحظاتٌ وأوقاتٌ يصعبُ نسيانها، وأوصاهم الله بالعفو، والعفو أقربُ للتقوى، وهو من الصفات التي تُظهر سماحةَ ورأفةِ صاحبهِ، وفي الآيةٌ إشارةٌ إلى الزوجين، بأن يكون بعدَ طلاقهم تفاهمٌ على جميعِ الأمور، ولا ينسوا العشرةَ التي كانت بينهم، فيتسامحوا ويحسنوا لبعضهم، فساعةُ الخصومة لا تهدمُ ما كانَ بينهم من مودَّة، يقول السعدي في تفسيره: "الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة؛ لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين: إما عدل وإنصاف واجب، وهو: أخذ الواجب، وإعطاء الواجب، وإما فضل وإحسان، وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق، والغض مما في النفس، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة.

وقد قال أبو بكر بن مردويه : عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله قال: " ليأتينَّ على النَّاسِ زمانٌ عَضوضٌ يعَضُّ المؤمنُ على ما في يديْهِ ويَنسى الفضلَ وقد قالَ اللَّهُ تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ) شرارٌ يبايعونَ كلَّ مضطرٍّ وقد نَهى رسولُ اللَّهِ عن بيعِ المضطرِّ وعن بيعِ الغَررِ فإن كانَ عندَكَ خيرٌ فعُد بِهِ على أخيكَ ولا تزدْهُ هَلاكًا على هلاكِهِ فإنَّ المسلِمَ أخو المسلمِ ولا يحزنُهُ ولا يحرِمُهُ ." ( ضعيف )

وقال سفيان ، عن أبي هارون قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي ، فكان عون يحدثنا ولحيته ترش من البكاء ويقول: صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هما، حين رأيتهم أحسن ثيابا، وأطيب ريحا، وأحسن مركبا مني. وجالست الفقراء فاسترحت بهم، وقال : (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فليدع له .( رواه ابن أبي حاتم .)

(إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي: لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم، وسيجزي كل عامل بعمله.

No comments:

Post a Comment