Saturday 19 August 2017

تفسير وربط للآيات- وبيان المتشابهات -سورة الصف ج 3 – التجارة مع الله – كونوا أنصار الله

 


  



سورة الصف ج 3 – التجارة مع الله – كونوا أنصار الله


وقال تعالى: ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم)   
في سبب نزول هذه الآية، ورد عن ابن عباس أنه قال: قال عبدالله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه؛ فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي: قال المؤمنون يا رسول الله، لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها؛ فنزلت: ( هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم ) (الصف 10 )، فمكثوا زمانا يقولون: لو نعلم ما هي لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين؛ فدلهم الله تعالى عليها بقول: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ) (الصف 11) الآية. فابتلوا يوم أحد ففروا؛ فنزلت تعيرهم بترك الوفاء. وقال محمد بن كعب: لما أخبر الله تعالى نبيه بثواب شهداء بدر قالت الصحابة: اللهم أشهد! لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا؛ ففروا يوم أحد فعيرهم الله بذلك. وقال قتادة والضحاك: نزلت في قوم كانوا يقولون: نحن جاهدنا وأبلينا ولم يفعلوا.
قال القرطبي: فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى ) ( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم ( قال مقاتل : نزلت في عثمان بن مظعون؛ وذلك أنه قال لرسول الله : لو أذنت لي فطلقت خولة، وترهبت واختصيت وحرمت اللحم، ولا أنام بليل أبدا، ولا أفطر بنهار أبدا! فقال رسول الله : "إن من سنتي النكاح ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله وخصاء أمتي الصوم ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم. ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس منى". فقال عثمان : والله لوددت يا نبي الله أي التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها؛ فنزلت الآية.
وقوله ( هَلْ أَدُلّكُمْ) أي سأدلكم، والتجارة الجهاد؛ وقد قال الله تعالى ( إِنَّ اللَّـهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ ) [التوبة 111] الآية. وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل: لأهل الكتاب.
 الثانية: قوله تعالى ( تُنْجِيكُمْ) أي تخلصكم ( مِنْ عَذَاب أَلِيم ( أي مؤلم. وقراءة العامة ( تُنْجِيكُمْ) بإسكان النون من الإنجاء، والنجاة، وقرأ الحسن وابن عامر وأبو حيوة ( تنجِّيكم) مشددا من التنجية، وهي الطهارة، والمعنى الأول أظهر ويدل عليه بقية جواب السؤال: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ) ، وجواب الشرط الآتي.
وكان السؤال( هَلْ أَدُلّكُمْ)  للتحفيز، والتشويق ثم جاءهم بالجواب، وفسَّر اللّه تعالى هذه التجارة العظيمة التي لا تبور، التي فسرها بقوله تعالى: (تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ...الآية )
الثالثة: فقال (تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ )  ذكر الأموال أولا لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق والتجارات الدنيوية- وهذه لفته جميلة-

ملاحظة ومتشابه:

قد يقدم الله تبارك وتعالى النية على الوسيلة ، فيقدم القصد والنية ( فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) ، على وسيلة الجهاد ( بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ )  كما في هذه الآية ( وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ )، أو يقدم الوسيلة على النية كما قال : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) ( الأنفال 72)، ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ )( الحجرات15) ، وهنا الكلام في الفعل الماضي وقد فعلوه، فقدم فعلهم وهو الأيمان والجهاد ، ثم بين أن قصدهم (فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) الذي هو سبب استحقاقهم للثناء.
وقال عن النبي والذين معه :( لَـٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَـٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ) ( التوبة89)، ولم يقل ( في سبيل الله) لأن نيته وصحابته لا مجال للشك فيها، فلا حاجة لذكرها.
  وقال عن المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد مع رسول الله : ( وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَقَالُوا لَا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ ۗ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ۚ) ( التوبة 81)، والمنافقين قد يحبوا الإنفاق فقدمه،  ولكن يكرهوا أن يكون في سبيل الله فأخره لأنه ليس مبتغاهم ، وولو انفقوا لا ينفقون في سبيل الله، بينما في الثناء على المهاجرين قال: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّـهِ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )( التوبة 20)، وهؤلاء يمدحهم الله تعالى بهجرتهم وجهادهم، فيقدم قصدهم ونيتهم أنها كانت في سبيل الله.

وفي تقديم القصد والنية(وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ) فائدة أخرى ومعنى زائد: وهو تعيم معنى الجهاد، ليشمل كل أنواع الجهاد، قال ابن القيم : " فالجهاد أربع مراتِب : جهاد النفس ، وجهاد الشياطين ، وجهاد الكفار ، وجهاد المنافقين .
وجهاد النفس بأن يُجَاهِدَهَا على تَعَلُّمِ الهُدَى ، والعَمَلِ به بَعْدَ عِلْمِهِ ، والدعوة إليه ، والصبر على مَشَاقّ الدّعوة إلى الله ، وجهاد الشيطان : جهاده على دفع ما يُلْقِي إلى العبد من الشُبُهَاتِ والشّهَوَات ، والشكُوكِ القَادِحة في الإيمان ، وجهاده على ما يُلْقِي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات ، وجهاد الكفار والمنافقين  بالقلب واللسان والمال والنفس ، وجهاد الكفار أخَصُّ باليَدِ وجهاد المنافقين أخَصُّ باللِّسان ... قال  : وأكْمَلُ الخَلْقِ من كَمَّلَ مراتِبَ الجِهَاد كلّها ، والخَلْقُ مُتَفَاوِتُونَ في منازِلِهِمْ عند الله ، تفاوتهم في مراتب الجهاد ... " ا.هـ. زاد المعاد
 ومن أنواع الجهاد التي عظمها رسول الله ، نورد منها هنا ما ثبت عنه :
 " سيكونُ أُمَراءُ مِن بعدي يقولونَ ما لا يفعَلونَ ويفعَلونَ ما لا يُؤمَرونَ فمَن جاهَدهم بيدِه فهو مُؤمِنٌ ومَن جاهَدهم بلسانِه فهو مُؤمِنٌ ومَن جاهَدهم بقلبِه فهو مُؤمِنٌ لا إيمانَ بعدَه" ( صحيح ابن حبان)
وقال : "أفضلَ الجِهادِ كلمةُ حقٍّ عندَ سلطانٍ جائرٍ" ( ابن الملقن في شرح البخاري- إسناده حسن )
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: " جاءَ رجلٌ إلى نبيِّ اللهِ فاستأذَنَهُ في الجهادِ فقالَ: أحيٌّ والداكَ ؟ قال: نعَم قال: ففيهِما فجاهِدْ" ، وقال: أقبلَ رجلٌ إلى رسولِ اللهِ فقالَ: أبايِعُكَ على الهجرَةِ و الجهادِ أبتَغي الأجرَ منَ اللهِ قال: فَهلْ مِن والدَيكَ أحدٌ حيٌّ ؟ قالَ: نعَم بل كِلاهُما حىٌّ قال: أفتَبتَغي الأجرَ منَ اللهِ ؟ قالَ: نعَم قال: فارجِعْ إلى والدَيكَ فأحسِنْ صُحبَتَهُما" ( رواه في غاية المرام – وصححه الألباني )
وفي جهاد المرأة ، قالت عائشة : يا رسولَ اللهِ، نرى الجهادَ أفضلَ العملِ، أفلا نجاهِدُ ؟ قال : لا، لكنَّ أفضلَ الجهادِ حجٌّ مبرورٌ .( رواه البخاري)
وقد سمى الله تعالى بذل المال والنفس تجارة مع الله ، ويناسب هنا أن تذكر قصة هجرة صهيب رضي الله عنه : قال ابن عباس رضي الله عنهما وغيره: أن صهيباً أسلم بمكة ، ولما أراد الهجرة، منعه الناس أن يهاجر بماله، وكان ذا مالٍ يُتاجر به، فلما اعترضوه عرَض عليهم عرضًا، وقال لهم رضي الله عنه وأرضاه: "إنكم لتعلمون أني من أشد الناس إصابةً في الرمي والسهام، فإن شئتم أن أُخلي بينكم وبين مالي، وتُخلوا بيني وبين رسول الله ، فأهاجر إليه، وإما أن أنثر كِنانتي وأرميكم سهمًا من وراء سهم، ثم أبارزكم بالسيف"، فخلوا بينه وبين الهجرة، وأخذوا كل ماله الذي استبقاه لوجه الله جل وعلا، فلما أقبل على المدينة، قابله الصحابة منهم أبو بكرٍ رضي الله عنه وقال له : "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى"، وقال فيه نزلت الآية: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ )( سورة البقرة 287)
وقال : "كلُ الناسِ يَغدو فبائعٌ نَفسَهُ فمُعتِقَها، أو موبِقَها"؛ رواه الإمام مسلم.

عودة للتفسير:
قوله تعالى:( ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿١١﴾
أي هذه الأفعال؛ من الإيمان والجهاد بالأموال والأنفس ( خَيْرٌ لَّكُمْ) خير لكم من أموالكم وأنفسكم، خير لكم من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها، ( إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) ، وقوله (تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ) في معنى آمنوا، وفي قراءة عبدالله ( آمنوا بالله)- وهذه قراءة تفسيرية لتبين أن الإستفهام بمعنى الأمر-   ولذلك جاء ( يَغْفِرْ لَكُمْ) مجزوما على أنه جواب الأمر، أو الإستفهام، وذلك أن يكون (تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ) عطف بيان على قوله ( هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم (كأن التجارة لم يُدرَ ما هي؛ فبينت بالإيمان والجهاد؛ فهما في المعنى. فكأنه قال : هل تؤمنون بالله وتجاهدون يغفر لكم؟
الرابعة: قوله تعالى ( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ) ولم يقل من ذنوبكم للتبيعيض ، بل قال ( ذُنُوبَكُمْ )، فثواب الإيمان والجهاد هو غفران الذنوب جميعاً.وأيضا: ( وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، ثم قال وفي الجنات ( وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ) فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٢﴾)
وقوله جل في علاه: ( وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ) خرج أبو الحسين الآجري عن الحسن قال : سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير هذه الآية ( وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً ) فقالا : على الخبير سقطت، سألنا رسول الله عنها فقال: (قصر من لؤلؤة في الجنة فيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطي الله تبارك وتعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله) "( رواه المنذري، والهيثمي، والدمياطي، قال الألباني عنه أنه منكر جدا، وهو في الأحاديث الموضوعة لابن الجوزي – ذكرته  هنا لنكارته ، وانتشاره بين الناس يهاجمون به الدين)
ثم قال جل وعلا: ( فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ) أي جنات إقامة.

في معجم المعاني:

عَدَن: جنَّات عدْن جنّات أو بساتين خلد وإقامة ، لا يظعَنُ منها أحدٌ.
من قول العرب: " عَدَن فلان بأرض كذا "،  إذا أقام بها وخلد بها، ومنه " المَعْدِن " إذ يكون ثابتا في أصل الأرض، ويقال: " هو في معدِن صدق "، يعني به: أنه في أصلٍ ثابت، ومنه قول ابن عباس: (جنات عدن)، قال: " معدن الرجل "، الذي يكون فيه.
وجَنَّةُ عَدْنٍ : الْمَوْضعُ الَّذِي أسكن الله فِيهِ آدَم ، وَهُوَ مِنْ جِنَانِ الخُلْد، في سورة طه قال تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ)( 76)
ووصفها الله تعالى بأنها ( طيبة) أي: ومنازل يسكنونها طيبةً: أي حسنة البناء طيّبة القرار.
ثم قال تعالى عن ذلك: ( ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) أي السعادة الدائمة الكبيرة. وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.
متشابهات:
في الآية السابقة، لتثبيت حفظها وبيان ميزتها على غيرها، قال الناطم:
أربعة تــحذفها في الصــف
*** (من ) (خالدين) (الواو) ( هو) تكفــي .
ومعنى البيت
أنك عندما تبدأ القراءة من قوله تعالى (يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلّكُمْ عَلَى تِجَارَة تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَاب أَلِيم)  تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ... الآية)
ثم تقول بعدها ( يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ولا تقل من ذنوبكم يجب حذف ( من ).
ثم تتابع التلاوة فتقول ( َيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) ولاتقل (خالدين)
ثم تتابع فتقول (وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ولاتقل وذلك بالواو بل يجب حف الواو هنا .
ثم تتابع التلاوة فتقول ( الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ولا تقل هو الفوز العظيم، فلم ترد هو هنا.

وقوله تعالى:  ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّـهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ ۖ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ ۖ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)

أكد الله تعالى على أمر الجهاد وخص المؤمنين بالنداء له وحثهم عليه، وقوله: ( كُونُوا أَنصَارَ اللَّـهِ)  أي كونوا حواريي نبيكم ليظهركم الله على من خالفكم، كما أظهر حواريي عيسى على من خالفهم.

 في اللغة :

الحَوَاريُّ : مُبَيَّضُ الثياب
الحَوَاريُّ : الذي أخلص واختير ونُقِّيَ من كلِّ عيب
الحَوَاريُّ : صاحب وناصر ومؤيّد ، فقد روى الإمام أحمد في المسند وغيره أن رسول الله قال: "الزبير ابن عمتي وحواري من أمتي" ( قال الأرناؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين)، وقال  إنَّ لكلِّ نبيٍّ حواريًّا وحواريِّي الزُّبيرُ " ( رواه علي بن أبي طالب – حلية الأولياء- صحيح ثابت)
ومعناه: ناصري وخاصتي من أصحابي. لأنه من أقربهم إليه وأخلصهم له، فهو من السابقين الأولين والعشرة المبشرين.
الحواريُّون: أنصار عيسى عليه السَّلام
وقوله : (كُونُوا أَنصَارَ اللَّـهِ )؛ معناه كونوا أنصارا لدين الله. ثم قيل: في الكلام إضمار؛ أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله، وقيل: هو ابتداء خطاب من الله؛ أي كونوا أنصارا كما فعل أصحاب عيسى عليه السلام،  فكانوا بحمد الله أنصارا وكانوا حواريين. قال بان كثير: آمر الله عباده المؤمنين، أن يكونوا أنصار اللّه في جميع أحوالهم، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم، وأن يستجيبوا للّه ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى عليه السلام.
والحواريون هم خواص الرسل ومناصريهم،  قال معمر: كان ذلك بحمد الله؛ أي نصروه، وقال: وهم سبعون رجلا، وهم الذين بايعوه ليلة العقبة. قال ابن كثير: وهكذا كان رسول اللّه يقول في أيام الحج: " مَن يُؤويني من ينصُرني حتى أُبَلِّغَ رسالةَ ربي وله الجنةُ، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي" ( صحيح الإسناد على شرط مسلم )، حتى قيض اللّه عزَّ وجلَّ له الأوس والخزرج من أهل المدينة، فبايعوه ووازروه وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه، وفوا له بما عاهدوا اللّه عليه، ولهذا سماهم اللّه ورسوله الأنصار وصار ذلك علماً عليهم رضي اللّه عنهم وأرضاهم.
 وقيل: هم من قريش. وسماهم قتادة: أبا بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة - واسمه عامر - وعثمان بن مظعون وحمزة بن عبدالمطلب؛ ولم يذكر سعيدا فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

قوله تعالى: ( كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ) وحواري عيسى عليه السلام؛ هم أصفياؤه ، وهم اثنا عشر رجلا، وسيأتي ذكرهم وأسماءهم، وهم أول من آمن به من بني إسرائيل، قال ابن عباس. وقال مقاتل: قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القصارون فاسألهم النصرة، فأتاهم عيسى وقال: من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نحن ننصرك. فصدقوه ونصروه. ( مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ)، وقوله ( إلى الله ) :أي من أنصاري مع الله.
دليله في اللغة أن العرب تقول:  الذود إلى الذود إبل، أي مع الذود. – الذود اليافع من الإبل.
وقيل: أي من أنصاري فيما يقرب إلى الله. ( قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ )أي نحن نكون معك في الدعوة إلى الله.

لفتة طيبة وإعجاز لغوي:

لما سأل عيسى عليه السلام الحواريون أن ينصروه قال: ( مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّـهِ)، أي من ينصرني في الدعوة لدين الله، وفي التقرب إلى الله، ففهم الحواريون أن المراد والغاية هي نصره الله بنصرة دينه، فكان جوابهم أشمل حيث قالوا:  (نَحْنُ أَنصَارُ اللَّـهِ )، فلو قالوا ( نحن أنصارك) لانتهت نصرتهم برفعه عليه السلام ، ولكنهم أكدوا على أنهم ينصرون دين الله مطلقا، فكان أن أيدهم الله على عدوهم وأظهرهم عليه.

( فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ )، والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به وضلت طائفة، فخرجت عما جاءهم به، وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم، وهم اليهود عليهم لعائن اللّه المتتابعة إلى يوم القيامة، وغلت فيه طائفة ممن اتبعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه اللّه من النبوة وافترقوا فرقاً وشيعاً، فمن قائل منهم : إنه ابن اللّه، وقائل: إنه ثالت ثلاثة الأب والابن والروح القدس ومن قائل: إنه اللّه.
( فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)، فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم الذين كفروا بعيسى نبياً، ( فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)، أي غالبين. قال ابن عباس: أيد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار،  وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى، وقيل أيدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين، من قال كان الله فارتفع، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه؛ لأن عيسى ابن مريم لم يقاتل أحدا ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال.
وقال زيد بن علي وقتادة: ( فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)، غالبين بالحجة والبرهان؛ لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل!

حواري عيسى عليه السلام:

قيل:هم رسله عليه السلام إلى الأمم؛  قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحواريين والأتباع:  بطرس وبولس إلى رومية، واندراييس ومشى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس، وتوماس إلى أرض بابل من أرض المشرق. وفيلبس إلى قرطاجنة وهي أفريقية، ويحنس إلى دقسوس قرية أهل الكهف، ويعقوبس إلى أورشليم وهي بيت المقدس، وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز، وسيمن إلى أرض البربر، ويهودا وبردس إلى الإسكندرية وما حولها.
 فأيد الله الرسل بالحجة، ولم يؤمروا بالقتال، ( فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ)،أي عالين؛ من قولك: ظهرت على الحائط أي علوت عليه.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
 
تم بحمد الله تفسير سورة الصف

No comments:

Post a Comment