Friday 6 March 2015

تدبر آية من القرآن العظيم - الحزب27 - من سورة الحجر؛ الفراسة

  


 




الفِراسة :

والآيات من  سورة " الحجر" ،في قوله تعالى :ـ
 ( وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ) (الحجر : 22 )
أي فأنزلنا من السحاب ماءً عذباً، جعلناه لسقياكم ولشرب أرضكم ومواشيكم
و كلمة ( فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ)  هي أطول كلمة في القرآن الكريم هي مكونة من 11 حرف .

- وقوله سبحانه  وتَعَالَى:" إنَّ فِي ذَلِكَ لِآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ"  (الحجر : 75)
أَيْ الْمُتَفَرسِينَ ، اي ذوي الفِراسة – بكسر الفاء ، والفَراسة بفتح الفاء من الفروسية ؛ركوب الخيل -
قال ابن كثير في تفسيره للمتوسمين : عن ابن عباس اي للناظرين، وقيل : للمعتبرين ، وقيل للمتأملين .

وفي تفسير الآية :
أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد – التي قصها في هذه السورة ، وهم قوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب الأيكة، في قصصهم آيات  لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته، قال مجاهد في قوله: { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } المتفرسين. وقال قتادة: للمعتبرين
وعن أبي سعيد مرفوعاً قال: قال رسول الله : «اتقوا فراسة المؤمن, فإنه ينظر بنور الله» ثم قرأ النبي {إن في ذلك لاَيات للمتوسمين} رواه الترمذي، وابن جرير ، وقال: «إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم»،  رواه الحافظ أبو بكر البزار.
وتأييده قوله تَعَالَى: " وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ " (محمد 30)

ما هي الفراسة؟
قال الراغب الأصفهانىّ فى كتاب (الذريعة): وأما الفراسة ، فالاستدلال بهيئة الإنسان وأشكاله وألوانه وأقواله ، على أخلاقه وفضائله ورذائله .
والفِراسة نور يقذفه الله في قلب عبده المؤمن الملتزم سنة نبيه يكشف له بعض ما خفي على غيره مستدلاً عليه بظاهر الأمر فيسدد في رأيه، يفرق بهذه الفراسة بين الحق والباطل والصادق والكاذب دون أن يستغني بذلك عن الشرع
ولفظ الفراسة من قولهم : (فرس السبع الشاه) أي : اختلسه وأكله، فكأن الفراسة اختلاس المعارف .
وقيل ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه، وقيل تكشفه فلتات لسانه، ونظرات عينيه، وحركات شكله في وجهه ومقاطعه.
وكان يقال: العين و الوجه واللسان أصحاب أخبار على القلب، وقالوا : القلوب كالمرايا المتقابلة، إذا ارتسمت في إحداهن صورة ظهرت في الاخرى.
قَالَ الشاعر زُهَيْرٌ :
وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِئٍ مِنْ خَلِيقَةٍ  ****  وَإِنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمْ
 وقال آخر :
تخبرني العينان ما القلبُ كاتمُ * * وما جَنَّ بالبغضاءِ والنَّظرِ الشَّزر
ويسمى صاحب هذه الملكة "المروّع والمحدّث"، وقال: " إن يكن فى هذه الأمة محدّث ، فهو عمر"

فراسة النبي :

ومن فِراسة النبي ، ما ورد في الصحيحين ، ومنه عند مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة المتلاعنين ، أن الرجل شهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، ثم لعن الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، فذهبت لتلعن ، فقال لها رسول الله : " مه " – أي أن النبي يريد أن يثنيها عن أن تلعن ، لعلمه أنها كاذبة - فأبت فلعنت ، فلما أدبر قال : لعلها أن تجيء به أسود جعدا " فجاءت به أسود جعدا.- كما توقع ،  وحدّث ‏عروة ‏ ‏عن ‏ ‏ابن عباس ‏ ‏قال: ‏ قال رسول الله ‏ ‏: " ‏‏لو كنت راجما أحدا بغير ‏ ‏بينة ‏ ‏لرجمت فلانة فقد ظهر منها ‏ ‏الريبة ‏ ‏في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها ‏"( صحيح ابن ماجة) 

من أخبار السلف في الفِراسة:

-قال معن بن زائدة: ما رأيت قفا رجل قطّ إلا عرفت عقله، فقال له الفضل بن شهاب : فإن رأيت وجهه؟  قال: فذلك حينئذ في كتاب أقرأه.
-ومر إياس بن معاوية ذات يوم بماء، فقال: أسمع صوت كلب غريب، قيل له: كيف عرفت ذلك؟ قال بخضوع صوته وشدة نباح غيره من الكلاب. قالوا: فإذا كلب غريب مربوط، والكلاب تنبحه.
-ودخل رجل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد رأى امرأة في الطريق فتأمل محاسنها، فقال له عثمان: يدخل عليّ أحدكم وأثر الزنى ظاهر على عينيه؟! فقلت: أوحيٌ بعد رسول الله ؟ فقال: لا، ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة.
-روي عن الشافعي ومحمد بن الحسن أنهما كانا بفناء الكعبة ورجل على باب المسجد فقال أحدهما: أراه نجاراً، وقال الآخر: بل حداداً، فتبادر من حضر إلى الرجل فسأله فقال: كنت نجاراً وأنا اليوم حداد.
-وقال مالك عن يحيى بن سعيد إن عمر بن الخطاب قال لرجل ما اسمك؟ قال: جمرة، قال: ابن من؟ قال ابن شهاب، قال: ممن، قال: من الحرقة، قال أين مسكنك؟ قال: بحرة النار، قال: أيها قال بذات لظى، فقال عمر: أدرك أهلك فقد احترقوا فكان كما قال.
-وقال الحارث بن مرة نظر إياس بن معاوية إلى رجل فقال هذا غريب وهو من أهل واسط وهو معلّم وهو يطلب عبداً له آبق، فوجدوا الأمر كما قال، فسألوه فقال رأيته يمشي ويلتفت فعلمت أنه غريب، ورأيته وعلى ثوبه حمرة تربة واسط، فعلمت أنه من أهلها، ورأيته يمر بالصبيان فيسلم عليهم ولا يسلم على الرجال فعلمت أنه معلم، ورأيته إذا مر بذي هيئة لم يلتفت إليه، وإذا مر بذي أسمال تأمله فعلمت أنه يطلب آبقا.
-ومن الفراسة أن المنصور جاءه رجل فأخبره أنه خرج في تجارة فكسب مالا، فدفعه إلى امرأته، ثم طلبه منها، فذكرت أنه سرق من البيت ولم ير نقباً ولا أمارة، فقال المنصور منذ كم تزوجتها، قال منذ سنة، قال بكرا أو ثيبا، قال ثيبا، قال فلها ولد من غيرك، قال لا، قال فدعا له المنصور: بقارورة طيب كان حاد الرائحة وغريب النوع فدفعها إليه وقال له تطيب من هذا الطيب فإنه يذهب غمك فلما خرج الرجل من عنده قال المنصور لأربعة من ثقاته: ليقعد على كل باب من أبواب المدينة واحد منكم، فمن شم منكم رائحة هذا الطيب من أحد فليأت به، وخرج الرجل بالطيب فدفعه إلى امرأته فلما شمته بعثت منه إلى رجل كانت تحبه وقد كانت دفعت إليه المال فتطيب منه، ومر مجتازا ببعض أبواب المدينة فشم الموكل بالباب رائحته عليه فأتى به المنصور فسأله من أين لك هذا الطيب فلجلج في كلامه، فدفعه إلى والي الشرطة فقال إن أحضر لك كذا وكذا من المال فخل عنه وإلا اضربه ألف سوط، فلما جرّد للضرب أحضر المال على هيأته فدعا المنصور صاحب المال فقال: أرأيت إن رددت عليك المال تحكّمني في امرأتك، قال نعم، قال هذا مالك، وقد طلقت المرأة منك.
الفِراسة والقضاء:

وقال رجل لإياس بن معاوية: علمني القضاء فقال إن القضاء لا يعلم إنما القضاء فهم، ولكن قل: علمني من العلم. وهذا هو سر المسألة فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} فخص سليمان بفهم القضية وعمهما بالعلم.
وقد كان بعض قضاة المالكية يحكم بالفراسة فى الأحكام ، جرياً على طريق إياس بن معاوية . انتهى .

الفِراسة الإيمانية :

هذه الفراسة هي ما يسميه العلماء بالفراسة الإيمانية، وهذا يكون بحسب قوة الايمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدُّ فِراسةً. فمن غرس الإيمان في أرض قلبه الطيبة الزاكية وسقى ذلك الغراس بماء الإخلاص والصدق والمتابعة، كان من بعض ثمره هذه الفراسة، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قول الله تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين }" رواه الترمذي. وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله : " إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم" (رواه الطبراني في الأوسط، حسنه الألباني)

ما يقوي الفراسه في المؤمن :

قال أبو شجاع الكرماني: من عمر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة وكفَّ نفسه عن الشهوات وغض بصره عن المحارم واعتاد أكل الحلال لم تخطىء له فراسة وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به ثم قال بعد ذلك: إن في ذلك لآيات للمتوسمين وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة، وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم: { الله نور السموات والأرض }( النور 35)،  قال ابن القيم رحمه الله معقباً على كلام الكرماني وسر هذا: أن الجزاء من جنس العمل فمن غض بصره عما حرم الله عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق الله نور بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى، وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه، فإن القلب كالمرآة والهوى كالصدأ فيها فإذا خلصت المرآة من الصدأ انطبعت فيها صور الحقائق كما هي عليه، وإذا صدئت لم تنطبع فيها صور المعلومات فيكون علمه وكلامه من باب الخرص والظنون، انتهى.
 
الفرق بين الفراسة والظن:

والفرق بين الفراسة والظن أن الظن يخطىء ويصيب وهو يكون مع ظلمة القلب ونوره وطهارته ونجاسته، ولهذا أمر تعالى باجتناب كثير منه، وأخبر أن بعضه إثم. وأما الفراسة فأثنى على أهلها ومدحهم في قوله تعالى: { إن في ذلك لآيات للمتوسمين} ، وقال تعالى: { يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم ( البقرة 273)، وقال تعالى: { ولو نشاء لأريناهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول} ( محمد 30)
 فالفراسة الصادقة لقلب قد تطهر وتصفى وتنـزه من الأدناس وقرب من الله فهو ينظر بنور الله الذي جعله في قلبه. ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي فيما يروي عن ربه عز وجل أنه قال: "ما تقرب إليّ عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها". فأخبر سبحانه أن تقرب عبده منه يفيده محبته له فإذا أحبه قرب من سمعه وبصره ويده ورجله فسمع به وأبصر به وبطش به ومشى به فصار قلبه كالمرآة الصافية تبدو فيها صور الحقائق على ما هي عليه فلا تكاد تخطىء، له فراسة فإن العبد إذا أبصر بالله أبصر الأمر على ما هو عليه، فإذا سمع بالله سمَّعه على ما هو عليه وليس هذا من علم الغيب، بل علام الغيوب قذف الحق في قلب قريب مستبشر بنوره غير مشغول بالأباطيل والخيالات والوساوس التي تمنعه من رؤية الحقائق، وإذا غلب على القلب النور فاض على الأركان وبادر من القلب إلى العين فكشف بعين بصره بحسب ذلك النور.

فراسة الألفاظ:
ومن الفراسة غير ما تقدم ما يسمى بالفراسة في تحسين الألفاظ وانتقائها،وهو باب عظيم اعتنى به الأكابر والعلماء، وله شواهد كثيرة في السنة وهو من خاصية العقل والفطنة.
وأصل هذا الباب قول الله تعالى: { وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم } ( الإسراء 53) إذا كلم بعضهم بعضا بغير التي هي أحسن فرب حرب وقودها جثث، أهاجها القبيح من الكلام. وفي الصحيحين من حديث سهل بن حنيف قال قال رسول الله : " لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي"  وخبثت ولقست متقاربة المعنى، فكره رسول الله لفظ الخبث لبشاعته وأرشدهم إلى العدول إلى لفظ هو أحسن منه، وإن كان بمعناه تعليما للأدب في المنطق وإرشادا إلى استعمال الحسن وهجر القبيح في الأقوال كما أرشدهم إلى ذلك في الأخلاق والأفعال
- فمن هذا الباب: أن الرشيد رأى في داره حزمة خيزران فقال لوزيره الفضل بن الربيع ما هذه؟ قال: عروق الرماح يا أمير المؤمنين ولم يقل الخيزران لموافقته لاسم أم الرشيد.
-ونظير هذا أن بعض الخلفاء سأل ولده وفي يده مسواك ما جمع هذا قال: ضد محاسنك يا أمير المؤمنين. ( لا يريد أن يقول لأبيه – مساويك-أي مساوءك)
-وخرج عمر رضي الله عنه يعس المدينة بالليل، فرأى نارا موقدة في خباء فوقف وقال: يا أهل الضوء، وكره أن يقول يا أهل النار.
-وسئل العباس أنت أكبر أم رسول الله فقال هو أكبر مني وأنا ولدت قبله.
-ومن ألطف ما يحكى في ذلك أن بعض الخلفاء سأل رجلا عن اسمه فقال سعد يا أمير المؤمنين فقال أي السعود؟ قال: سعد السعود لك يا أمير المؤمنين، وسعد الذابح لأعدائك وسعدٌ بلع على سماطك، وسعد الأخبية لسرك فأعجبه ذلك. ويشبه هذا أن معن بن زائدة دخل على المنصور فقارب في خطوه فقال له المنصور: كبرت سنك يا معن، قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين، قال: إنك لجلد، قال: على أعدائك، قال: وإن فيك لبقية. قال: هي لك يا أمير المؤمنين.

No comments:

Post a Comment