Friday 1 January 2016

تفسير مختصر وربط للآيات وبيان متشابهات – سورة الرحمن ج2

  
 



 سورة الرحمن ج2 

قوله تعالى: { مَرَ‌جَ الْبَحْرَ‌يْنِ يَلْتَقِيَانِ } قال ابن عباس: أي أرسلهما، ويقال‏:‏ مرج خلط، وقوله { الْبَحْرَ‌يْنِ‏ } قيل‏:‏ بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهم،  وقيل أن المقصود به البحر المالح والأنهار العذبة‏، وقيل بل هما البحران مالحان، ويؤيد هذا القول الآية التي جاءت بعده { يَخْرُ‌جُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْ‌جَانُ} فكلاهما لا يخرجان إلا من البحر المالح وليس العذب – حديثا تم زراعة اللؤلؤ في المياه العذبة- { يَلْتَقِيَانِ} أي عند لقاءهما، أو تقاربهما { بَيْنَهُمَا بَرْ‌زَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ ‏} برزخ أي حاجز قال ابن زيد: أي منعهما أن يلتقيا بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما.
إعجاز علمي:
في هذه الآية لإعجاز علمي أثبته الله تعالى الخالق لهذا لكون الخبير به قبل أن يتعرف عليه العلماء بقرون تسعة عشر ، فقد اكتشف العلماء في نهاية القرن التاسع عشر حقيقة عدوها في حينها أقرب ما يكون للمعجزة؛  لكونها تحدث داخل البحار، وكذلك فإنه لا يمكن رؤيتها حتى ولو تم الوصول لمكان حدوثها.
هذه الظاهرة هي وجود حاجز أو فاصل بين المياه المالحة والمياه العذبة عند إلتقائهما في مكان ما، هذا الحاجز يحول دون حركة كل من المائين باتجاه بعضهما البعض{ لَّا يَبْغِيَانِ } أي لا يتعدى أحدهما على الآخر، فلا يمتزجان مع أن مستوى الماء العذب أعلى من مستوى الماء المالح.
تحدث القرآن الكريم عن وجود هذه الظاهرة العجيبة في أربع آيات قرآنية
آية سورة الرحمن التي بين أيدينا، وقوله عز وجل{ أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا } [النمل: 61]
وقوله تعالى:{ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَ‌انِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَ‌اتٌ سَائِغٌ شَرَ‌ابُهُ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۖ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِ‌يًّا وَتَسْتَخْرِ‌جُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}[ فاطر 12]
وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان 53] ، وسبحانه في آية سورة فاطر، والفرقان يفصِّل ويبين أن البحرين أحدهما عذبٌ، والآخر ملح أجاج ، وفي آية الرحمن ، والنمل لم يغاير بين البحرين إلى مالح وعذب ، فدل على أن الحاجز موجود أيضاعند نقطة لقاء البحور المالحة بعضها ببعض المختلفة البيئة أوالملوحة والحرارة وغير ذلك، هذا يؤيده البحث العلمي الذي أثبت أن هذا الحاجز موجود في البحر الواحد المختلف البيئات، فسبحان الله  لدقة التعبير، واتساع اللفظ.
عودة للتفسير:
 وقوله تعالى: { يَخْرُ‌جُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْ‌جَانُ } أي من مجموعهما، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى ، واللؤلؤ معروف، وأما المرجان فقيل: هو صغار اللؤلؤ، وقيل: كباره وجيده، وقيل: هو نوع من الجواهر أحمر اللون، قال ابن مسعود: المرجان الخرز الأحمر.
المرجان من الأحياءالبحرية:
المرجان هو حيوان بحري لا يحيا إلا في الماء الملح‏,‏ ويتبع طائفة الزهريات‏,‏ وهي من طوائف قبيلة جوفيات المعي التي غالبا ما تعيش في مستعمرات كبيرة الا أن منها ما يحيا حياة فردية‏,‏ ويفرز الفرد منها هيكلا كلسيا‏(‏ من كربونات الكالسيوم‏),‏ وتكون هياكل المستعمرات الكبيرة شعابا ضخمة تعرف باسم الشعاب المرجانية ومنها المرجان الأحمر الذي يعتبر ضمن المعادن شبه النفيسة‏.‏
وقوله:  تعالى في آية فاطر:{ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِ‌يًّا وَتَسْتَخْرِ‌جُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا}( فاطر 12)، فاللحم من كلِّ من الأجاج والعذب، والحلية إنما هي من المالح دون العذب، ولما كان اتخاذ هذه الحلية نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال: { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَ‌بِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ وقوله تعالى: { وَلَهُ الْجَوَارِ‌ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ‌ كَالْأَعْلَامِ } يعني السفن التي تجري { فِي الْبَحْرِ‌ } قال مجاهد: ما رفع شراعه من السفن فهي منشآت وما لم يرفع شراعه فليس بمنشآت. وقال قتادة: المنشآت يعني المخلوقات، فـ{الْمُنشَآتُ}: هي المرفوعات من نشأت السحابة إذا ارتفعت ، وأنشأه الله إذا رفعه ، وحينئذ إما هي بأنفسها مرتفعة في البحر، وإما مرفوعات الشراع ، ويصح أن تكون : المحدثات الموجودات من أنشأ الله المخلوق أي خلقه ، { كَالْأَعْلَامِ } أي كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم، مما فيه صلاح الناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع، ولهذا قال: { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَ‌بِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ عن عمرة بن سويد قال: "كنت مع علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه على شاطئ الفرات إذ أقبلت سفينة مرفوع شراعها فبسط عليٌّ يديه، ثم قال: يقول اللّه عزَّ وجلَّ: { وَلَهُ الْجَوَارِ‌ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ‌ كَالْأَعْلَامِ} والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله) "أخرجه ابن أبي حاتم"
مسالة :
ما الفائدة في جعل الجواري خاصة له سبحانه { ولَهُ لْجَوَارِ‌ وله السماوات وما فيها والأرض وما عليها ؟
نقول أن هذا الكلام مع العوام، أو هو لجميع الناس، فذكر ما لا يغفل عنه من له أدنى عقل فضلا عن الفاضل الذكي، فقال : لا شك أن الناس عند ركوبهم الفلك في البحر يوقنون أن الفلك لا يملكه في الحقيقة أحد، ولا تصرف لأحد فيه ، وإنما كلهم منتظرون رحمة الله تعالى معترفون بأن أموالهم وأرواحهم في قبضة قدرة الله تعالى،  وهم في ذلك يقولون : لك الفلك ولك الملك ، وينسبون البحر والفلك إليه ، ثم إذا خرجوا ونظروا إلى بيوتهم المبنية بالحجارة والكلس وانزاح عليهم وجوه الهلاك ، يدعون لأنفسهم ملك الفلك، وينسبون لأنفسهم ما كانوا ينسبونه لله، وإليه الإشارة بقوله : { فَإِذَا رَ‌كِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّـهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ‌ إِذَا هُمْ يُشْرِ‌كُونَ } [ العنكبوت65 ]   .
وما الفائدة من جمع الجواري وتوحيد البحر وجمع الأعلام؟
 فائدة عظيمة ، وهي أن ذلك إشارة إلى عظمة البحر ، ولو قال : في البحار لكانت كل جارية في بحر ، فيكون البحر دون بحر يكون فيه الجواري التي هي كالجبال ، وأما إذا كان البحر واحدا وفيه الجواري التي هي كالجبال يكون ذلك بحرا عظيما وساحله بعيدا فيكون الإنجاء بقدرة كاملة . [ من كتاب التفسير الكبير؛ أو مفاتيح الغيب للرازي ]

وقوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَ‌بِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَ‌امِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَ‌بِّكُمَا تُكَذِّبَانِ }
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون، وكذلك أهل السماوات إلا من شاء اللّه، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم، فإن الرب تعالى وتقدس هو الحي الذي لا يموت أبداً، قال قتادة: أنبأ بما خلق، ثم أنبأ أن ذلك كله فانٍ، قال ابن عباس‏:‏ لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة هلك أهل الأرض، فنزلت: {كل شيء هالك إلا وجهه‏} [القصص88‏]‏ فأيقنت الملائكة بالهلاك، وقاله مقاتل‏.‏ ووجه النعمة في فناء الخلق التسوية بينهم في الموت، ومع الموت تستوي الأقدام‏.‏ وقيل‏:‏ وجه النعمة أن الموت سبب النقل إلى دار الجزاء والثواب وفي الدعاء المأثور: "يا حي يا قيوم، يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، لا إله إلا أنت، برحمتك نستغيث، أصلح لنا شئننا كله، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا إلى أحد من خلقك" . وقال الشعبي: إذا قرأت: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}  فلا تسكت حتى تقرأ: { وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَ‌بِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَ‌امِ . وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام، أي هو أهل أن يُجل فلا يُعصى، وأن يُطاع فلا يُخالف، كقوله تعالى: { يريدون وجهه} ، وكقوله: { إنما نطعمكم لوجه اللّه}، قال ابن عباس: { ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَ‌امِ } ذو العظمة والكبرياء
معنى اسمه سبحانه { ذو الجلال والإكرام}:
{ ذو الجلال‏} ‏ الجلال عظمة الله وكبرياؤه واستحقاقه صفات المدح، يقال‏:‏ جل الشيء أي عظُم،  وأجللتُه أي عظَّمته، والجلال اسم من جل. { والإكرام‏}  أي هو أهل لأن يكرم عما لا يليق به من الشرك، كما تقول‏:‏ أنا أكرمك عن هذا، ومنه إكرام الأنبياء والأولياء‏.‏
 وروى أنس أن النبي قال : " ألِظُّوا بيا ذا الجلالِ والإكرامِ " (رواه الترمذي وصححه الألباني – وروي موقوفا من حديث ابن مسعود)
ومعناه‏:‏ الزموا ذلك في الدعاء‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الإلظاظ لزوم الشيء والمثابرة عليه‏.‏ ويقال‏:‏ الإلظاظ الإلحاح‏.‏ وعن سعيد المقبري‏.‏ أن رجلا ألح فجعل يقول‏:‏ اللهم يا ذا الجلال والإكرام‏!‏ اللهم يا ذا الجلال والإكرام‏!‏ فنودي‏:‏ إني قد سمعت فما حاجتك‏؟‏
وقوله تعالى: { يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ* كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه وأنهم يسألونه بلسان حالهم ومقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش: من شأنه أن يجيب داعياً أو يعطي سائلاً، أو يفك عانياً أو يشفي سقيماً، وقال مجاهد: كل يوم هو يجيب داعياً ويكشف كرباً، ويجيب مضطراً، ويغفر ذنباً، وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض يحيي حياً ويميت ميتاً، ويربي صغيراً ويفك أسيراً، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم، وروى ابن جرير عن منيب الأزدي قال: تلا رسول اللّه هذه الآية: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فقلنا: يا رسول اللّه وما ذاك الشأن؟ قال: (أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً ويضع آخرين) ( أخرجه ابن جرير مرفوعاً ورواه البخاري موقوفاً من كلام أبي الدرداء).
قال ابن عباس في قوله تعالى: { سَنَفْرُ‌غُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ } قال: وعيد من اللّه تعالى وتهديد للعباد، وليس باللّه شغل وهو فارغ، وقال قتادة: قد دنا من اللّه فراغ لخلقه، وقال ابن جريج: { سَنَفْرُ‌غُ لَكُمْ } أي سنقضي لكم، وقال البخاري: سنحاسبكم لا يشغله شيء عن شيء، وهو معروف في كلام العرب، يقال: لأفرغنّ لك، وما به شغل يقول: لآخذنك على غرتك، وقوله تعالى: { أَيُّهَ الثَّقَلَانِ } الثقلان: الإنس والجن كما جاء في الصحيح: " يسمعه كل شيء إلا الثقلين"  وفي رواية: " إلا الإنس والجن" ( صحيح الترغيب والترهيب للألباني)  وفي حديث الصور: " الثقلان الإنس والجن" سُميا بذلك لعظم شأنهما،  بالإضافة إلى أن لييس في الأرض غيرهما بسبب التكليف، وقيل‏:‏ سموا بذلك لأنهم ثقل على الأرض أحياء وأمواتا، قال الله تعالى‏ { ‏وأخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقالَها‏} [‏الزلزلة‏ 2‏]‏،  { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَ‌بِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، ثم قال تعالى: { يا مَعْشَرَ‌ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ‌ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } ومخاطبته سبحانه للجن دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم، لا فرق بيننا وبينهم في شيء من ذلك، وفي الآية أنهم لا تستطيعون هرباً من أمر اللّه وقدره، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكمه، أينما ذهبتم أحيط بكم، وهذا في مقام الحشر، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب، فلا يقدر أحد على الذهاب، ذكر ابن المبارك‏:‏ عن الضحاك قال: إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها، فتكون الملائكة على حافاتها حتى يأمرهم الرب، فينزلون إلى الأرض فيحيطون بالأرض ومن فيها، ثم يأمر الله السماء التي تليها كذلك فينزلون فيكونون صفا من خلف ذلك الصف، ثم السماء الثالثة ثم الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة ثم السابعة، فينزل الملك الأعلى في بهائه وملكه ومجنبته اليسرى جهنم، فيسمعون زفيرها وشهيقها، فلا يأتون قطرا من أقطارها إلا وجدوا صفوفا من الملائكة، { إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أي إلا بأمر اللّه، { يقولُ الإنْسانُ يَومئذٍ أيْنَ المَفَر} ( القيامة 10) ولهذا قال تعالى:{ يُرْ‌سَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ‌ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَ‌انِ }أي لو خرجتم أرسل عليكم شواظ من نار، وأخذكم العذاب المانع من النفوذ‏ ، قال ابن عباس: الشواظ هو لهب النار، وعنه: الشواظ الدخان، وقال مجاهد: هو اللهب الأخضر المنقطع، وقال الضحّاك: { شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ‌ } سيل من نار، وقوله تعالى: { وَنُحَاسٌ } قال ابن عباس: دخان النار، والعرب تسمي الدخان نحاساً،  وقال مجاهد: النحاس الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم، والمعنى: لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بارسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا، ولهذا قال: { فَلَا تَنتَصِرَ‌انِ فبأي آلاء ربكما تكذبان}؟ أي لا ينصر بعضكم بعضا .
يقول تعالى: { فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَاءُ}  يوم القيامة كما دلت عليه الآيات الواردة في معناها، كقوله تعالى: { وانشقت السماء فهي يومئذ واهية} ( الحاقة 16) ، وقوله: { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً}( الفرقان25) ، وقوله: { إذا السَّماءُ انْشَقَت وأذِنَتْ لرَبِها وَحُقَت} ( الإنشقاق1-2) ، وقوله تعالى: { فَكَانَتْ وَرْ‌دَةً كَالدِّهَانِ} أي تذوب كما يذوب الدُّردِي،  الدردي: ما يركد في أسفل كل مائع كالشراب والأدهان والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم. عن أنَس بن مالك قال، قال رسول اللّه : " يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم" ( رواه الإمام أحمد وهو غريب، وفي إسناده مقال)، قال الجوهري: الطش المطر الضعيف، وقال ابن عباس: { وَرْ‌دَةً كَالدِّهَانِ} والمعنى أنها صارت في صفاء الدهن، والدهان على هذا جمع دهن‏، وقال سعيد بن جبير وقتادة‏:‏ المعنى فكانت حمراء‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها‏.‏ وقيل‏:‏ تصير السماء حمراء كالأديم لشدة حر النار‏ ، وقال الحسن البصري: تكون ألواناً، وقوله تعالى: { فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ وهذه كقوله تعالى: { هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون} ( المرسلات 35 -36) فهذا في حال، و(ثَمَّ) في حال، يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم، قال اللّه تعالى: { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون}( الحجر92)، ولهذا قال قتادة { فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ}، قال: قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، قال ابن عباس: لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لم عملتم كذا وكذا، فهذا قول ثان، وقال مجاهد في هذه الآية: لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم، وهذا قول ثالث، وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسألون عن ذنوبهم، بل يقادون إليها ويلقون فيها كما قال تعالى: { يُعْرَ‌فُ الْمُجْرِ‌مُونَ بِسِيمَاهُمْ } أي بعلامات تظهر عليهم، وقال الحسن وقتادة: يعرفون باسوداد الوجوه وزرقة العيون، قلت : وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء، كما حدث به أبو هريرة قَال:َ إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ:"  إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ" ومن قوله:  فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ " (صحيح البخاري)
وقوله تعالى: { فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ}  أي يجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك، وقال ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور، وقال السدي: يجمع بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره، وقوله تعالى:{ هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِ‌مُونَ} أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها، ها هي حاضرة تشاهدونها عياناً، يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً، وقوله تعالى:{ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي تارة يعذبون في الحجيم، وتارة يسقون من الحميم، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء، وهذه كقوله تعالى: { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون}، وقوله تعالى: { آنٍ }، أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة قال ابن عباس: قد انتهى غليه واشتد حرّه، فقوله { حَمِيمٍ آنٍ } أي حميم حار جداً، ولما كان معاقبة العصاة المجرمين، وتنعيم المتقين من فضله ورحمته، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه، مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي، قال ممتناً بذلك على بريته: { فَبِأَيِّ آلَاءِ رَ‌بِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ لا بشيء من أياتك ربي نكذب

اللهم إنّا إماءك بنات إمائك بنات عبيدك ، نسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء أحزاننا ، وذهاب همومنا وغمومنا ، اللهم واجعله أنيسنا في وحشتنا ، وشفيعنا عندك ، وسائقنا إلى الجنان

No comments:

Post a Comment