Monday, 27 March 2017

الأمثال في القرآن –المثل السادس عشر- سورة الرعد – مثلين في آية، ومثلين في معنى الزبد فوق الماء الجاري وفوق المعادن المنصهرة يذهب ويبقى الحق والخير

 


 



  مثلين في آية، ومثلين في معنى  الزبد فوق الماء الجاري وفوق المعادن المنصهرة يذهب ويبقى الحق والخير  

اليوم نحن بصدد آية واحدة اشتملت على مثلين ضربهما الله تعالى للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه
وأولهما هو مثلٌ مركب ، جاء بتشبيهين في مشهد تمثيلي متحرك، اشتمل في ضمن التشبيهين على أوصاف جزئية لكل منهما.
تعالوا نعي هذا المثل ، ونتعلمه ونعتبر به – ونتذكر قول ربنا جل وعلا: { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}، وقال بعض السلف: كنت إذا قرأتُ مثلاً من القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن اللّه تعالى يقول: { وما يعقلها إلا العالمون}، نسأل الله تعالى  يجعلنا من هؤلاء.
وآية المثل اليوم من سورة الرعد ، قال تعالى :ـ
( أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ) (الرعد 17 )
 ولنبدأ بتفسير الأية وبيان موضع التشبيه ، وبلاغته
تفسير الآية : من تفسير ابن كثير، والقرطبي والبغوي
المثل الأول.
فقال تعالى:{ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي مطراً، { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي بقدر صغرها وكبرها، فكل واد منها أخذ من الماء بحسبه، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء، وهذا صغير وسع بقدره.
 والأودية: جمع الوادي؛ وسمي واديا لخروجه وسيلانه؛ فالوادي على هذا اسم للماء السائل. ( القرطبي )
وفي قوله أن الماء نزل على أودية حملت منه بقدرها، هو إشارة إلى القلوب وتفاوتها في تقبل العلم والإنتفاع منه، فمنها ما يسع علماً كثيراً، ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها – وهذه جزئية في المثل جانبية، أو هي من أصله بحسب تقرير فيم يضرب المثل -
وقوله :ـ{ فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا } رابيا : أي طالعا عاليا مرتفعا فوق الماء.
 فالمعنى فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زبد عالٍ عليه من التراب في جانبي الوادي والأعواد والشوائب وكل هذا فإنه يضمحل ويعلق بجنبات الأودية، وتدفعه الرياح؛ فيفنى ولا يبقى..
والزبد : الخبث الذي يظهر على وجه الماء، وكذلك على وجه القدر إذا غلى ما فيه من الطعام يطبخ.

المثل الثاني معضد للمعنى الأول:

وقوله: { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}، هذا هو ما يسبك في النار إما أن يكون من ذهب أو فضة وهو ما يكون {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ} أي ليُجعل حلية ، أو أن يكون أو نحاساً أو حديداً أو رصاص فيُجعل متاعاً، فإنه أيضا يعلوه إذا صُهر في النار زبد منه من الشوائب التي تكون داخلة مع المعدن، { كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ }، هما مثلان ضربهما تعالى للحق والباطل ، ففي كلتا الحالتين- حالة الزيد فوق الماء السائل في الوادي ، وحالة الزبد فوق النار التي يصهر فيها المعادن لتنقيتها من الشوائب- فإن الماء في الحالة الأولى،  والمعادن الثمينة في الثانية هي الحق يبقى وينتفع به،  والزبد فوق الماء والمعادن المصهورة وهو الباطل يذهب جفاءً.
وأجفأت القدر إذا غلت حتى ينصب زبدها، وإذا جمد في أسفلها .
فكما أن الزبد لا يثبت مع الماء، ولا مع الذهب والفضة مما سبك في النار، بل يذهب ويضمحل، ولا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح، وكذلك خَبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء الصافي، والمعادن الثمينة من الحديد والنحاس والذهب والفضة يبقى فينتفع به، ولهذا قال: { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ }

فيم ضرب هذا المثل ، ما المقصود به ؟

أولاً: في الشك واليقي في الدين: قال ابن عباس: هذا مثل ضربه اللّه لما أنزل من الحق ومن الدين ، فاحتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكها، فأما الشك فلا ينفع معه العمل، بل يُحبط فلا ينفع فاعله ، وأما اليقين فينفع اللّه به أهله، وتُتقبل أعمالهم،  وهو قوله: { فأما الزبد} وهو الشك { فيذهب جفاء }، لكن حال الأصل { وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ } وهو اليقين والعمل به، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار، فكذلك يقبل اللّه اليقين ويترك الشك.
ثانيا: في العمل الصالح، والعمل السيءقال مجاهد : ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله، والعمل السيء يضمحل عن أهله، كما يذهب هذا الزبد، وكذلك الهدى والحق، جاءا من عند اللّه فمن عمل بالحق كان له وبقي كما بقي ما ينفع الناس في الأرض، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبثه ويخرج جيده فينتفع به، فكذلك يضمحل الباطل، ويبقى الحق .
فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال فيزيغ الباطل ويهلك، وينتفع أهل الحق بالحق.
ثالثاً وقيل : المراد بهذا التشبيه هي القلوب فهي الأودية التي تحمل الماء بقدرها:
وقيل: هذا مثل ضربه الله للقرآن وما يدخل منه القلوب؛ فشبه القرآن بالمطر لعموم خيره وبقاء نفعه، وشبه القلوب بالأودية، يدخل فيها من القرآن مثل ما يدخل في الأودية بحسب سعتها وضيقها. قال ابن عباس { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } قال : قرآنا، { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} قال : الأودية قلوب العباد. قال صاحب [سوق العروس] إن صح هذا التفسير فالمعنى فيه أن الله سبحانه مثل القرآن بالماء. ومثل القلوب بالأودية، ومثل المحكم بالصافي من الماء ، ومثل المتشابه بالزبد.
رابعاً: الزبد مخايل النفس وغوائل الشك في القرآن: فإنها تذهب ولا تبقى ولا تدوم.
كما أن ماء السيل يجري صافيا فيرفع عنه ما يجد في الوادي من الخبث، ومثله حلية الذهب والفضة فتبقى مثل الأحوال السنية. والأخلاق الزكية؛ التي بها جمال الرجال، وقوام صالح الأعمال، كما أن من الذهب والفضة زينة النساء. وبهما تقدّر قيمة الأشياء.
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه قال: (إنَّ مثلَ ما بعثَني اللهُ به عزَّ وجلَّ من الهدَى والعلمِ كمثلِ غيثٍ أصاب أرضًا،  فكانتْ منه طائفةٌ طيِّبةٌ،  قبِلتِ الماءَ فأنبتتِ الكَلأَ والعشبَ الكثيرَ، وكان منها أجادِبُ أمسكتِ الماءَ ، فنفعَ اللهُ بها النَّاسَ،  فشرِبوا منها وسقَوْا ورعَوْا، وأصاب طائفةٌ منها أخرَى إنَّما هي قيعانٌ لا تمسكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فذلك مثل من فقِهَ في دينِ اللهِ ، ونفعَهُ بما بعثَني اللهُ به ، فعلِمَ وعلَّمَ،  ومثلُ من لم يرفعْ بذلك رأسًا،  ولم يقبلْ هدَى اللهِ الَّذي أُرسلتُ به) ( صحيح مسلم )

والعبرة من هذين المثلين :ـ

- هذان مثلان ضربهما الله للحق في ثباته، والباطل في اضمحلاله، فالباطل وإن علا في بعض الأحوال فإنه يضمحل كاضمحلال الزبد والخبث ، فلا ييأس المؤمنون من علو الباطل بعض الوقت ، فإنه زائل لا محالة ، ولا يبقى إلا الحق
-كما أن الشك والريبة تحبط العمل، ولا يبقى وينفع إلا يقين ثابت في قلوب المؤمنين الصادقين.
-إن كل إنسان ينتفع بما أنزل الله تعالى من القرآن والدين على قدره وهمته ، والحق بين لكل واحد

اللهم طهر قلوبنا من الشك والرياء والنفاق ، وسوء الأخلاق


No comments:

Post a Comment