Saturday 19 August 2017

تفسير وربط للآيات- وبيان المتشابهات -سورة الصف ج 1 – كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون

 


 

سورة الصف ج 1 – كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون


نبذة عن السورة : 


السورة  مدنية عند الجمهور، ويشهد لذلك حديث عبد الله بن سَلاَم،  وعن ابن عباس ومجاهد وعطاء أنها مكية ودرج عليه في (الكشاف) والفخر. وفيها آيات الحث على القتال، وبيان ثواب المجاهدين فس سبيل الله، فهذا كله يدل على أنها مدنية.
وقال ابن عطية: الأصح أنها مدنية ويشبه أن يكون فيها المكيّ.
واختلف في هل نزلت متتابعة أو متفرقة متلاحقة. اهـ.
آياتها أَربع عشرة.
مجموع فواصل آياتها (صمن).
وعلى الصّاد آية واحدة: مرصوص.
ولها اسمان: اشتهرت باسم سورة الصّف؛ لقوله: ( يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا)، وهو صف القتال، فالتعريف باللام تعريف العهد. ويؤيد هذا ما روى ابن أبي حاتم سنده إلى عبد الله بن سَلاَم أن نَاسًا قالوا: «لو أرسلنا إلى رسول الله نسأله عن أحب الأعمال» إلى أن قال: «فدعا رسول الله أولئك النفَرَ حتى جمعهم ونزلتْ فيهم سورة سبح لله الصّف» الحديث، رواه ابن كثير، وبذلك عنونت في (صحيح البخاري) وفي (جامع الترمذي)، وكذلك كتب اسمها في المصاحِف وفي كتب التفسير
وسورة الحَوَاريّين:  لقوله تعالى: (قال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ) ذكره السيوطي في (الإِتقان)، ولعلّها أول سورة نزلت ذكر فيها لفظ الحواريين.
وقال الألوسي تسمّى (سورة عِيسى) ، قال ابن عاشور: ولم أقف على نسبته لقائل. وأصله للطبرسي فلعلّه أخذ من حديث رواه في فضلها عن أبيّ بن كعب بلفظ (سورة عيسى). وهو حديث موسوم بأنه موضوع، وإذا ثبت تسميتها (سورة عيسى) فلِما فيها من ذكره،  قوله تعالى: ( إِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّـهِ إِلَيْكُم) (الصف6 )، وقوله  سبحانه: ( .. كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ ) ( الصف 14) مرتين.


موضوعات السّورة:
    

1-عتاب الذين يقولون أَقوالًا لا يعملون بمقتضاها، وتشريف صفوف الغُزَاة والمصلِّين. 2-والتَّنبيهُ على جفاءِ بني إسرائيل وغلظتهم على نبيهم ( (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ )
3- وإِظهار دِين المصطفى على سائر الأَديان.
4-وبيان التجارة الرّابحة مع الرّحيم الرّحمن لأمة محمد ، والبشارة بنصر أَهل الإِيمان، على أَهل الكفر والخِذلان.
5- وغلبة من آمن بعيسى عليه السلام من بني إسرائيل على أَعدائهم ذوى العُدْوان، في قوله: )فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ(
والسّورة محكمة، خالية عن الناسخ والمنسوخ.

تفسير السورة :

قوله تعالى: ( سَبَّحَ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، قد مضى تعريف التسبيح ، وكون كل ما شيء يسبح بحمده تبارك وتعالى حقيقة، ومضي شرح أسماء الله الحسنى في هذه الآية ، ويبقى مسألة ؛ في سورة الحشر وسورة الصف قال تعالى: ( سَبَّحَ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) ، بينما في سورة الحديد قال تعالى : ( سَبَّحَ لِلَّـهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ، فما دلالة إعادة المعطوف عليه وهو أداة الصلة ( ما ) ، من عدمه؟
قال د. السامرائي:
توجد ظاهرة في آيات التسبيح في القرآن كله. إذا كرّر (ما) فالكلام بعدها يكون على أهل الأرض. وإذا لم يكرر (ما) فالكلام ليس على أهل الآرض وإنما على شيء آخر- عن ذاته تعالى وصفاته، او أهل السموات عموما-
في سورة الحشر قال تعالى (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)) بتكرار (ما) وجاء بعدها (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ...(2)) الآية، وهذا في الأرض. وكذلك في سورة الصفّ (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2)) وفي سورة الجمعة (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ .. الآية ٍ (2)) وفي سورة التغابن (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ .. الآية ٌ (2)).

بينما في آية أخرى في سورة الحديد (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)) قال تعالى بعدها (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)) وليس الكلام هنا عن أهل الأرض وإنما هو عن صفات الله تعالى الحسنى وأسمائه.
وكذلك في سورة النور (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42).
هذه قاعدة عامة في القرآن والتعبير القرآني مقصود قصداً فنياً. وهذا في مقام التسبيح ولم أتحقق من هذه القاعدة في غير مقام.
قال د. النعيمي : القاعدة هنا وهذه تنطبق حيثما وردت في كتاب الله عندما يقول (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) لا بد أن سيتحدث عمن في الأرض. لمّا يقول (مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) لا يتحدث عمن في الأرض،  لمّا يذكر التمييز يبدأ يتكلم عليهم لكن لما يكون التسبيح هو مجرد تمجيد لله سبحانه وتعالى فيضم السموات والأرض ممجدة لله سبحانه وتعالى بما فيهما.

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) إنكاراً على من يعد وعداً، أو يقول قولاً لا يفي به، وفي الصحيحين أن رسول اللّه قال: (آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا أحدث كذب، وإذا اؤتمن خان)، ولهذا أكد اللّه تعالى هذا الإنكار عليهم. وقد روى الإمام أحمدُ وأبو داود، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة  قال: دعتْني أُمي يومًا ورسولُ اللهِ قاعدٌ في بيتِنا فقالتْ: ها تعالَ أُعطيكَ فقال لها رسولُ اللهِ ﷺ: " وما أردتِ أنْ تعطيهِ ؟"  قالتْ : أُعطيهِ تمرًا، فقال لها رسولُ اللهِ : "أما إنك لو لمْ تُعطيهِ شيئًا كُتبتْ عليكِ كَذِبةٌ"( صححه الألباني في صحيح أبي داوود)

  أسباب النزول:

روى الواحديّ بسنده عن الصَّنْعاتي، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كَثِير، عن أبي سَلَمَة، عن عبد الله بن سلاَّم، قال:
قعدنا نفر من أصحاب رسول الله [فتذاكرنا] وقلنا: لو نعلم أيُّ الأعمال أحبُّ إلى الله تبارك وتعالى عَمِلْناه. فأنزل الله تعالى: ( سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ) إلى قوله: ( إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) إلى آخر السورة، فقرأها علينا رسول الله
وقال قتادة والضحّاك: نزلت توبيخاً لقوم كانوا يقولون: قتلنا، ضربنا، طعنا، وفعلنا؛ ولم يكونوا فعلوا ذلك، قال صهيب: كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر وأنكاهم فقتلته. فقال رجل يا نبي الله، إني قتلت فلانا، ففرح النبي بذلك، فقال عمر بن الخطاب وعبدالرحمن بن عوف: يا صهيب، أما أخبرت رسول الله أنك قتلت فلانا! فإن فلانا انتحل قتله؛ فأخبره فقال: ( أكذلك يا أبا يحيى ) ؟ قال نعم، والله يا رسول الله؛ فنزلت الآية في المنتحل. ( لم أجد له سند)

في اللغة :

مُنتَحِل: ( اسم ) فاعل من اِنْتَحَلَ
يقال شَاعِرٌ مُنْتَحِلٌ : مَنْ يُزَوِّرُ شِعْرَ غَيْرِهِ ، مُقَلِّدٌ
مُنْتَحِلُ شَخْصِيَّةٍ : مُتَشَبِّهٌ بِهَا عَلَى أَنَّهَا لَهُ، غَاصِبٌ لَهَا
انتحَلَ الشيء : ادَّعاه الشيء لنفسه وهو لغيره
اِنْتَحَلَ مَذْهَباً جَديداً : اِنْتَسَبَ إِلَيْهِ ، تَبَنَّاهُ ، اِتَّخَذَهُ . اِنْتَحَلَ تَبْريراً واهِياً لِيُبَرِّرَ سُلوكَهُ الْمَشِينَ.
 وقال ابن زيد: نزلت في المنافقين؛ كانوا يقولون للنبي وأصحابه: إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم وقاتلنا؛ فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا.  
وقال مجاهد: نزلت في نفر من الأنصار فيهم عبد اللّه بن رواحة قالوا في مجلس: لو نعلم أي الأعمال أحب إلى اللّه لعملنا به حتى نموت؟ فأنزل اللّه تعالى هذا فيهم، فقال عبد اللّه بن رواحة: لا أبرح حبيساً في سبيل اللّه أموت فقتل شهيداً. ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ) عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه : " ثلاثة يضحك اللّه إليهم: الرجل يقوم من الليل، والقوم إذا صفوا للصلاة، والقوم إذا صفوا للقتال" ( أخرجه ابن ماجه والإمام أحمد وضعفه الألباني)
  
هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي بها:

-وفي صحيح مسلم عن أبي موسى أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن؛ فقال: أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم، فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة بـ « براءة » فأنسيتها؛ غير أني قد حفظت منها « لو كان لابنِ آدمَ واديانِ من مالٍ لابْتغَى وادِيًا ثالثًا،  ولا يملأُ جوفَ ابنِ آدمَ إلا التُّرابُ،  ويتوبُ اللهُ على مَن تابَ »، وكنا نقرأ سورة كنا نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها؛ غير أني حفظت منها: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ(  فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة"  قال ابن العربي: وهذا كله ثابت في الدين. أما قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ( فثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة. وأما قوله: « شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة » فمعنى ثابت في الدين؛ فإن من التزم شيئا لزمه شرعا.

والملتزم على قسمين: أحدهما: النذر  

النذر نوعين: الأول: نذر تقرب مبتدأ:  كقول: لله علي صلاة وصوم وصدقة، ونحوه من القرب. فهذا يلزم الوفاء به إجماعا.
الثاني: نذر مباح : وهو نوعين:
أ‌-           ما علق بشرط رغبة: كأن يقول: إن قدم غائبي فعلي صدقة.
ب‌-      ماعلق بشرط رهبة: كأن يقول: إن كفاني الله شر كذا فعلي صدقة.
والنذر المباح اختلف العلماء فيه، فقال مالك وأبو حنيفة، يلزمه الوفاء به.
وقال الشافعي في أحد أقوال: إنه لا يلزمه الوفاء به. والأصح لعموم الآية أن الوفاء به أولى، لأنها بمطلقها تتناول ذم من قال ما لا يفعله ( كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ، على أي وجه كان القول أو النذر؛ مطلق أو مقيد بشرط، وسواء أن يكون التقييد للرغبة للعمل، أو الرهبة للكف عن العمل.
 فالقرب الشرعية مشقات وكلف وإن كانت قربات، وهذا تكلف التزام هذه القربة بمشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلم يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب.

إذا الزم نفسة بوعد لغيره:

 قال ابن العربي: فإن كان المقول منه وعدا فلا يخلو أن يكون منوطا بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار، أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا،  فهذا لازم إجماعا من الفقهاء.
وإن كان وعدا مجردا فقيل يلزم بتعلقه،  وتعلقوا بسبب الآية، وبخبر عبد الله بن رواحة السابق،  يقول القرطبي : والصحيح عندي: أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر.
قال مالك: فأما العدة – أي الوعد بالشيء- مثل أن يسأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم؛ ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى ذلك يلزمه. وقال ابن القاسم: إذا وعد الغرماء فقال: أشهدكم أني قد وهبت له من أن يؤدي إليكم؛ فإن هذا يلزمه. وأما أن يقول نعم أنا أفعل؛ ثم يبدو له، فلا أرى عليه ذلك.

قلت: أي لا يقضي عليه بذلك؛ فأما في مكارم الأخلاق وحسن المروءة فنعم. وقد أثنى الله تعالى على من صدق وعده ووفى بنذره فقال: ) وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا( [ البقرة: 177 ] ، وقال تعالى: ) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ ( [ مريم 54 ] ، فهذه الآيات تحض على الوفاء بالوعد، وتلزم به، والله أعلم.
قال النخعي: ثلاث آيات منعتني أن أقص على الناس- يقصد أن يعظ الناس-) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ( [ البقرة: 44 ] ، ) وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ  ( [ هود 88 ] ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ( . وخرج أبو نعيم الحافظ من حديث مالك بن دينار عن ثمامة أن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : " أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار كلما قرضت وفت " قلت: " من هؤلاء يا جبريل؟ "  قال: " هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون " . وعن بعض السلف أنه قيل له: حدثنا؛ فسكت. ثم قيل له: حدثنا. فقال: أترونني أن أقول ما لا أفعل فاستعجل مقت الله!.
قوله تعالى: (  لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ، على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله. أما في الماضي فيكون كذبا، وأما في المستقبل- وهو الوعد-  فيكون خُلفا، وكلاهما مذموم.
 وتأول سفيان بن عيينة قوله تعالى: (  لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ) أي لم تقولون ما ليس الأمر فيه إليكم، فلا تدرون هل تفعلون أو لا تفعلون. فعلى هذا يكون الكلام محمولا على ظاهره في إنكار القول (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ) قد يحتج به في وجوب الوفاء في اللجاج والغضب .

في اللغة:  

 مقَتَ يمقُت ، مَقْتًا ، فهو ماقت ، والمفعول مَمْقوتٌ
مَقَتَ الرَّجُلَ : أَبْغَضَهُ أَشَدَّ البُغْضِ، ما أَمقَتَهُ عندى : تخبر أَنه  مَمْفوت عندك
وما أَمقتنى له : تخبر أَنك شديد المقت له
مُقِت الشّخصُ إلى النَّاس : صار بغيضًا أي : مكروهًا عندهم،  داءٌ مقيت
والمقت والمقاتة مصدران؛ يقال: رجل مقيت وممقوت إذا لم يحبه الناس.
وفي سورة غافر، قوله تعالى: ( لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) بغض الله للكفار يوم القيامة أكبر من بغضهم أنفسهم، دل على أنهم يومها يبغضون أنفسهم لكفرهم.

قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) أي يصفون صفا: والمفعول مضمر؛ أي يصفون أنفسهم صفا. ( كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ)

معنى مرصوص:

قال الفراء: مرصوص بالرصاص. وقال المبرد: هو من رصصت البناء إذا لاءمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة، وقيل: هو من الرصيص وهو انضمام الأسنان بعضها إلى بعض، والتراص التلاصق؛ ومنه وتراصوا في الصف.

 ومعنى الآية: إن الله يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء. وقال سعيد بن جبير: هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم.
وقد استدل بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة، المهدوي: وذلك غير مستقيم، لما جاء في فضل الفارس في الأجر والغنيمة. ولا يخرج الفرسان من معنى الآية؛ لأن معناه الثبات.
لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان، أو في رسالة يرسلها الإمام، أو في منفعة تظهر في المقام، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها.
قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) لما ذكر أمر الجهاد،  بين أن موسى وعيسى أمرا بالتوحيد وجاهدا في سبيل الله؛ وحل العقاب بمن خالفهما؛ أي واذكر لقومك يا محمد هذه القصة، ( يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) وذلك حين رموه بالأدرة؛ كما قال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا)  [ الأحزاب69 ]
ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون: إنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور، ومن الأذى قولهم: ( قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَـٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) [ الأعراف138]، وقولهم: (إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ) [ المائدة 24 ]، وقولهم: إنك قتلت هارون، وغير ذلك .
وقوله تعالى: ( وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ) والرسول يحترم ويعظم، ودخلت ) َقَدْ( على ) تَعْلَمُون ( للتأكيد؛ كأنه قال: وتعلمون علما يقينا لا شبهة لكم فيه.، وفي هذا تسلية لرسول الله فيما أصاب من الكفار من قومه وغيرهم، وأمر له بالصبر؛ ولهذا قال: " رحمةُ اللهِ على موسى، لقد أوذِيَ بأكثرَ من هذا فصبرَ" ( البخاري)، وفيه نهي للمؤمنين أن ينالوا من النبي أو يُوَصّلوا إليه أذى، قال تعالى في سورة الأحزاب : ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّـهِ )(الأحزاب 53)
( فَلَمَّا زَاغُوا ) أي مالوا عن الحق (أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّـهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) أي أمالها عن الهدى. وقيل: ( فَلَمَّا زَاغُوا ) عن الطاعة ( أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ ) عن الهداية. وقيل: ( فَلَمَّا زَاغُوا ) عن الإيمان ( أَزَاغَ اللَّـهُ قُلُوبَهُمْ )عن الثواب. وقيل: أي لما تركوا ما أمروا به من احترام الرسول وطاعة الرب، خلق الله الضلالة في قلوبهم عقوبة لهم على فعلهم فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان، كما قال تعالى: ( وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ( الأنعام 110) وقال: ( وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) ( النساء 115)  ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية: ( وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) .

1 comment: