Thursday 9 April 2015

شرح أحاديث الأربعين النووية - الحديث الثالث والعشرون - الطهور شطر الإيمان والصلاة نور والصدقة برهان


  




الحديث الثالث والعشرون
عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله :
 (الطَّهورُ شطرُ الإيمانِ، والحمدُ للهِ تملأُ الميزانَ، وسبحان اللهِ والحمدُ للهِ تملآنِ ( أو تملأُ )  ما بين السماواتِ والأرضِ،   والصلاةُ نورٌ . والصدقةُ برهانٌ . والصبرُ ضياءٌ . والقرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليكَ . كل الناسِ يغدُو . فبايِعٌ نفسَه . فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها) رواه مسلم.

معاني الكلمات :
الطَّهور: بالضم الفعل وبالفتح الماء، والمراد به الوضوء ، سمي طهوراً لأنه يطهر الأعضاء .
شطر : نصف .
الإيمان : قيل :  المراد به الصلاة كما قال تعالى ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وقيل : المراد به الوضوء المعروف .
الحمد لله : الثناء على الله مع المحبة والتعظيم .
سبحان الله : التسبيح تنزيه الله عن النقائص والعيوب ومشابهة المخلوقين .
يغدو : يذهب باكراً .
معتقها : مخلصها .
موبقها : مهلكها .
الشرح:
ان من معجزات النبي في قومه ما أوتيه من الفصاحة والبلاغة في كلامه ؛ فعلى الرغم من كونه أميا لا يحسن القراءة و الكتابة ، إلا أنه أعجز الفصحاء ببلاغته ، ومن أبرز سمات هذا الإعجاز ما عُرف به من جوامع الكلم ؛ فإنه كان يرشد أمته ويوجهها بألفاظ قليلة ، تحمل في طيّاتها العديد من المعاني ، ولم تكن هذه الألفاظ متكلفة أو صعبة ، بل كانت سهلة ميسورة على جميع فئات الناس .

وفي مقصود قوله ( الطهور شطر الإيمان ) أقوال، منها : أن المقصود هو الإيمان الحقيقي يشمل طهارة الباطن والظاهر ، والوضوء يطهّر الظاهر، وهذا يدل على أن الوضوء شطر الإيمان ، واستشهدوا بالحديث الذي رواه مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي قال : ( من توضأ فأحسن الوضوء ، خرجت خطاياه من جسده ، حتى تخرج من تحت أظفاره ) ، وقالوا أيضا : الطهارة هي شطر الصلاة ؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بطهور ، ومستند هذا القول أن المقصود بقوله في الحديث  ( شطر الإيمان ) هو: الصلاة ، ونظير ذلك قوله تعالى : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } ( البقرة : 143 ) ، أي : صلاتكم ، ومما قالوه أيضا : أن الطهور شطر الإيمان ؛ لأن الطهارة تُكفر صغائر الذنوب ، بينما الإيمان يكفر الكبائر ، فصار شطر الإيمان بهذا الاعتبار ، ولعل من الملاحظ أن هذه الأقوال متقاربة ، وكلها تصب في ذات المعنى .

ثم يبين عظيم الأجر المترتب على هذه الكلمات الطيبات: التسبيح والتحميد لرب العباد، فالحمد لله تملأ الميزان يوم القيامة؛ وذلك لما اشتملت عليه من الثناء على الله سبحانه وتعالى والتبجيل له ؛ لذلك يستحب للعبد إذا دعا أن يقدم بين يديه الثناء الجميل ، مما يكون أدعى لقبول دعائه ، ثم إن الحمد والتسبيح يملآن ما بين السماء والأرض؛ والسرّ في ذلك : ما اجتمع فيهما من التنزيه للذات الإلهية ، والثناء عليها .

وفي فضل التسبيح والتحميد والذكر عموما ورد احاديث كثيرة عظيمة، منها قال (لأن أقولَ:  سبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ ولا إله إلا اللهُ واللهُ أكبرُ ، أحبُّ إليَّ مما طلعتْ عليه الشمسُ) رواه مسلم 

وقال (أحبُّ الكلامِ إلى اللهِ أربعٌ: سبحانَ اللهِ ، والحمدُ للهِ ، ولا إله إلا اللهُ ، واللهُ أكبرُ . لا يضرُّك بأيِّهنَّ بدأت.) مسلم .

وقال (لقيتُ إبراهيمَ ليلةَ أُسْرِيَ بي ، فقال: يا محمدُ أقريءْ أُمَّتَك مني السلامَ، وأَخْبِرْهُمْ أنَّ الجنةَ طيبةُ التربةِ، عذبةُ الماءِ، و أنها قيعانٌ، غراسُها سبحانَ اللهِ، و الحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا اللهُ، و اللهُ أكبرُ) رواه الترمذي

وأما الصلاة ، فقد وصفها رسول الله بـ( النور)، وإذا كان الناس يستعينون على الظلمة بالنور، كي تتضح لهم معالم الطريق، ويهتدوا إلى وجهتهم ، فذلك شأن الصلاة أيضا ، فهي نور الهداية الذي يلتمسه العبد ؛ حيث تمنع الصلاة صاحبها من المعاصي ، وتنهاه عن المنكر ، كما قال تعالى في كتابه : { وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } ( العنكبوت 45 )، ويقوى هذا النور حتى يُرى أثره على وجه صاحبه، قال الله تعالى : { سيماهم في وجوههم من أثر السجود  } ( الفتح  29 )، ولن تكون الصلاة نورا لصاحبها في الدنيا فحسب، بل يشمل ذلك الدار الآخرة ، كما قال : ( بشر المشائين في الظلم إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة  ) رواه الترمذي. فهي للحريصين عليها حتى في ظلمات الليل كانت لهم نور ، ووليس ذلك لمن لم يحافظ عليها ، عن عبد الله بن عمرو أن النبيِّ ذكر الصلاة يومًا فقال: "  من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً يوم القيامةِ ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاةً وكان يومَ القيامةِ مع قارون وفرعونَ وهامانَ وأبيِّ بنِ خلفٍ" ( حديث حسن رواه الشوكاني )

ثم ذكر  الصدقة : والصدقة من العبادات المالية، يزكّي بها المسلم ماله، فينمو،  ونفسه من بخلها وحرصها على المال، لاسيما وأن النفوس قد جبلت على محبّة المال والحرص على جمعه ، كما قال الله عزوجل في كتابه : { وتحبون المال حبا جما } ( الفجر  20 )، فلشدة حب النفوس للمال، كانت الصدقة إذا أخرجها العبد كانت دليل وبرهان على صحة إيمان صاحبها.
ولأن الصدقة أيضا نفعها متعد إلى الغير، إذ بها تُسدّ حاجة الفقير وتُشبع جوعته ، ويكفل بها اليتيم ، وغير ذلك من مظاهر تلاحم لبنات المجتمع المسلم ؛ صارت الصدقة العبادة من أحب الأعمال إلى الله تعالى ، وبرهانا ساطعا على إيمان صاحبها ، وصدق يقينه بربّه .
ثم وصف الصبر بالضياء: والضياء في حقيقته : النور الذي يصاحبه شيء من الحرارة والإحراق ، بعكس النور الذي يكون فيه الإشراق من غير هذه الحرارة ، ويوضّح هذا المعنى قوله تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } ( يونس5 )، فالشمس ضياء لأنها مشتملة على النور والحرارة والإحراق ، أما القمر فهو نور، فقوله : ( والصبر ضياء ) تلتمس منه أن الصبر لابد أن يصاحبه شيء من المعاناة والمشقة، وأن فيه نوعاً من المكابدة للصعاب ، فلا ينبغي للمسلم أن يعجزه ذلك أو يفتّ من عزيمته ، ولكن ليستعن بالله عزوجل ، ويحسن التوكل عليه ، حتى تمرّ المحنة ، وتنكشف الغمّة .
قال ابن رجب : ” ولما كان الصبر شاقاً على النفوس ، يحتاج إلى مجاهدة النفس ، وحبسها وكفها عما تهواه ، كان ضيــــاء ، فلا نجاح في الدنيا ولا فلاح في الآخــرة إلا بالصبر “ .
والصبر ثلاثة أنواع :
صبر على الطاعات،  وصبر عن معاصي الله،  وصبر على أقدار الله المؤلمـة. والصبر على الطاعات، وعن المحارم، أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة، فهذه لا يملك منها شيئا، ولا يستطيع لها تحويلا إلا بقدر الله وأمره ،فليس له إلا أن يصبر لو فقه.
ثم ينقلنا رسول الله إلى الحديث عن القرآن الكريم ، فقد أنزله الله عزوجل ليكون منهاجا للمؤمنين في حياتهم، يبيّن لهم معالم هذا الطريق، ويوضّح لهم أحكامه، ويأمرهم بكل فضيلة وينهاهم عن كل رذيلة.  فانقسم الناس نحوه إلى فريقين : فريق عمل بما فيه ، ووقف عند حدوده ، وتلاه حق تلاوته ، وجعله أنيسه في خلوته ، فذلك السعيد به يوم القيامة ، وفريق لم ينتفع به ، بل هجر قراءته ، وانحرف عن دربه ولم يعمل بأحكامه ، فإن هؤلاء يكون القرآن خصيما لهم يوم القيامة ، وبين هذا الفريق وذاك يقول الله عزوجل واصفا إياهما : { وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا } ( الإسراء 82 ).
ثم يتوّج النبي كلامه بوصية رائعة للناس:إذ الناس سائرون في خضم هذه الحياة ، يغدون ويروحون، يكدحون في تحقيق مآربهم وطموحاتهم ، ولكنهم يفترقون في أهدافهم التي يعملون ويكدحون من أجلها ، فمنهم من سعى إلى فكاك نفسه وعتقها من نار جهنم ، فباع نفسه لله تعالى ، ومنهم من جعل همّه الحصول على لذات الدنيا الفانية، وشهواتها الزائلة ، فأهلك نفسه وباعها بثمن بخس، قال الله عزوجل : { ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها } ( الشمس 7 – 10 )، فمن زكّى نفسه ، فقد باعها لله واشترى بها الجنة ، ومن دسّ نفسه في المعاصي ، فقد خاب وخسر ، وكتبت عليه الشقاوة في الدنيا والآخرة .

نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ، ويكرمنا بدخول جنته .


1 comment: