Monday, 22 December 2014

تفسير مختصر – وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورةُ ق – ج2



  



  سورةُ  ق – ج2  

قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَ‌بُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِ‌يدِ}  ( 16 ) 

التفسير :
يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأن علمه محيط بجميع أموره، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر، وفي هذا زجر عن المعاصي التي يستخفي بها. وقد ثبت في الصحيح عن رسول اللّه أنه قال: (إن اللهَ تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل) وقوله عزَّ وجلَّ: { وَنَحْنُ أَقْرَ‌بُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِ‌يدِ}  يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، ومن تأوله على علم الله ، فإنما فر عن القول أن الله تعال وجل هو بذاته ،لئلا يلزم حلول أو اتحاد، وهما منفيان بالإجماع تعالى اللّه وتقدس، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل: وأنا أقرب إليه من حبل الوريد، وإنما قال: { وَنَحْنُ أَقْرَ‌بُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِ‌يدِ} يعني ملائكته، فالملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه، بإقدار اللّه جلَّ وعلا لهم على ذلك، فللملَك لَّمة من الإنسان كما أن للشيطان لمة، والوريد الوتين وهو عرق معلق بالقلب. وهذا تمثيل للقرب؛ أي نحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو منه. ولهذا قال تعالى ههنا { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ }  يعني الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ }  أي مترصد،والمعنى: قاعد كالسميع والعليم والقدير والشهيد، وقال هنا {  قَعِيدٌ }  ولم يقل قعيدان وهما اثنان؛ لأن المراد عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف الأول لدلالة الثاني عليه.{ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ } أي ما يلفظ ابن آدم أو ما يتكلم بكلمة { إِلَّا لَدَيْهِ رَ‌قِيبٌ عَتِيدٌ } أي إلا ولها من يرقبها، معد لذلك يكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة، كما قال تعالى: { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *  كِرَ‌امًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ }(الإنفطار 10-12) وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام وهو قول الحسن وقتادة ، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب وهو قول ابن عباس على قولين: وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى: { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَ‌قِيبٌ عَتِيدٌ
 وقد روى الإمام أحمد، عن بلال بن الحارث المزني رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه : (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان اللّه تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزَّ وجلَّ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب اللّه تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه) ""رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة""فكان علقمة يقول: كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث، وقال الأحنف بن قيس: صاحب اليمين يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال، فإن أصاب العبد خطيئة قال له: أمسك، فإن استغفر اللّه تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها، وقال الحسن البصري؛ وتلا هذه الآية { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك، فاعمل ما شئت، أقلل أو أكثر، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك، حتى تخرج يوم القيامة، فعند ذلك يقال لك: { قْرَ‌أْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (الإسراء 14 ) ثم يقول: (عَدَل واللّه فيك من جعلك حسيب نفسك) وقال ابن عباس: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر، حتى أنه ليكتب قوله: أكلت، شربت، ذهبت، جئت، رأيت. حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله، فأقَّر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره، وذلك قوله تعالى: {  يَمْحُو اللهٌ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } ( الرعد 38 ) وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه، فبلغه عن طاووس أنه قال: يكتب الملك كل شيء حتى الأنين، فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله.
وقوله تبارك وتعالى: {  وَجَاءَتْ سَكْرَ‌ةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ }  يقول عزَّ وجلَّ: وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه، { ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك، فلا محيد ولامناص ولا فكاك ولا خلاص، ، وقيل في تفسيرها قولان قولان: أحدهما : أن ما ههنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتفر، قد حلَّ بك ونزل بساحتك. والقول الثاني : أن ما نافية بمعنى: ذلك ما كنت تقدر على الفراق منه ولا الحيد عنه. والمخاطب بذلك  على الصحيح هو الإنسان من حيث هو، وقيل: الكافر، وقيل غير ذلك.
 روي أنه لما أن ثقل أبو بكر رضي اللّه عنه جاءت عائشة رضي اللّه عنها فتمثلت بهذا البيت:
 لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
 فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه: ليس كذلك، ولكن قولي: {  وَجَاءَتْ سَكْرَ‌ةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ۖ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } وقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول: (سبحان الله إن للموت سكرات) خرجة البخاري،  وروي : (إن الموت أشد من ضرب بالسيوف ونشر بالمناشير وقرض بالمقاريض) .
وقوله تبارك وتعالى :{ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ‌ ۚ ذَٰلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} وها النفخ في الصور يوم القيامة، وفي الحديث؛ أن رسول اللهِ قال: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحَنَى جبهته وانتظر أن يؤذن له) قالوا: يا رسول اللهِ كيف نقول؟ قال : (قولوا: حسبنا اللّه ونعم الوكيل) فقال القوم: حسبنا اللهِ ونعم الوكيل.
وقوله سبحانه: { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ }  أي ملك يسوقه إلى المحشر، وملك يشهد عليه بأعماله، هذه هو الظاهر من الآية الكريمة وهو اختيار ابن جرير، لما روى من قول عثمان بن عفان هذا في الآية. وقال أبو هريرة: السائق الملك، والشهيد العمل.
 وقوله تعالى: { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُ‌كَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }  قيل: إن المراد بذلك الكافر، وقيل: إن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر، لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة، والدنيا كالمنام، والظاهر من السياق أن الخطاب مع الإنسان من حيث هو، والمراد بقوله تعالى: { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا }  يعني من هذا اليوم، { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُ‌كَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }أي قوي، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصراً، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة، لكن لا ينفعهم ذلك، قال اللّه تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ‌ يَوْمَ يَأْتُونَنَا ۖ لَـٰكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } ( مريم 38) ، وقال عزَّ وجلَّ: {وَلَوْ تَرَ‌ىٰ إِذِ الْمُجْرِ‌مُونَ نَاكِسُو رُ‌ءُوسِهِمْ عِندَ رَ‌بِّهِمْ رَ‌بَّنَا أَبْصَرْ‌نَا وَسَمِعْنَا فَارْ‌جِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } ( السجدة 20 )
يقول تعالى : { وَقَالَ قَرِ‌ينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } مخبراً عن الملك الموكل بعمل ابن آدم، أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل ويقول: { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي معتد بلا زيادة ولا نقصان، وقال مجاهد: هذا كلام الملك السائق يقول: هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته، وقد اختار ابن جرير أنه يعم السائق والشهيد، وله اتجاه وقوة، فعند ذلك يحكم الله تعالى في الخليقة بالعدل فيقول: { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ‌ عَنِيدٍ } ، وقد اختلف النحاة في قوله: { ألقيا}  فقال بعضهم: هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشهيد، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب، فلما أدى الشهيد عليه، أمرهما الله  تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ‌ عَنِيدٍ }، أي كثير الكفر والتكذيب بالحق { عَنِيدٍ }، معاند للحق معارض له بالباطل مع علمه بذلك، { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ‌ مُعْتَدٍ مُّرِ‌يبٍ } أي لايؤدي ما عليه من الحقوق، لا بر ولا صلة ولا صدقة يمنع الزكاة وكل ما عليه من الحقوق أهلها، { مُعْتَدٍ } أي فيما ينفقه ويصرفه، يتجاوز فيه الحد، فهو ظالم، وقال قتادة: معتد في منطقه وسيره وأمره، { مُّرِ‌يبٍ } أي شاك في أمره،، وفي توحيد ربه،وهو مريب لمن نظر في أمره، { الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّـهِ إِلَـٰهًا آخَرَ‌ } أي أشرك بالله فعبد معه غيره، { فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ }. عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي أنه قال: (يخرج عنق من النار يتكلم يقول: وكلت اليوم بثلاثة: بكل جبار عنيد، ومن جعل مع اللّه إلهاً آخر، ومن قتل نفساً بغير نفس، فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم) "أخرجه الإمام أحمد في المسند 
"
في اللغة:
- العنيد المعرض عن الحق ، يقال : يعْنِد ( بالكسر) أي خالف الحق وهو يعرفه، فهو عنيد وعاند ، وجمع العنيد : العُنُد مثل رغيف : رُغُف.
 -مريب : شاك ، يقال : أَراب الرجل فهو مُريب إذا جاء بالريبة.

وقوله تعالى : { َقَالَ قَرِ‌ينُهُ }  قال ابن عباس ومجاهد: هو الشيطان الذي وكل به، { ربنا ما أطغيته}  أي يقول عن الإنسان الذي قد وافى القيامة كافراً يتبرأ منه شيطانه فيقول: ما أضللته، { ولكن كان في ضلال بعيد} أي بل كان هو في نفسه ضالاً، معانداً للحق، كما أخبر سبحانه في قوله: { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ‌ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم}( إبراهيم 22) الآية. وقوله تبارك وتعالى: { قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ }  يقول الرب عزَّ وجلَّ للإنسي وقرينه من الجن، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق تعالى، فيقول الإنسي: يارب هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني، ويقول الشيطان بل كان هو في ضلال بعيد- أي عن منهج الحق-، فيقول الرب عزَّ وجلَّ لهما: { لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ } أي عندي، { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ } أي قد أعذرت إليكم أن أرسلت إليكم الرسل، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج والبراهين، { مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ } قال مجاهد: يعني قد قضيت ما أنا قاض، قيل هو قوله‏ { مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ‌ أَمْثَالِهَا ۖ وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏}(‏الأنعام‏:‏ 160‏)، { وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ } أي لست أعذب أحداً بذنب أحد، ولكن لا أعذب أحداً إلا بذنبه، بعد قيام الحجة عليه، ولا أعذب أحداً لم يذنب.

يتبع بالجزء الأخير من السورة إن شاء الله تعالى .

No comments:

Post a Comment