Tuesday 23 June 2015

شرح أدعية عظيمة - دعاء القنوت - اللهم اهدنا فيمن هديت

 


  
  
 
 
  
دعاء القنوت
متن الحديث :
ورد في مسند الإمام أحمد عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: علَّمني رسول الله صلى الله عليه وسلّم كلمات أقولهن في قنوت الوتر: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرَّ ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تبارك ربنا وتعاليت» رواه أحمد وأبوداود،والترمذي، والنسائي، وابن ماجة 


هذا الدعاء الجليل، عظيم القدر والشأن, مشتمل على مقاصد ومطالب عظيمة, في الدين, والدنيا, والآخرة، وفيه معان جلال, في مسائل العقيدة والتوحيد, من التوسلات: بأسماء اللَّه تعالى وصفاته, وأفعاله, وتوسلٌ بآلائه وإنعامه, وكذلك إثبات وإقرار بصفاته تعالى المثبتة والمنفية, وإيمان بالقضاء والقدر, والمشيئة, بأجمل المباني، وأوسع المعاني, وقد ثبت هذا الدعاء المبارك في حالتين: في دعاء قنوت الوتر الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم  للحسن بن علي رضى الله عنهما وثبت عن أنس رضى الله عنه في قوله: (كان يعلمنا هذا الدعاء) فدلّ على أهمية هذا الدعاء المبارك من أمرين: تعليمه لابن ابنته الحسن كما سبق, وكذلك للصحابة، كما قال أنس (وكان يعلمنا ..) فقد ذكرنا في عدة مواضع أن فعل المضارع بعد كان, يدل على المداومة على الفعل، والاستمرارية عليه.

شرح الحديث :
*
" اللهم اهدنا " :
فبدأ بأولى المطالب وأجلّها, الذي عليها الفلاح في الدارين الهداية: فسأل اللَّه تبارك وتعالى الهداية التامة النافعة, الجامعة لعلم العبد بالحق, والسير عليه،  فإن أصل الهداية: الدلالة،و هي نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهي معرفة الحق، والعلم به، وهداية توفيق وسداد وثبات،  وهذه الهداية لا يملكها إلا هو عز وجل فينبغي للعبد حين يسأل اللَّه سبحانه وتعالى الهداية أن يستحضر هاتين الدلالتين التي تجمع بين: العلم، والعمل ، كما في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6]، يشمل الهدايتين هداية العلم، وهداية العمل، فينبغي للقارئ أن يستحضر أنه يسأل الهدايتن  هداية العلم وهداية العمل.
* “فيمن هديت" يسأل الله أن يدخله في جملة المهديين وزمرتهم، وهم كما قال اللَّه تعالى:{ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} النساء 69
ثانياً: أن فيه توسلاً إليه بإحسانه وإنعامه, وهو من التوسّلات الجليلة المقتضية للإجابة كما سبق في توسّل زكريا عليه السلام: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} ( مريم 7 ) أي : يا رب قد هديت من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً, فأنعم عليَّ بالهداية كما أنعمت عليهم.
ثالثاً: أن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم، ولا بأنفسهم, وإنما كان منك، فأنت الذي هديتهم.
رابعاً: أن الهداية التي نطلبها لا تحصل هكذا غالباً، بل لابد لها من أسباب نبذلها، وأهم هذه الأسباب، وأجلها الدعاء، وصدق التوجه إليك، والمجاهدة في تحصيله.
فيارب نسألك الهداية فإن ذلك من مقتضى رحمتك وحكمتك ومن سابق فضلك فإنك قد هديت أناسًا آخرين.
*وعافنا فيمن عافيت":
عافنا من أمراض القلوب وأمراض الأبدان. أمراض الأبدان معروفة لكن أمراض القلوب تعود إلى شيئين:
الأول: أمراض الشهوات ، التي منشؤها الهوى : أن يعرف الإنسان الحق ، لكن لا يريده ؛ لأن له هوًى مخالفًا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلّم.
الثاني: أمراض الشبهات التي منشؤها الجهل ، التي منشؤها الجهل ؛ لأن الجاهل يفعل الباطل يظنه حقًّا وهذا مرض خطير جدًّا؛ فأنت تسأل الله المعافاة والعافية من أمراض الأبدان، ومن أمراض القلوب، التي هي أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات.
* "وتولنا في من توليت "
أي : كن ولياً لنا الولاية الخاصة التي تقتضي العناية بمن تولاه الله عزَّ وجلَّ والتوفيق لمايحبه ويرضاه،  فيه توسل إلى اللَّه تبارك وتعالى بفعل الولاية, وهو مشتق من اسمين للَّه تعالى من الأسماء الحسنى: (الولي، والمولى): اللذين يدلان على معنى الولاية العامة: وهي لكل الخلائق، كما في قوله تعالى: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَق} (الأنعام 62)، وولاية خاصة: وهي ولاية اللَّه تعالى للمؤمنين، كما قال تعالى: { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}( البقرة 257) وهذه هي الولاية المقصودة في هذا الدعاء المبارك التي تقتضي: التوفيق, والنصرة, والعناية, والصبر عن كل ما يغضب اللَّه تبارك وتعالى , وفي هذا تنبيه على أن من حصل له ذلّ في الناس، فهو بنقصان ما فاته من تولى اللَّه تعالى.
*"وبارك لنا فيما أعطيت" :
أي: أنزل لي البركة فيما أعطيتني ، والبَرَكَة هي النماء والخير الكثير الثابت، وتكون حسية أو معنوية، ففي هذا سؤال اللَّه عز وجل البركة في كل ما أعطاه الرب سبحانه وتعالى: من علم أو مال, وفي العمر، والأهل, والذرية, والمسكن، وغير ذلك, بأن ينميه، ويثبته، ويحفظه ويسلمه من كل الآفات.
لأن الله إذا لم يبارك لك فيما أعطاك، حرمت خيرًا كثيرًا.ماأكثر الناس الذين عندهم مال كثير لكنهم في عداد الفقراء؛ لأنهم لا ينتفعون بمالهم، وهذا من نزع البركة، كثير من الناس عنده أولاد، لكن أولاده لا ينفعونه لما فيهم من عقوق، وهؤلاء لم يُبَارَكْ لهم في أولادهم. وقد يكون ممن أعطاه الله علمًا كثيرًا لكنه بمنزلة الأمي، لا يظهر أثر العلم عليه في عبادته، ولا في أخلاقه، ولا في سلوكه، ولا في معاملته مع الناس، بل قد يُكْسِبه العلم استكبارًا على عباد الله، وعلوًّا عليهم، وتجده لم يتفع الناس بعلمه، لا بتدريس، ولا بتوجيه، ولا بتأليف، بل هو منحصر على نفسه، وهذا بلا شك حرمان عظيم، مع أن العلم من أبرك ما يعطيه الله للعبد .
* "وقنا شر ما قضيت":المعنى: قِنَا شرَّ الذي قضيت، فإن الله تعالى يقضي بالشرِّ لحكمة بالغة حميدة ، وليست (ما) هنا مصدرية أي شر قضائك لكنها اسم موصول بمعنى الذي، لأن قضاء الله ليس فيه شر محض، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم فيما أثنى به على ربه: «والخير بيديك والشر ليس إليك» لهذا لا ينسب الشر إلى الله سبحانه وتعالى، ففي كل قضاء قضاه الله لعبادة فيه من الخير ما لم يظهر لهم في حينه، خذ مثلا:(القحط ، أو الفقر) فهو في المتعارف شر حادث، ولكنة خير من ناحية تذكير الناس بربهم، ولجوئهم إليه، كما قال تعالى:{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} ( الروم 47)
* "إنك تقضي ولا يقضى عليك": الله عزَّ وجلَّ يقضي قضاء شرعيًّا وقضاء كونيًّا، فالله تعالى يقضي على كل شيء وبكل شيء؛ لأن له الحكم التام الشامل.
* "ولا يقضى عليك": أي لا يقضي عليه أحد، فالعباد لا يحكمون على الله، والله يحكم عليهم، العباد يُسألون عما عملوا، وهو لا يُسأل: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 32].
* " إنه لا يذل من واليت، ولا يعزّ من عاديت": هذا كالتعليل لقولنا فيما سبق: "وتولنا فيمن توليت"، فإذا تولى الله الإنسان فإنه لا يذل، وإذا عادى الله الإنسان فإنه لا يعز.
ومقتضى ذلك أننا نطلب العز من الله سبحانه، ونتقي من الذل بالله عزَّ وجلَّ، فلا يمكن أن يذل أحد والله تعالى وليه، فالمهم هو تحقيق هذه الولاية. وبماذا تكون هذه الولاية؟
 ولا يعزّ من عاديت : يعني أن من كان عدوًّا لله فإنه لا يعز، بل حاله الذل والخسران والفشل، ولهذا لو كان عند المسلمين عز الإسلام وعز الدين وعز الولاية ؛ لم يكن هؤلاء الكفار على هذا الوضع الذي نحن فيه الان ؛ لأن أكثر المسلمين اليوم مع الأسف لم يعتزوا بدينهم، ولم يأخذوا بتعاليم الدين، وركنوا إلى مادة الدنيا وزخارفها؛ ولهذا أصيبوا بالذل، فصار الكفار في نفوسهم أعز منهم.
 " تباركت ربنا وتعاليت":  هذا ثناء على الله عزَّ وجلَّ بأمرين : أحدهما التبارك ، والتاء للمبالغة ؛ لأن الله عزَّ وجلَّ هو أهل البركة " تباركت " أي كثرت خيراتك وعمت ووسعت الخلق؛ لأن البركة كما قلنا فيما سبق هي الخير الكثير الدائم.
 *" ربنا " أي يا ربنا ، فهو منادى حذفت منه ياء النداء.
* " وتعاليت " أي أن لك العلو المطلق من كل الوجوه من الكمال: علوّ الذات، وعلوّ الغلبة والقهر، وعلوّ النزاهة عن كل العيوب والنقائص والآفات.
1-  أمّا علوّ الذات: فهو سبحانه وتعالى عليَّ بذاته، فوق كل خلقه، مستوٍ على عرشه، كما يليق بجلاله.
2-  وعلوّ الصفات: فله علوّ الكمال في صفاته التي لا أكمل منها، ولا أعلى منها، التي لا تحيط كل الخلائق ببعض معاني صفة واحدة من صفاته.
3-  وعلوّ الغلبة والقهر: هو الغالب والقاهر لكل شيء، فلا ينازعه منازع، ولا يغالبه مغالب، فدانت له كل الكائنات، وخضعت تحت سلطانه كل المخلوقات.
4-  وعلوّ النزاهة عن كل العيوب، والنقائص، لكماله من كل الوجوه.
5-  وهو المتعالي عن الشريك، والنظير، والمثيل.
فقد تضمّن هذا الدعاء العظيم أعظم مسائل الإيمان، وأصول السعادة والأمان في الدارين، فمن أعظم مسائل الإيمان تضمنه في إثبات صفات وأفعال الكمال والجلال للَّه تعالى التي منها: صفة (الهداية)، المشتقة من اسم (الهادي)، وصفة (الولاية) المشتقة من اسم (الولي،والمولى)، وصفة (البركة والتبارك) للَّه عز وجل، وصفة (الوقاية)، وصفة (القاضي)، وصفة (العداوة)، وصفة (التعالي) المشتقة من أسماء (العلي، الأعلى، المتعال)، وصفة من صفاته المنفيه: (ولا يقضى عليك)، والإقرار بالمشيئة الكاملة، والإرادة النافذة لكل المخلوقات، وتضمّن أصول السعادة في سؤال: الهداية، والعافية، والتولي، والبركة، والوقاية، فإن هذه المطالب الجليلة عليها السعادة، والهناء في الدنيا، والآخرة.
من شرح الشيخ بن عثيمين للدعاء، وموقع كلمات بتصرف

No comments:

Post a Comment