Friday 10 June 2022

تفسير سورة البقرة ح16 النسخ في القرآن

    
    

          تفسير سورة البقرة- ح ١٦

كيف يواري اليهود بالكلام ليُفهم عكس ما يقصدون

النسخ في القرآن؛ ما هو ، وما أنواعه

     

 

محور مواضيع هذا الجزء:

-الاستمرار في تعداد مثالب اليهود وما هم عليه من الكذب والبهتان، ولا منتهى له.

-بيان نفاق اليهود، يقولون يقولون كلامًا ظاهره الخير، ويبطنون عكسه.

-من صفات اليهود التي أكدها القرآن أنهم لا يحبون الخير لأحد من غيرهم من البشر.

- اغتر اليهود بأنفسهم أن قال الله عنهم في زمانهم أنه فضلهم على العاليمن -عالمين زمانهم- فنقموا على العرب أن يخرج خاتم الأنبياء منهم، ووآثروا الكفر به وعذاب الآخرة، على الإيمان والرضوان.

- النسخ في القرآن : هل يجوز، وهل هو من باب البداءة؟ ما أنواعه ؟

- ذم الله في القرآن كثرة السؤال عن أشياء لم ينزل فيها حكما.

 

التفسير:

 

قوله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١٠٥)

نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم، وذلك أن اليهود كانوا يُعَانُون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص- عليهم لعائن الله- فإذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون:راعنا. يورون بالرعونة، أي راعنًا نكلم، كما قال تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ) [ النساء٤٦)

 وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم، بأنهم كانوا إذا سَلَّموا إنما يقولون: السامُ عليكم. والسام هو: الموت. ولهذا أمرنا أن نرد عليهم بـ «وعليكم » . وإنما يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا.

وقال الإمام أحمد: ، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال:قال رسول الله ﷺ:" بُعثتُ بين يديْ الساعةِ بالسيفِ حتى يُعبدَ اللهُ وحدَه لا شريكً له وجعلَ رِزقي تحتَ ظلِ رُمْحي، وجعلَ الذلةَ والصغارَ على من خالفَ أمري ومن تشبه بقومٍ فهو منهم " .( زاد المعاد – حديث حسن)

ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد، على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم، ولباسهم وأعيادهم، وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نُقَرر عليها.

وقال ابن أبي حاتم: - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود، فقال: (اعهد إلي. فقال:إذا سمعت الله يقول ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فأرعها سَمْعك، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه .)

وقال الأعمش، عن خيثمة، قال:ما تقرؤون في القرآن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فإنه في التوراة: " يا أيها المساكين " .

عن ابن عباس: ( راعنا ) أي: أرعنا سمعك.

وقال الضحاك، عن ابن عباس: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا ) قال:كانوا يقولون للنبي ﷺ أرعنا سمعك. وإنما ( راعنا ) كقولك:عاطنا.

وقال مجاهد: ( لا تَقُولُوا رَاعِنَا ) لا تقولوا خلافا. وفي رواية: لا تقولوا: اسمع منا ونسمع منك.

وقال عطاء: (لا تَقُولُوا رَاعِنَا) كانت لُغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها.

وقال الحسن: (لا تَقُولُوا رَاعِنَا ) قال: الراعن من القول السخري منه. نهاهم الله أن يسخروا من قول محمد ﷺ، وما يدعوهم إليه من الإسلام. وكذا روي عن ابن جُرَيج أنه قال مثله.

وقال أبو صخر: (لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا) قال:كان رسول اللهﷺ، إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين، فيقول: أرعنا سمعك. فأعظم الله رسوله ﷺ أن يقال ذلك له .

قال ابن عباس : كان المسلمون يقولون للنبي ﷺ : راعنا. على جهة الطلب والرغبة - من المراعاة - أي التفت إلينا، وكان هذا بلسان اليهود سبا، أي اسمع لا سمعت، فاغتنموها وقالوا : كنا نسبه سرا فالآن نسبه جهرا، فكانوا يخاطبون بها النبي ﷺ ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن معاذ وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود : عليكم لعنة الله! لئن سمعتها من رجل منكم يقولها للنبي ﷺ لأضربن عنقه، فقالوا : أولستم تقولونها؟ فنزلت الآية تنهى المسلمين عن قولها لئلا تقتدي بها اليهود في اللفظ وتقصد المعنى الفاسد فيه.

فائدة من هذه الآية: في هذه الآية دليلان : أحدهما:  على تجنب الألفاظ المحتملة التي فيها التعريض للتنقيص والغض، ويخرج من هذا فهم القذف بالتعريض، وذلك يوجب الحد عند الإمام مالك، خلافا لأبي حنيفة والشافعي وأصحابهما حين قالوا : التعريض محتمل للقذف وغيره، والحد مما يسقط بالشبهة.

أما الثاني: التمسك بسد الذرائع وحمايتها وهو مذهب مالك وأصحابه وأحمد بن حنبل في رواية عنه، وقد دل على هذا الأصل الكتاب والسنة.

والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع. أما الكتاب فهذه الآية، ووجه التمسك بها أن اليهود كانوا يقولون ذلك وهي سب بلغتهم، فعلم الله ذلك منهم منع من إطلاق ذلك اللفظ، لأنه ذريعة للسب، وقوله تعالى (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ) (الأنعام ١٠٨‏)

فنهى الله المؤمنين عن قول: راعنا؛ لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولها لنبيه ﷺ، نظير الذي ذكر عن النبي ﷺ قال: « لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا:الحَبَلَة. ولا تقولوا:عبدي، ولكن قولوا:فتاي » . ومنها في السنة النبوية الشريف: وروى عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : (إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ، وعِرْضِهِ، ومَنْ وقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ، أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وهِيَ الْقَلْبُ) (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.)، فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وذلك سدا للذريعة. وقال ﷺ : (لا يبلغُ العبدُ أن يكونَ من المُتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس).( رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ).

وقال ﷺ : (مِنَ الكَبائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ والِدَيْهِ قالوا: يا رَسولَ اللهِ، وهلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ يَسُبُّ أبا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أباهُ، ويَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ.).( رواه مسلم)، فجعل التعرض لسب الآباء سب آباء الساب.

قوله تعالى: (لا تَقُولُوا رَاعِنَا) نهي يقتضي التحريم، على ما تقدم. وقرأ الحسن (راعنًا) منونة. أي هجرا من القول، وهو مصدر ونصبه بالقول، أي لا تقولوا رعونة.

 وجيش أرعن أي متفرق. وكذا رجل أرعن، أي متفرق الحجج وليس عقله مجتمعا، عن النحاس. وقال ابن فارس : رعن الرجل يرعن رعنا فهو أرعن، أي أهوج. والمرأة رعناء. وسميت البصرة رعناء لأنها تشبه برعن الجبل.

قوله تعالى (وَقُولُوا انْظُرْنَا)  أمروا أن يخاطبوه ﷺ بالإجلال، والمعنى : أقبل علينا وانظر إلينا، وقرأ الأعمش وغيره (أنظِرنا)  بقطع الألف وكسر الظاء، بمعنى: أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك.

قوله تعالى(وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لما نهى وأمر جل وعز، حض على السمع الذي في ضمنه الطاعة واعلم أن لمن خالف أمره فكفر عذابا أليما.

وقوله تعالى: ( مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنـزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، ( مَا يَوَدُّ)  أي ما يتمنى، بين بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين،  الذين حذر تعالى من مشابهتهم للمؤمنين؛ ليقطع المودة بينهم وبينهم. وينبِّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين من الشرع التام الكامل، الذي شرعه لنبيهم محمد ﷺ، حيث يقول تعالى: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ)

 قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ)  أي بنبوته، خص بها محمدا ﷺ. وقال قوم : الرحمة القرآن. وقيل : الرحمة في هذه الآية عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديما وحديثا.
 يقال :
رحم يرحم إذا رق. والرحم والمرحمة والرحمة بمعنى واحد.

ورحمة الله لعباده : إنعامه عليهم وعفوه لهم. ولا تحصى،  قوله تعالى: ( وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)،( ذُو الْفَضْلِ ) بمعنى صاحب الفضل.

وقوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

 

النسخ في كلام العرب على وجهين‏: ‏الأول: النقل، كنقل كتاب من آخر‏.‏ وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا، أعني من اللوح المحفوظ وإنزاله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وهذا لا مدخل له في هذه الآية، ومنه قوله تعالى‏ ( إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)  (الجاثية٢٩)‏ ‏ أي نأمر بنسخه وإثباته‏.‏

المعنى الثاني‏:‏ الإبطال والإزالة، وهو المقصود هنا، وهو منقسم في اللغة على ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه، ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله تعالى‏ (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا )‏‏.‏

وفي صحيح مسلم‏:‏(وإنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إلَّا تَنَاسَخَتْ، حتَّى يَكونَ آخِرُ عَاقِبَتِهَا مُلْكًا، فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الأُمَرَاءَ بَعْدَنَا.)‏ أي تحولت من حال إلى حال، يعني أمر الأمة‏.‏

قال ابن فارس‏:‏ النسخ نسخ الكتاب، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره، كالآية تنزل بأمر ثم ينسخ بأخرى‏.‏ وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه، يقال‏:‏ انتسخت الشمس الظل، والشيب الشباب‏، وكذلك تناسخ الأزمنة والقرون‏.

الثاني: إزالة الشيء دون أن يقوم آخر مقامه، كقولهم‏:‏ نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى قوله تعالى ‏ (فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ۗ)  ( الحج٥٢)، أي يزيله فلا يتلى ولا يثبت في المصحف بدله‏.‏ وزعم أبو عبيد أن هذا النسخ الثاني قد كان ينزل على النبي ﷺ السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب‏.‏ فعن أبو أمامة بن سهل بن حنيف: أن رجلا قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها، فغدوا على رسول الله ﷺ، فقال أحدهم‏:‏ قمت الليلة يا رسول الله لأقرأ سورة من القرآن فلم أقدر على شيء منها، فقام الآخر فقال‏:‏ وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقام الآخر فقال‏:‏ وأنا والله كذلك يا رسول الله، فقال رسول الله ﷺ‏:‏ ‏(‏ نسخت البارحة فنسخت من صدوركم ومن كل شيء كانت فيه.‏)‏‏. (فتاوي ابن تيمية)

الرابعة‏:‏ أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخرين جوازه، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة‏.‏

وأنكرته أيضا طوائف من اليهود، وهم محجوجون بما جاء في توراتهم بزعمهم أن الله تعالى قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة‏:‏ إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب، ما خلا الدم فلا تأكلوه‏.‏ ثم حرم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان.

وبما كان آدم عليه السلام يزوج الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره.

 وبأن إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه ثم قال له‏:‏ لا تذبحه.

وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم،

إلى غير ذلك‏.‏

 وليس هذا من باب البداءة – التي يعتقد بها اليهود والشيعة-  بل هو نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم، لضرب من المصلحة، إظهارا لحكمته وكمال مملكته‏.‏ ولا خلاف بين العقلاء أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينية والدنيوية، وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن عالما بمآل الأمور، وأما العالم بذلك فإنما تتبدل خطاباته بحسب تبدل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل، فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو.

 فخطابه يتبدل، وعلمه وإرادته لا تتغير، فإن ذلك محال في جهة الله تعالى‏.‏ وجعلت اليهود النسخ والبداء شيئا واحدا، ولذلك لم يجوزوه فضلوا‏.‏

 قال النحاس‏:‏ والفرق بين النسخ والبداء أن النسخ تحويل العبادة من شيء إلى شيء قد كان حلالا فيحرم، أو كان حراما فيحلل‏.‏ وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، كقولك‏:‏ امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق البشر لنقصانهم‏.‏ وكذلك إن قلت‏:‏ ازرع كذا في هذه السنة، ثم قلت‏:‏ لا تفعل، فهو البداء‏.

الخامسة‏:‏ اعلم أن الناسخ على الحقيقة هو الله تعالى، ويسمى الخطاب الشرعي ناسخا  للأمر المأمور به أن يحل محل غيره تجوزا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوز فيسمى المحكوم فيه ناسخا، فيقال‏:‏ صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، فالمنسوخ هو المزال، والمنسوخ عنه هو المتعبد بالعبادة المزالة، وهو المكلف‏.

السادسة‏:‏ اختلف علماؤنا في الأخبار هل يدخلها النسخ، فالجمهور على أن النسخ إنما هو مختص بالأوامر والنواهي، والخبر لا يدخله النسخ لاستحالة الكذب على الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ إن الخبر إذا تضمن حكما شرعيا جاز نسخه، كقوله تعالى‏ (وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (النحل٦٧‏) وهناك يأتي القول فيه إن شاء الله تعالى‏.‏

السابعة‏:‏ التخصيص من العموم يوهم أنه نسخ وليس به، لأن المخصص لم يتناول العموم قط، والمتقدمون يطلقون على التخصيص نسخا توسعا ومجازا‏، فقد يرد في الشرع أخبار ظاهرها الإطلاق والاستغراق، ويرد تقييدها في موضع آخر فيرتفع ذلك الإطلاق، كقوله تعالى ‏ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ)  ( البقرة١٨٦) ‏‏ فهذا الحكم ظاهره خبر عن إجابة كل داع على كل حال، لكن قد جاء ما قيده في موضع آخر، كقوله:‏ (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ ) (الأنعام٤١) ‏ فقد يظن من لا بصيرة عنده أن هذا من باب النسخ في الأخبار وليس كذلك، بل هو من باب الإطلاق والتقييد‏.‏

الثامنة:‏ قال علماؤنا رحمهم الله تعالى‏:‏ جائز نسخ الأثقل إلى الأخف، كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين‏.‏ ويجوز نسخ الأخف إلى الأثقل، كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، على ما يأتي بيانه في آية الصيام‏.‏ وينسخ المثل بمثله ثقلا وخفة، كالقبلة‏.‏ وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة نجوى‏ النبي ﷺ.‏

وينسخ القرآن بالقرآن‏.‏ والسنة بالعبارة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي‏.‏ وينسخ خبر الواحد بخبر الواحد‏.‏ وحذاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجود في قوله ﷺ:‏ ‏(‏لا وصية لوارث‏)‏‏.‏ وهو ظاهر مسائل مالك‏.‏ وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي، والأول أصح، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء‏.‏ وأيضا فإن الجلد ساقط في حد الزنى عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي ﷺ، هذا بين‏.‏ والحذاق أيضا على أن السنة تنسخ بالقرآن وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى‏.‏ وفي قوله تعالى: ‏ (فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ) ( الممتحنة١٠)، فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي ﷺ لقريش‏.‏

والنسخ  كله في مدة النبي ﷺ، وأما بعد موته واستقرار الشريعة فأجمعت الأمة أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي.

أنواع النسخ:

ثلاثة أنواع هي: 1- نسخ الحكم دون التلاوة: وذلك أن يكون هناك نص متروك العمل به، وأن مقتضاه نسخ وبقي سنة يقرأ ويروى، كما آية عدة السنة في القرآن تتلى: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ۚ) ( البقرة٢٤٠) ‏، ومثله صدقة النجوى‏: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ) (المجادلة١٢)‏‏

2- نسخ التلاوة دون الحكم:  كآية الرجم‏: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ) (النور ٢) ، وتقال أيضا في قوله تعالى: (الشيخُ والشيخةُ إذا زَنَيَا فارْجُمُوهما البَتَّةَ جَزاءً بما كَسَبَا مِن اللَّذَّةِ)  كانتْ قُرآنًا يُقْرَأُ، ثمَّ نُسِخَتْ تِلاوتُها وكتابتُها معَ بَقاءِ حُكْمِ الرجْمِ.

3- ‏ نسخ التلاوة والحكم معا:  ومنه قول الصديق رضي الله عنه‏:‏ كنا نقرأ ‏(‏لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر‏)‏ ومثله: حَديثِ مُسلمٍ: (كانَ فيمَا أُنْزِلَ: عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ، فَنُسِخْنَ بِخمْسٍ مَعلُومَاتٍ) ؛ أيْ: ثمَّ نُسِخَتْ تِلاوَةُ ذلكَ وبقِيَ الحكم الآخر على قول بعض الفقهاء، ومنهم من يقول أن لتحريم ولو بمصة.

ويجوز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس،أو كآية النجوى على بعض الأقوال.

الخلاصة: كان اللّه عزّ وجلّ ينسي نبيّه ﷺما يشاء، وينسخ ما يشاء. وقال ابن جرير في قوله: (أو ننسها) قال: إن نبيكم ﷺ قرأ قرآناً ثم نسيه، وعن ابن عباس: قال: (كان مما ينزل على النبيﷺالوحي بالليل وينساه بالنهار) "أخرجه ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس"

وقال عمر: أقرؤنا أبيّ، وأقضانا علي، وإنَّا لندع من قول أبيّ، وذلك أن أبيّاً يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول اللّه ﷺ وقد قال اللّه (ما ننسخ من آية أو ننسها) "أخرجه البخاري"

 

وقولهُ: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ) أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال ابن عباس: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال السدي: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ)  نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه. وقوله:   (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ) يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء، فله الخلق والأمر، وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء، ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء، ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء، ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء،  وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ )(الأنبياء ٢٣).

 ويختبر عباده بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا وترك ما عنه زجروا، وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم اللّه في دعوى استحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً.

 والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام اللّه تعالى، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وكلهم قال بوقوعه.

No comments:

Post a Comment