Friday 17 June 2022

تفسير سورة البقرة ح17 في كثرة السؤال احرص على ما تقدمه لنفسك يوم لا مال...

  
  

 

تفسير سورة البقرة- ح ١٧- في كثرة السؤال، والفتن تحاك لك،

والفَطِن من قدَّم لآخرته قبل أن لا يكون لا مال ولا خلة ولا شفاعة

 

مواضيع هذا الجزء:

-النهي عن كثرة السؤال؛ وهل السؤال للعلم مكروه، أم محمود؟ومتى يكره؟

-بيان من رب الأرباب لعباده المؤمنين إلا يخدعوا بما يظهر أهل الكتاب من طيب الكلام، فإنهم يحسدونكم على تمسككم بالإسلام، فاحذروهم.

-دعوة من الله لعباده بإقامة شعائر الدين من العبادات، ولا يركن إلى القول إني مسلم، واعتقادي بالله يكفيني عن العمل.

- دخول الجنة ليس بالتمني، ولكنة بالإخلاص أولا ، ثم العمل الصالح.

التفسير:

‏قوله تعالى: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ ۗ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ)

نهى اللّه تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبيﷺ عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) (المائدة١٠١)،  أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرَّم من أجل تلك المسألة، ولهذا جاء في صحيح البخاري عن سعد ابن أبي وقاص: (إنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا، مَن سَأَلَ عن شيءٍ لَمْ يُحَرَّمْ، فَحُرِّمَ مِن أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ).

وثبت في الصحيحين من حديث المغيرة ابن شعبة أن رسول اللّه ﷺ : (كانَ يَنْهَى عن قيلَ وقالَ، وكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وإضَاعَةِ المَالِ)

وفي صحيح مسلم:(ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه).

وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن اللّه كتب عليهم الحج فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول اللّه؟ فسكت عنه رسول اللّه ثلاثاً، ثم قال عليه السلام: (لا، ولو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم)، ثم قال: (ذروني ما تركتكم) الحديث. ولهذا قال أنس بن مالك: نهينا أن نسأل رسول اللّه ﷺ عن شيء، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع. وعن ابن عباس قال: (ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد ﷺ، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن ( يسألونك عن الخمر والميسر - و يسألونك عن الشهر الحرام - ويسألونك عن اليتامى)"رواه البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس"

يعني هذا وأشباهه. وقوله تعالى: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ ۗ) أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو إنكاري وهو يعمّ المؤمنين والكافرين.

 عن ابن عباس قال: قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد: (يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك) فأنزل اللّه من قولهم: ( أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِنْ قَبْلُ ۗ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) "أخرجه محمد بن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس"

والمراد أن اللّه ذم من سأل الرسولﷺ عن شيء على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتاً وتكذيباً وعناداً، والسؤال ما يقصد به العلم بالشيء ، أو توبيخا لعمل أو قول: لم فعلت؟ أو يكون تعنتا وبيان لعجز المسئول، واستهزاء به.

 قال اللّه تعالى: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ) أي ومن يشترِ الكفر بالإيمان (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال.

وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ )( إبراهيم٢٨)

وقال أبو العالية:يتبدل الشدة بالرخاء.

 

وقوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)   وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ( ١١٠)

يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طَرَائق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم. ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح. ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه، كما قال محمد بن إسحاق: عن ابن عباس، قال:كان حُيَيُّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهودَ للعرب حسدًا، إذْ خَصهم الله برسولهﷺ وكانا جَاهدَين في ردِّ الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنـزل الله فيهما: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ ) الآية.

وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر عن الزهري، في قوله تعالى: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) قال:هو كعب بن الأشرف.

وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه:أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرًا، وكان يهجو النبي ﷺ. وفيه أنـزل الله: ( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ ) إلى قوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا )

وقال الضحاك، عن ابن عباس:أن رسولا أميا يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والآيات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفرًا وحسدًا وبغيًا؛ ولذلك قال الله تعالى: ( كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) يقول:من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرَّهم ووبخهم ولامهم أشدَّ الملامة، وشرع لنبيه ﷺ وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنـزل عليهم وما أنـزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم.

وقال الربيع بن أنس: (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) من قبل أنفسهم. وقال أبو العالية: ( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ) من بعد ما تبين [ لهم ] أن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسدا وبغيًا؛ إذ كان من غيرهم.

الحسد نوعان: مذموم ومحمود:

فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أو لا، وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ ) ( النساء٥٤)،  وإنما كان مذموما لأن فيه تسفيه الحق سبحانه، وأنه أنعم على من لا يستحق.

وأما المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السلام: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار».( متفق عليه) . وهذا الحسد معناه الغبطة. وكذلك ترجم عليه البخاري «باب الاغتباط في العلم والحكمة » . وحقيقتها: أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة ولا يزول عنه خيره، وقد يجوز أن يسمى هذا منافسة، ومنه قوله تعالى: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) (المطففين٢٦)

وقوله تعالى:( مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ) أي من بعد ما تبين الحق لهم وهو محمد ﷺ، والقرآن الذي جاء به. وقوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ) مثل قوله تعالى: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( آل عمران ١٨٦) .

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )

العفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس. صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحا ) (الزخرف ٥) .

وقد روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد أن رسول الله ﷺ ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأسامة وراءه، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر، فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبدالله بن أبي ابن سلول - وذلك قبل أن يسلم عبدالله بن أبي - فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبدالله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا! فسلم رسول الله ﷺ ثم وقف فنزل، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن، فقال له عبدالله بن أبي بن سلول: أيها المرء، لا أحسن مما تقول إن كان حقا! فلا تؤذنا به في مجالسنا، [ ارجع إلى رحلك ] فمن جاءك فاقصص عليه. قال عبدالله بن رواحة: بلى يا رسول الله، فاغشنا في مجالسنا، فإنا نحب ذلك.

 فاستتب المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون، فلم يزل رسول الله ﷺ يخفضهم حتى سكنوا، ثم ركب رسول الله ﷺ دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال رسول الله ﷺ: (يا سعد  ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب - يريد عبدالله بن أبي - قال كذا وكذا ) فقال: أي رسول الله، بأبي أنت وأمي! اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل ما رأيت، فعفا عنه رسول الله ﷺ. وكان رسول الله ﷺ وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى، ويصبرون على الأذى، قال الله عز وجل: (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) ( آل عمران ١٨٦) .

وقيل أن العفو منسوخ،  نسخ بقوله تعالى: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ إلى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ) ( التوبة٢٩)، فنسخ هذا عفوه عن المشركين.  وقال أبو العافية وقتادة، والسدي: إنها منسوخة بآية السيف، ويرشد إلى ذلك أيضًا قوله: ( حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ )

وقال ابن أبي حاتم:  عن الزهري، أخبرني عُرْوَة بن الزبير:أن أسامة بن زيد أخبره، قال:كان رسول الله ﷺوأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله، ويصبرون على الأذى، قال الله: ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) وكان رسول اللهﷺ يتأوَّل من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش( .وهذا إسناده صحيح، ولا يوجد في الكتب الستة ( ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما).

وقوله تعالى: ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) يَحُثُّ تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (غافر ٥٢ ) ؛ ولهذا قال تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) يعني: أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه، سواء كان خيرًا أو شرًا، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) جاء في الحديث : قال ﷺ: « إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم وقال الناس ما خلف» (رواه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة يبلغ به )

وفي البخاري: قال عبدالله قال النبي ﷺ: ( أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ) قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: ( فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر).

وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر ببقيع الغرقد فقال: السلام عليكم أهل القبور، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن، ودوركم قد سكنت، وأموالكم قد قسمت. فأجابه هاتف: يا ابن الخطاب أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه، وما أنفقناه فقد ربحناه، وما خلفناه فقد خسرناه

وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر، سرا أو علانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرًا، وبالإساءة مثلها.

 وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا. وذلك أنه أعْلَم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مُدَّخرًا لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ) وليحذروا معصيته.

قال: وأما قوله: ( بصير )

قال القرطبي: فإنه مبصر صرف إلى «بصير» : وهي صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من بصُرَ/ بصُرَ بـ ،  وبصِرَ/ بصِرَ بـ/ بصِرَ

مُبصِر، يرى بعينه

بصير : أي بالعواقب: الذي يأخذ الاحتياطات متداركًا لما يحدث.

البصير: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المبصِر، العالم بخفيَّات الأمور

رَجُلٌ بَصيرٌ : ثاقِبُ النَّظَرِ ، ( إِنِّي بِما تَعْمَلونَ بَصيرٌ) (سبأ آية ١١)

ومثله كما صرف مبدع إلى «بديع» ، ومؤلم إلى «أليم»، والله أعلم.

وقال ابن أبي حاتم: عن عقبة بن عامر، قال:رأيت رسول اللهﷺ يفسر في هذه الآية (سَمِيعٌ بَصِيرٌ) يقول: بكل شيء بصير .

 

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ( ١١١ ) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) ( ١١٢ )

يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها، كما أخبر الله عنهم في سورة المائدة أنهم قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ) (المائدة١٨). فأكذبهم الله تعالى بما أخبرهم أنه معذبهم بذنوبهم، ولو كانوا كما ادعوا لما كان الأمر كذلك، وكما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياما معدودة، ثم ينتقلون إلى الجنة. وردَّ عليهم تعالى في ذلك، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة، فقال ( تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ )

وقال أبو العالية:أماني تمنوها على الله بغير حق.

ثم قال: ( قُلْ ) أي:يا محمد، (هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)

وقال أبو العالية ومجاهد والسدي والربيع بن أنس:حجتكم. وقال قتادة:بينتكم على ذلك. ( إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ) كما تدعونه .

ثم قال تعالى: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ ) أي: استسلم وخضع ، و أخلص العمل لله وحده لا شريك له.

 وخص الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان، ولأنه موضع الحواس، وفيه يظهر العز والذل. والعرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء.

 ويصح أن يكون الوجه في هذه الآية المقصد.كما قال تعالى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ..) الآية (آل عمران٢٠).

وقال سعيد بن جبير: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ) أخلص، (وَجْهَهُ) قال:دينه، (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي:متبع فيه الرسول ﷺ.

 للعمل المتقبل شرطين، أحدهما: أن يكون خالصًا لله وحده

 والآخر: أن يكون صوابًا موافقا للشريعة.

 فمتى كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يتقبل؛ ولهذا قال رسول الله ﷺ: «مَن عَمِلَ عَمَلًا ليسَ عليه أمْرُنا فَهو رَدٌّ. ». رواه مسلم من حديث عائشة عن رسول الله ﷺ.

فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله- فإنه لا يتقبل منهم، حتى يكون ذلك متابعًا للرسول محمد ﷺالمبعوث إليهم وإلى الناس كافة، وفيهم وأمثالهم، قال الله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) (الفرقان٢٣)، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا) (النور٣٩)

وروي عن أمير المؤمنين عمر أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي.

وأما إن كان العمل موافقًا للشريعة في الصورة الظاهرة، ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضًا مردود على فاعله وهذا حال المنافقين والمرائين، كما قال تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا) (النساء١٤٢) ، وقال تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) (الماعون٤-٧) ، ولهذا قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) (الكهف١١٠). وقال في هذه الآية الكريمة: ( بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ )

 

وقوله: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور، وآمنهم مما يخافونه من المحذور فـ (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) فيما يستقبلونه، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما مضى مما يتركونه، كما قال سعيد بن جبير:فـ ( لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ) يعني:في الآخرة ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) يعني: لا يحزنون ؛ للموت.

وقوله تعالى:وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

وقوله تعالى: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ ) يبين به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم.

كما قال محمد بن إسحاق: عن ابن عباس، قال:لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله ﷺ أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله ﷺ، فقال رافع بن حُرَيْملة:  ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى وبالإنجيل. وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء. وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنـزل الله في ذلك من قولهما ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ) قال: إن كلا يتلو في كتابه تصديق من كفر به، أي: يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة، فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى، وما جاء من التوراة من عند الله، وكل يكفر بما في يد صاحبه.

وقال قتادة: ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ) قال: بلى، قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا. ( وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ ) قال:بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.

وقوله تعالى:  (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) يُبَيِّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا من القول، وهذا من باب الإيماء والإشارة. وقد اختلف فيما عنى بقوله تعالى: ( الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )

 

فقال الربيع بن أنس وقتادة: ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) قالا وقالت النصارى مثل قول اليهود وقيلهم. وقال ابن جُرَيج:قلت لعطاء:من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال:أمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل.

 وقال السدي: ( كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) فهم: كفرة العرب، قالوا: ليس محمد على شيء.

واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع، وليس ثمَّ دليل قاطع يعين واحدًا من هذه الأقوال، فالحمل على الجميع أولى، والله أعلم

وقوله تعالى: ( فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) أي: أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد، ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة. وهذا كقوله تعالى في سورة الحج: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) (الحج١٧)، وكما قال تعالى:( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (سبأ٢٦)

لله الحمد والفضل والمنة

No comments:

Post a Comment