Friday 10 June 2022

تفسير سورة البقرة- ح ١٥ - ما قيل في السحر ونشأته - وهل هو حقيقة أم خيال

 

 

 

 

ما قيل في السحر ونشأته، وهل هو حقيقة أم خيال

كان النبي ﷺ يُعَوِّذُ الحسن والحسين:( إنَّ أَبَاكُما كانَ يُعَوِّذُ

بهَا إسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ: أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ،

مِن كُلِّ شيطَانٍ وهَامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ.)

 

 

مواضيع وفوائد هذا الجزء:

-بيان ما قيل في السحر، هل بدأ بعد سليمان عليه السلام ، أم كان موجودا قبله

-ما يقال لطرد شياطين الجن والإنس ، دعاء الرسولﷺ عن جبريل عليه السلام: قَالَ: "قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَذَرَأَ، وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ، إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ"

- تصحيح قول من قال أن السحر تعلمه الناس من سليمان عليه السلام وأنه كما تدعي عليه اليهود كفرا وبهتانا أنه كان ساحرا، وليس بنبي.

- قصة هاروت وماروت، وقصتها في تعليم الناس السحر.

التفسير:

(وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ ۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ .....) ﴿١٠٢﴾‏

ما قيل منشأ السحر، وكتب السحر التي كانت تحت عرشه:

-قال العوفي في تفسيره، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) وكان حين ذهب مُلْكُ سليمان- كما سيأتي في قصة الخاتم-  ارتد فِئَامٌ من الجن والإنس واتبعوا الشهوات، فلما رجع اللهُ إلى سليمان ملكَه، وقام الناس على الدين كما كان أوان سليمان، ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه، وتوفي سليمان عليه السلام، حدثان ذلك، فظهر الإنس والجن على الكتب بعد وفاة سليمان، وقالوا: هذا كتاب من الله نـزل على سليمان وأخفاه عنا فأخذوا به فجعلوه دينًا. فأنـزل الله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ) واتبعوا الشهوات،  أي: التي كانت تتلو الشياطين وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله

-وقال ابن أبي حاتم:،،،، عن ابن عباس، قال:كان آصف كاتب سليمان، وكان يعلم الاسم «الأعظم » ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان أخرجه الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحرًا وكفرًا، وقالوا:هذا الذي كان سليمان يعمل بها . قال:فأكفره جُهَّالُ الناس وسبّوه، ووقف علماؤهم فلم يزل جهالهم يسبونه، حتى أنـزل الله على محمد ﷺ: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) .

-وقال ابن جرير:...... عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال- لم يصحح هذا الحديث أهل الحديث، ولا التفسير- : كان سليمان، عليه السلام، إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة - وهي امرأة- خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان، عليه السلام، بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتَمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها: هاتي خاتمي فقالت:كذبت، لست سليمان. قال:فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال: فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر. ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرؤوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال:فبرئ الناس من سليمان، عليه السلام، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا ﷺوأنـزل عليه: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )

-وقال السدي في قوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) أي:على عهد سليمان. قال:كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فتقعد منها مقاعد للسمع، فيستمعون من كلام الملائكة مما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم. فتحدِّث الكهنة الناسَ فيجدونه كما قالوا. حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم. وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناسُ ذلك الحديثَ في الكتب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب. فبُعث سليمانُ في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق. ثم دفنها تحت كرسيه. ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق. وقال: لا أسمع أحدًا يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان، عليه السلام، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان، وخلف من بعد ذلك خَلْف تمثل شيطان في صورة إنسان، ثم أتى نفرًا من بني إسرائيل، فقال لهم:هل أدلكم على كنـز لا تأكلونه أبدًا؟ قالوا: نعم. قال:فاحفروا تحت الكرسي. وذهب معهم وأراهم المكان، وقام ناحية، فقالوا له: فَادْنُ. قال لا ولكنني هاهنا في أيديكم، فإن لم تجدوه فاقتلوني. فحفروا فوجدوا تلك الكتب. فلما أخرجوها قال الشيطان: إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر. ثم طار وذهب. وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرًا. واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب، فلما جاء محمد ﷺ خاصموه بها ؛ فذلك حين يقول الله تعالى: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)

 

-وقال ابن جرير: عن ابن عباس، قال:كان سليمان، عليه السلام، إذا أراد أن يدخل الخلاء، أو يأتي شيئًا من نسائه، أعطى الجرادة - وهي امرأة- خاتمه. فلما أراد الله أن يبتلي سليمان، عليه السلام، بالذي ابتلاه به، أعطى الجرادة ذات يوم خاتَمه، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها:هاتي خاتمي. فأخذه فلبسه. فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس. قال:فجاءها سليمان، فقال:هاتي خاتمي فقالت:كذبت، لست سليمان. قال:فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به. قال:فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبًا فيها سحر وكفر. ثم دفنوها تحت كرسي سليمان، ثم أخرجوها وقرؤوها على الناس، وقالوا: إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب. قال:فبرئ الناس من سليمان، عليه السلام، وأكفروه حتى بعث الله محمدًا ﷺوأنـزل عليه: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا )

وقال الربيع بن أنس:إن اليهود سألوا محمدًا ﷺ زمانًا عن أمور من التوراة، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنـزل الله تعالى عليه ما سألوه عنه، فيخصمهم ، فلما رأوا ذلك قالوا: هذا أعلم بما أنـزل الله إلينا منا. وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به، فأنـزل الله عز وجل: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) وإن الشياطين عَمَدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك، فدفنوه تحت مجلس سليمان، وكان سليمان عليه السلام، لا يعلم الغيب. فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر وخدعوا الناس، وقالوا: هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه. فأخبرهم النبي ﷺ بهذا الحديث فرجعوا من عنده وقد حزنوا، وأدحض الله حجتهم.

أدعية تذهب السحر، والحسد:

 

في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وغيره، من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَنْبَشٍ التَّمِيمِيِّ يحكي عن الليلة التي بعث الله نبيه ﷺإلى الجن يقرأ عليهم القرآن-  قال: إِنَّ الشَّيَاطِينَ تَحَدَّرَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَعَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ مِنَ الْأَوْدِيَةِ، وَالشِّعَابِ، وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ بِيَدِهِ شُعْلَةُ نَارٍ، يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، قُلْ، قَالَ: "مَا أَقُولُ؟ "قَالَ: "قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَذَرَأَ، وَبَرَأَ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ، وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا، وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ، إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ، يَا رَحْمَنُ"، قَالَ: فَطَفِئَتْ نَارُهُمْ، وَهَزَمَهُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.- الحديث ضعفه الكثيرون، وقالوا يؤخذ بالدعاء وجعلوه من أذكار الصباح والمساء.

وكان رسول الله كان النبي ﷺ يُعَوِّذُ الحسن والحسين:( إنَّ أَبَاكُما كانَ يُعَوِّذُ بهَا إسْمَاعِيلَ وإسْحَاقَ:  أَعُوذُ بكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِن كُلِّ شيطَانٍ وهَامَّةٍ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ.) (صحيح البخاري)

في البدع التي يتناقلها الناس في كل زمان :

وقال ابن جرير: عن شَهْر بن حَوشب، قال:لما سلب سليمان عليه السلام ملكه- في قصة الخاتم-  كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان. فكتبت: « من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس، وليقل كذا وكذا ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا. فكتبته وجعلت عنوانه:هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود ، من ذخائر كنوز العلم ». ثم دفنته تحت كرسيه. فلما مات سليمان، عليه السلام، قام إبليس، لعنه الله، خطيبًا، ثم  قال: يا أيها الناس، إن سليمان لم يكن نَبيًّا، إنما كان ساحرًا، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته. ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه. فقالوا: والله لقد كان سليمان ساحرًا ! هذا سحره، بهذا تَعَبدنا، وبهذا قهرنا. وقال المؤمنون: بل كان نبيًا مؤمنًا. فلما بعث الله النبي ﷺ جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان. فقالت اليهود لعنهم الله: انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل. يذكر سليمان مع الأنبياء. إنما كان ساحرًا يركب الريح، فأنـزل الله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ) الآية.

 

فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام، ولا يخفى ملخص القصة والجمع بين أطرافها، وأنه لا تعارض بين السياقات على اللبيب الفَهِم، والله الهادي. وقوله تعالى: ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) أي: واتبعت اليهود - الذين أوتوا الكتاب بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم الرسول محمدا ﷺ ما تتلوه الشياطين، أي: ما ترويه وتخبر به وتُحدثه الشياطين على ملك سليمان. وعداه بعلى؛ لأنه تضمن تتلو: تكذب. وقال ابن جرير: «على » هاهنا بمعنى « في » ، أي:تتلو في ملك سليمان. ونقله عن ابن جُرَيج، وابن إسحاق.

قلت – أي ابن جرير- :والتضمن أحسن وأولى، والله أعلم.

هل كان سحر قبل سليمان عليه السلام:

وقول الحسن البصري، رحمه الله: « قد كان السحر قبل زمان سليمان بن داود » صحيح لا شك فيه؛ لأن السحرة كانوا في زمان موسى، عليه السلام، وسليمان بن داود بعده، كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية ( البقرة٢٤٦) ، ثم ذكر القصة بعدها، وفيها: (وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ)  ( البقرة٢٥١)، وقال قوم صالح - وهم قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، لنبيهم صالح: إ(ِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) ) الشعراء١٥٣( أي: من المسحورين على المشهور.

من هما هاروت وماروت؟

 

وقوله تعالى: ( وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) اختلف الناس في هذا المقام، فذهب بعضهم إلى أن « ما » نافية، أعني التي في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) قال القرطبي: « ما » نافية ومعطوفة على قوله: ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) ثم قال: ( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنـزلَ) أي: السحر ( عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) وذلك أن اليهود - لعنهم الله- كانوا يزعمون أنه نـزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله في ذلك وجعل قوله: ( هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) بدلا من: ( الشياطين ) قال: وصح ذلك، إما لأن الجمع قد يطلق على الاثنين كما في قوله: )فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ( [ النساء١١]،  أو يكون لهما أتباع، أو ذكرا من بينهم لتمردهما، فتقدير الكلام عنده: تعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. ثم قال:وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه.

وروى ابن جرير بإسناده عن ابن عباس، في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ) يقول: لم ينـزل الله السحر. و عن الربيع بن أنس، في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) قال:ما أنـزل الله عليهما السحر.

 

قال ابن جرير: فتأويل الآية على هذا:واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنـزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون قوله: ( بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوت) من المؤخر الذي معناه المقدم. قال: فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ) - « من السحر » - ( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ) وما أنـزل الله « السحر » على الملكين، ( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ) ببابل وهاروت وماروت فيكون معنيا بالملكين: جبريل وميكائيل عليهما السلام؛ لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنـزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك، وأخبر نبيه محمدًا ﷺ أن جبريل وميكائيل لم ينـزلا بسحر، وبرأ سليمان، عليه السلام، مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان، اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت، فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس، وردًا عليهم. هذا لفظه بحروفه .

 

وقد قال ابن أبي حاتم:حُدّثت عن عُبَيد الله بن موسى، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية (وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) قال:ما أنـزل الله على جبريل وميكائيل السحر.

وقال أبو العالية:لم ينـزل عليهما السحر، يقول:علما الإيمان والكفر، فالسحر من الكفر، فهما ينهيان عنه أشد النهي. رواه ابن أبي حاتم.

ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول، وأن « ما » بمعنى الذي، وأطال القول في ذلك، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنـزلهما الله إلى الأرض، وأذن لهما في تعليم السحر اختبارًا لعباده وامتحانًا، بعد أن بين لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك؛ لأنهما امتثلا ما أمرا به.

وَوَجَّه أصحابُ هذا القول الإنـزال بمعنى الخَلْق، لا بمعنى الإيحاء، في قوله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ) كما قال تعالى: وَأَنْـزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) ( الزمر٦)، وقوله: ( وَأَنْـزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ)  (الحديد٢٥)،وقوله: (وَيُنَـزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا) ( غافر١٣). وفي الحديث: «ما أنـزل الله داء إلا أنـزل له دواء » . وكما يقال:أنـزل الله الخير والشر.

 

وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنـزلا إلى الأرض، فكان من أمرهما ما كان. وقد ورد في ذلك حديث مرفوع رواه الإمام أحمد في مسنده كما سنورده إن شاء الله تعالى. وعلى هذا فيكون الجمع بين هذا وبين ما ثبت من الدلائل على عصمة الملائكة أن هذين سبق في علم الله لهما هذا، فيكون تخصيصًا لهما، فلا تعارض حينئذ، كما سبق في علمه من أمر إبليس ما سبق، وفي قول: إنه كان من الملائكة، لقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى) ( طه ١١٦) ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك. مع أن شأن هاروت وماروت - على ما ذكر- أخف مما وقع من إبليس لعنه الله.

قال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله، في مسنده:حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، عن عبد الله بن عمر:أنه سمع نبي الله ﷺ يقول: « إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله إلى الأرض قالت الملائكة: أي رب (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )( البقرة٣٠)، قالوا: ربنا، نحن أطوع لك من بني آدم. قال الله تعالى للملائكة: هَلُموا ملكين من الملائكة حتى نهبطهما إلى الأرض، فننظر كيف يعملان؟ قالوا:برَبِّنا، هاروتَ وماروتَ. فأهبطا إلى الأرض ومثُلت لهما الزُّهَرة امرأة من أحسن البشر، فجاءتهما، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تتكلما بهذه الكلمة من الإشراك. فقالا والله لا نشرك بالله شيئًا أبدًا. فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تقتلا هذا الصبي. فقالا: لا والله لا نقتله أبدًا. ثم ذهبت فرجعت بقَدَح خَمْر تحمله، فسألاها نفسها. فقالت: لا والله حتى تشربا هذا الخمر. فشربا فسكرا، فوقعا عليها، وقتلا الصبي. فلما أفاقا قالت المرأة: والله ما تركتما شيئًا أبيتماه عليّ إلا قد فعلتماه حين سكرتما. فخيرَا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا » . وهذا حديث غريب من هذا الوجه، ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين، إلا موسى بن جبير هذا، وهو الأنصاري السلمي مولاهم المديني الحذا.

وقال ابن جرير: عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا جميعًا: لما كثر بنو آدم وعصوا، دعت الملائكة عليهم والأرض والجبال ربنا لتهلكهم فأوحى الله إلى الملائكة: إني أزلت الشهوة والشيطان من قلوبكم، ولو نـزلتم لفعلتم أيضًا. قال: فحدثوا أنفسهم أن لو ابتلوا اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا ملكين من أفضلكم. فاختاروا هاروت وماروت. فأهبطا إلى الأرض، وأنـزلت الزُّهَرة إليهما في صورة امرأة من أهل فارس يسمونها بيذخت. قال:فوقعا بالخطيَّة . فكانت الملائكة يستغفرون للذين آمنوا:( رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) (غافر٧)

فلما وقعا بالخطيئة استغفروا لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم. فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختاروا عذاب الدنيا .

وقال:ابن أبي حاتم: عن مجاهد، قال:كنت نازلا على عبد الله بن عمر في سفر، فلما كان ذات ليلة قال لغلامه:انظر، هل طلعت الحمراء، لا مرحبًا بها ولا أهلا ولا حياها الله هي صاحبة الملكين.

وقالت الملائكة:يا رب، كيف تدع عصاة بني آدم وهم يسفكون الدم الحرام وينتهكون محارمك ويفسدون في الأرض! قال:إني ابتليتهم، فعلَّ إن ابتليتكم بمثل الذي ابتليتهم به فعلتم كالذي يفعلون. قالوا:لا. قال:فاختاروا من خياركم اثنين. فاختاروا هاروت وماروت. فقال لهما: إني مهبطكما إلى الأرض، وعاهد إليكما ألا تشركا ولا تزنيا ولا تخونا. فأهبطا إلى الأرض وألقي عليهما الشَّبَق، وأهبطت لهما الزُّهَرة في أحسن صورة امرأة، فتعرضت لهما، فراوداها عن نفسها. فقالت:إني على دين لا يصح لأحد أن يأتيني إلا من كان على مثله. قالا وما دينك؟ قالت:المجوسية. قالا الشرك! هذا شيء لا نقر به. فمكثت عنهما ما شاء الله. ثم تعرضت لهما فأراداها عن نفسها. فقالت:ما شئتما، غير أن لي زوجًا، وأنا أكره أن يطلع على هذا مني فأفتضح، فإن أقررتما لي بديني، وشرطتما لي أن تصعدا بي إلى السماء فعلت. فأقرا لها بدينها وأتياها فيما يريان، ثم صعدا بها إلى السماء. فلما انتهيا بها إلى السماء اختطفت منهما، وقطعت أجنحتهما فوقعا خائفين نادمين يبكيان، وفي الأرض نبي يدعو بين الجمعتين، فإذا كان يوم الجمعة أجيب. فقالا لو أتينا فلانًا فسألناه فطلب لنا التوبة فأتياه، فقال: رحمكما الله كيف يطلب التوبة أهل الأرض لأهل السماء! قالا إنا قد ابتلينا. قال: ائتياني يوم الجمعة. فأتياه، فقال:ما أجبت فيكما بشيء، ائتياني في الجمعة الثانية. فأتياه، فقال: اختارا، فقد خيرتما، إن أحببتما معافاة الدنيا وعذاب الآخرة، وإن أحببتما فعذاب الدنيا وأنتما يوم القيامة على حكم الله. فقال أحدهما: إن الدنيا لم يمض منها إلا القليل. وقال الآخر: ويحك؟ إني قد أطعتك في الأمر الأول فأطعني الآن، إن عذابا يفنى ليس كعذاب يبقى. وإننا يوم القيامة على حكم الله، فأخاف أن يعذبنا. قال: لا إني أرجو إن علم الله أنا قد اخترنا عذاب الدنيا مخافة عذاب الآخرة لا يجمعهما علينا. قال: فاختارا عذاب الدنيا، فجعلا في بكرات من حديد في قَلِيب مملوءة من نار، عَاليهُمَا سافلَهما . وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر.

وقال عبد الرزاق:قال مَعْمَر:قال قتادة والزهري، عن عبيد الله بن عبد الله: ( وَمَا أُنـزلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ) كانا ملكين من الملائكة، فأهبطا ليحكما بين الناس. وذلك أن الملائكة سخروا من حكام بني آدم، فحاكمت إليهما امرأة، فحافا لها. ثم ذهبا يصعدان فحيل بينهما وبين ذلك، ثم خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا. وقال مَعْمَر:قال قتادة:فكانا يعلمان الناس السحر، فأخذ عليهما ألا يعلما أحدا حتى يقولا ( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ).

وقد ورد في ذلك أثر غريب وسياق عجيب في ذلك أحببنا أن ننبه عليه، قال:الإمام أبو جعفر بن جرير، بسنده عن عائشة زوج النبي ﷺ رضي الله عنها وعن أبيها،أنها قالت: قدمت امرأة عليَّ من أهل دومة الجندل، جاءت تبتغي رسول الله ﷺبعد موته حَدَاثة ذلك، تسأله عن شيء دخلت فيه من أمر السحر، ولم تعمل به. قالت عائشة، رضي الله عنها، لعُرْوَة :يا ابن أختي، فرأيتها تبكي حين لم تجد رسول اللهﷺ فيشفيها كانت تبكي حتى إني لأرحمها، وتقول: إني أخاف أن أكون قد هلكت. كان لي زوج فغاب عني، فدخلت على عجوز فشكوت ذلك إليها، فقالت:إن فعلت ما آمرك به فأجعله يأتيك. فلما كان الليل جاءتني بكلبين أسودين، فركبتُ أحدهما وركبت الآخر، فلم يكن كشيء حتى وقفنا ببابل، وإذا برجلين معلقين بأرجلهما. فقالا ما جاء بك؟ فقلتُ:أتعلم السحر. فقالا إنما نحن فتنة فلا تكفري، فارجعي. فأبيت وقلت:لا. قالا فاذهبي إلى ذلك التنور، فبولي فيه. فذهبت ففزعتُ ولم أفعل، فرجعت إليهما، فقالا أفعلت؟ فقلت:نعم. فقالا هل رأيت شيئًا؟ فقلت:لم أر شيئًا. فقالا لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري. فأرْبَبْت وأبيت . فقالا اذهبي إلى ذلك التنور فبولي فيه. فذهبت فاقشعررت وخفت، ثم رجعت إليهما فقلت:قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ فقلت:لم أر شيئًا. فقالا :كذبت، لم تفعلي، ارجعي إلى بلادك ولا تكفري ؛ فإنك على رأس أمرك. فأرببتُ وأبيتُ. فقالا: اذهبي إلى ذلك التنور، فبولي فيه. فذهبت إليه فبلت فيه، فرأيت فارسًا مقنعًا بحديد خَرَج مني، فذهب في السماء وغاب [ عني ] حتى ما أراه، فجئتهما فقلت:قد فعلت. فقالا فما رأيت؟ قلت:رأيت فارسًا مقنعًا خرج مني فذهب في السماء، حتى ما أراه. فقالا: صدقت، ذلك إيمانك خرج منك، اذهبي. فقلت للمرأة:والله ما أعلم شيئًا وما قالا لي شيئًا. فقالت: بلى، لم تريدي شيئًا إلا كان، خذي هذا القمح فابذري، فبذرت، وقلت :أطلعي فأطلعت وقلت:أحقلي فأحقلت ثم قلت: أفْركي فأفرَكَتْ. ثم قلت: أيبسي فأيبست . ثم قلت:أطحني فأطحنت . ثم قلت:أخبزي فأخبزت . فلما رأيتُ أني لا أريد شيئًا إلا كان، سقط في يدي وندمت - والله- يا أم المؤمنين والله ما فعلت شيئًا قط ولا أفعله أبدًا . (فهذا إسناد جيد إلى عائشة، رضي الله عنها.)

 

وقد استدل بهذا الأثر من ذهب إلى أن الساحر له تمكن في قلب الأعيان؛ لأن هذه المرأة بذرت واستغلت في الحال.

وقال آخرون: بل ليس له قدرة إلا على التخييل، كما قال [ الله ] تعالى: (سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [ الأعراف:116 ] وقال تعالى: (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى) (طه٦٦)

واستدل به على أن بابل المذكورة في القرآن هي بابل العراق، لا بابل دُنْباوَنْد كما قاله السدي وغيره. ثم الدليل على أنها بابل العراق ما قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن الحسين: أن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، مر ببابل وهو يسير، فجاء المؤذن يُؤْذنه بصلاة العصر، فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة، فلما فرغ قال:إن حبيبي ﷺ نهاني أن أصلي - بأرض المقبرة، ونهاني أن أصلي ببابل فإنها ملعونة .

وهذا الحديث حسن عند الإمام أبي داود، لأنه رواه وسكت عنه ؛ ففيه من الفقه كراهية الصلاة بأرض بابل، كما تكره بديار ثمود الذين نهى رسول الله ﷺ عن الدخول إلى منازلهم، إلا أن يكونوا باكين.

وقوله تعالى: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) قال أبو جعفر الرازي، عن ابن عباس، قال: فإذا أتاهما الآتي يريد السحر نهياه أشد النهي، وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان، فعرفا أن السحر من الكفر . [ قال ] فإذا أبى عليهما أمراه أن يأتي مكان كذا وكذا، فإذا أتاه عاين الشيطان فَعلمه، فإذا تعلم خرج منه النور، فنظر إليه ساطعًا في السماء، فيقول:يا حسرتاه!يا ويله! ماذا أصنع ؟.

 

وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية: نعم، أنـزل الملكان بالسحر، ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحدًا حتى يقولا ( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) رواه ابن أبي حاتم، وقال قتادة:كان أخذ عليهما ألا يعلما أحدًا حتى يقولا ( إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) - أي:بلاء ابتلينا به- ( فَلا تَكْفُرْ )

وأما الفتنة فهي المحنة والاختبار، ومنه قول الشاعر: وقــد فُتــن النَّــاسُ فـي دينهـم وخَــلَّى ابـنُ عفـان شـرًا طـويلا  ، وكذلك قولُه تعالى إخبارًا عن موسى، عليه السلام، حيث قال: (إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ)  أي:ابتلاؤك واختبارك وامتحانك( تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ) (الأعراف١٥٥) .

وقوله تعالى: ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) أي:فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ما يتصرفون به فيما يتصرفون فيه من الأفاعيل المذمومة، ما إنهم ليفَرِّقُون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف.

 وهذا من صنيع الشياطين، كما رواه مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي ﷺقال: "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منـزلة أعظمهم عنده فتنة، يجيء أحدهم فيقول:ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا. فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئًا. ويجيء أحدهم فيقول:ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال:فيقربه ويدنيه ويلتزمه، ويقول:نِعْم أنت " .

وسبب التفرق بين الزوجين بالسحر:ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر، أو خلق أو نحو ذلك أو عَقد أو بَغْضه، أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة.

والمرء عبارة عن الرجل، وتأنيثه امرأة، ويثنى كل منهما ولا يجمعان، والله أعلم.

وقوله تعالى: ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله. وقال محمد بن إسحاق إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد.

وقال الحسن البصري: ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) قال:نَعَم، من شاء الله سلطهم عليه، ومن لم يشأ الله لم يسلط، ولا يستطيعون ضر أحد إلا بإذن الله، كما قال الله تعالى، وفي رواية عن الحسن أنه قال:لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه.

وقوله تعالى: ( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) أي:يضرهم في دينهم، وليس له نفع يوازي ضرره.

( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ) أي:ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول ﷺ لمن فعل فعلهم ذلك، أنه ما له في الآخرة من خلاق.

قال ابن عباس ومجاهد والسدي:من نصيب. وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة:ما له في الآخرة من جهة عند الله وقال:وقال الحسن:ليس له دين.

وقال سعد عن قتادة: (مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال:ولقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق- نصيب-  له في الآخرة.

وقوله تعالى: ( وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) يقول تعالى: ( ولبئس ) البديل ما استبدلوا به من السحر عوضًا عن الإيمان، ومتابعة الرسل لو كان لهم علم بما وعظوا به ( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ ) أي:ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم، لكان مثوبة الله على ذلك خيرا لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به، كما قال تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ) (القصص٨٠) .

كفر الساحر، ومن يصدق به:

وقد استدل بعضهم بهذه الآية : (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ) على تكفير من تعلم السحر، ويُستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار:بسنده عن عبد الله، قال: (من أتى كاهنًا أو ساحرًا فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنـزل على محمد ﷺ)وهذا إسناد جيد وله شواهد أخر.

وقد استدل بقوله: ( وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا )  إلى تكفير الساحر، كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف.

وقيل:بل لا يكفر، ولكن حَده ضَرْبُ عنقه، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل، رحمهما الله:أخبرنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أنه سمع بجالة بن عَبَدَةَ يقول:كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر . وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضًا .

وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها، فأمرت بها فقتلت . قال أحمد بن حنبل:صح من أصحاب النبي ﷺ أذنوا في قتل الساحر.

 

وروى الترمذي من حديث إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن جندب الأزدي أنه قال:قال رسول الله ﷺ: " حد الساحر ضَرْبُه بالسيف".والصحيح:عن الحسن عن جُنْدُب موقوفًا.

وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه، فقال الناس: سبحان الله! يحيي الموتى! ورآه رجل من صالحي المهاجرين، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه، وذهب يلعب لعبه ذلك، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر، وقال:إن كان صادقا فليحي نفسه. وتلا قوله تعالى:( أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ )(الأنبياء٣)،  فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه، والله أعلم.

والاختلاف في كفره ، أو قتله حدًا ، أن يكون شركا، أو عصيانا،  الشافعي رحمه الله حمل قصة عمر، وحفصة على سِحْر يكون شركا. والله أعلم.

هل للسحر حقيقة:

حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر، قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده.

 قال:وأما أهل السنة فقد جَوَّزُوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، ويقلب الإنسان حمارًا، والحمار إنسانًا، إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى و [ تلك ] الكلمات المُعَيَّنة.

فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا خلافًا للفلاسفة والمنجمين الصابئة.

ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى، بقوله تعالى: ( وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ ) ومن الأخبار بأن رسول الله ﷺ سُحِر، وأن السحر عَمِل فيه، وبقصة تلك المرأة مع عائشة، رضي الله عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر، قال:وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثيرة، ثم قال بعد هذا:

المسألة الخامسة في من قال أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور:

قالوا: اتفق المحققون على ذلك؛ لأن العلم لذاته شريف وأيضًا لعموم قوله تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (الزمر٩) ؛ ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة، والعلم بكون المعجز مُعْجِزًا واجب، وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب؛ فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجبًا، وما يكون واجبًا فكيف يكون حرامًا وقبيحًا؟!

هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة، وهذا الكلام فيه نظر من وجوه، أحدها:قولُهُ: « العلم بالسحر ليس بقبيح » . إن عنى به ليس بقبيح عقلا فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعًا، ففي هذه الآية الكريمة تبشيع لتعلم السحر، وفي الصحيح: « من أتى عرافًا أو كاهنًا، فقد كفر بما أنـزل على محمد » . وفي السنن: « من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر » . وقوله: « ولا محظور اتفق المحققون على ذلك » . كيف لا يكون محظورًا مع ما ذكرناه من الآية والحديث؟! واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص على هذه المسألة أئمة العلماء أو أكثرهم، وأين نصوصهم على ذلك؟

ثم إدخاله [ علم ] السحر في عموم قوله:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فيه نظر؛ لأن هذه الآية إنما دلت على مدح العالمين بالعلم الشرعي، ولم قلتَ إن هذا منه؟ ثم تَرَقيه إلى وجوب تعلمه بأنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به، ضعيف بل فاسد؛ لأن معظم معجزات رسولنا،ﷺهي القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد. ثم إن العلم بأنه معجز لا يتوقف على علم السحر أصلا ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم، كانوا يعلمون المعجز، ويفرّقُون بينه وبين غيره، ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه، والله أعلم.

No comments:

Post a Comment