Thursday 21 January 2016

تفسير مختصر وربط للآيات وبيان المتشابهات - سورة محمد ج 1

   


 




 

سورة محمد – سورة القتال 

التعريف بالسورة :  

1) سورة مدنية إلا الآية 13 نزلت في الطريق أثناء الهجرة .
2) من المثاني .
3) آياتها 38 .
4) ترتيبها السابعة والأربعون .
5) نزلت بعد الحديد .
6) بدأت السورة باسم موصول ذكر فيها اسم الرسول محمد في الآية الثانية
7) سميّت السورة بـ " محمد" تأكيداً لأهمية اتباع محمد ، الذي هو مقياس لقبول الأعمال، وعدم إحباطها.
8) الجزء " 26 " الحزب " 51 " الربع " 2،3،4، " .
محور مواضيع السورة : 

تتناول السورة أحكام القتال والأسرى والغنائم وأحوال المنافقين ولكن المحور الذي تدور عليه السورة هو موضوع " الجهاد في سبيل الله " .
سبب نزول السورة :
عن ابن جريج في قوله تعالى {  وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أعْمَالَهُم }  قَالَ : نَزَلَتْ فِيمَنْ قُتِلَ مِن أصحاب النبي يوم أُحُدْ . 
- تدور السورة حول محور واحد ، هو الحث على اتباع الرسول الذي هو مقياس قبول الأعمال .
وتشارك سورة محمد في هذا سورة الفتح والحجرات،  محورهم واحد وهو وجوب طاعة الرسول والسور الثلاثة مدنية ، ولكل منها هدف خاص بها نستعرض هنا فيما يلي تفصيل لهذه السورة .
-ورد في سورة محمد ذكر إحباط الاعمال وقبولها 12 مرّة في 38 آية وهذا لأهمية الأعمال في حياة المسلم، وتربط السورة دائماً مسألة قبول أو إحباط الأعمال بإطاعة الرسول واتّباع أوامره وسنّته.
 -وجاء في السورة ذكر القتال، وعليه سميت بسورة القتال، لأنه امتحان لصدق أتباع الرسول وهو أمر شاقُ على الأنفس فطاعة الرسول تتمثل في إقبالهم على الجهاد في سبيل الله،
- تتوسط السورة آية اساسية : (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ) ( 20 و21 ) تخبر المسلمين أنه أولى لهم طاعة الرسول إذا أرادوا قبول أعمالهم لأن كل طريق إلا طريق محمد فهو ضلال كما قال .
 وقال الإمام ابن حنبل: نظرت في القرآن فوجدت (أطيعوا الرسول) 33 مرة ثم سمعت قوله تعالى (فليحذر الذين يخالفون عن أمره).
-وختمت السورة بذكر عقاب المؤمنين الذين لا يتّبعون الرسول فيما يدعوهم إليه . (هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) آية 38.
تفسير السورة : 

الآيات الأولى من السورة مشتملات على ذكر ثواب المؤمنين وعقاب العاصين، والسبب في ذلك، ودعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك، فقال سبحانه: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } وهؤلاء رؤساء الكفر، وأئمة الضلال، الذين جمعوا بين الكفر بالله وآياته، والصد عنه لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله، التي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل واتباعه. فهؤلاء { أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي: أبطل الله أعمالهم وأشقاهم بسببها، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها ليكيدوا بها الحق وأولياء الله، أن الله جعل كيدهم في نحورهم، فلم يدركوا مما قصدوا شيئا، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها، أن الله سيحبطها عليهم، والسبب في ذلك أنهم اتبعوا الباطل، وهو كل غاية لا يراد بها وجه الله من عبادة الأصنام والأوثان، والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة، كانت الأعمال لأجلها باطلة.
وأما { وَالَّذِينَ آمَنُوا } بما أنزل الله على رسله عموما، وعلى محمد خصوصا، { وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة.
{ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } صغارها وكبارها، وإذا كفرت سيئاتهم، نجوا من عذاب الدنيا والآخرة. { وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } أي: أصلح دينهم ودنياهم، وقلوبهم وأعمالهم، وأصلح ثوابهم، بتنميته وتزكيته، وأصلح جميع أحوالهم، وفي حديث تشميت العاطس "يهديكم اللّه ويصلح بالكم"، والسبب في ذلك أنهم: { اتبعوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ } الذي هو الصدق واليقين، وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم، الصادرعن خالقهم الذي رباهم بنعمته، ودبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق فاتبعوه، فصلحت أمورهم، وبقي لهم ثوابها.
{ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ }  حيث بين لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها ويتميزون {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ } فيبين لهم مآل أعمالهم لهم وما يصيرون إليه في معادهم.
ثم يقول تعالى - مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم، ونصرهم على أعدائهم- : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } في الحرب والقتال، فاضربوا منهم الأعناق،{ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ}  حَتَّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم، فإذا فعلتم ذلك، ورأيتم الأسر أولى وأصلح، {  فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } أي: الرباط، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا، فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم، فإذا كانوا تحت أسركم، وسيطرتكم فأنتم بالخيار بين المنِّ عليهم، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء، وإما أن تفدوهم بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم، أو يشتريهم أصحابهم بمال، أو بأسير مسلم عندهم.
وهذا الأمر مستمر { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي: حتى لا يبقى حرب، وتبقون في المسألة والمهادنة، فإن لكل مقام مقالا ولكل حال حكما، فالحال المتقدمة، إنما هي إذا كان قتال وحرب.  فإذا كان في بعض الأوقات، لا حرب فيه لسبب من الأسباب، فلا قتل ولا أسر. ( ذَلِكَ ) الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين، ومداولة الأيام بينهم، وانتصار بعضهم على بعض { وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ } قي هذا ولو شاء اللّه لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده ،{ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } ي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء، ليختبركم ويبلو أخباركم، كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في قوله تعالى { أم حَسِبْتُم أنْ تَدْخُلوا الْجَنَّة ولمَّا يَعْلمِ اُللّه الذين جاهدوا مِنكُمْ ويَعْلمَ الصَّابِرينَ}. وقال تعالى: { قاتِلوهُمْ يُعَذِبْهمُ اللّه بِأيْديكمْ ويُخزِهِم ويَنْصُركُمْ عَلَيْهم ويَشْفِ صُدوَر قَوْمٍ مُؤمِنين}،
{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } لهم ثواب جزيل، وأجر جميل، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم، لتكون كلمة الله هي العليا. أي لن يذهبها بل يكثرها وينميها ويضاعفها، ومنهم من يجري عليه عمله طول برزخه، كما ورد بذلك الحديث عن المقدام بن معد يكرب الكِنْدي رضي اللّه عنه قال، قال رسول اللّه : " إن للشهيد عند اللّه ست خصال: أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج من الحور العين، ويجار عذاب القبر، ويأمن الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه" (الترمذي وصححه)، وعن عبد اللّه بن عمرو رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه قال: " يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين" (أخرجه مسلم في صحيحه). وفي الصحيح: "يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته" ( أخرجه أبو داود عن أبي الدرداء مرفوعاً)، والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جداً. وقوله تبارك وتعالى: { سَيَهْدِيهِمْ } أي إلى الجنة { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي أمرهم وحالهم، حالهم وأمورهم، وثوابهم يكون صالحا كاملا لا نكد فيه، ولا تنغيص بوجه من الوجوه. والهداية هنا للمقتولين للجنة ويصلح بالهم ويرتاحون عندما يدخلون الجنة، كما قال سبحانه:  {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ }  (43 الأعراف)
 { وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي عرفهم بها وهداهم إليها، قال مجاهد: يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم، وحيث قسم اللّه لهم منها، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، وكذلك فقد عرفها  لهم في الدنيا بأن شوقهم إليها، ونعتها لهم، وذكر لهم الأعمال الموصلة إليها، التي من جملتها الجهاد في سبيله، ووفقهم للقيام بما أمرهم به ورغبهم فيه، ثم إذا دخلوا الجنة، عرفهم منازلهم، وما احتوت عليه من النعيم المقيم، والعيش السعيد. وقد ورد الحديث الصحيح بذلك أيضا، رواه البخاري من حديث قتادة، عن أبي المتوكل الناجي، عن أبي سعيد الخدري  رضي الله عنه أن رسول الله قال: " إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار، يتقاصّون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنـزله في الجنة أهدى منه بمنـزله الذي كان في الدنيا " .
ثم يبشرهم ربهم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } بأنهم إن نصروا الله نصرهم ،ففي هذا أمر منه تعالى للمؤمنين، أن ينصروا الله بالقيام بدينه، والدعوة إليه، وجهاد أعدائه، والقصد بذلك وجه الله، فإنهم إذا فعلوا ذلك، نصرهم الله وثبت أقدامهم، أي: يربط على قلوبهم بالصبر والطمأنينة والثبات، ويصبر أجسامهم على ذلك، ويعينهم على أعدائهم، فهذا وعد من كريم صادق الوعد، أن الذي ينصره بالأقوال والأفعال سينصره مولاه، وييسر له أسباب النصر، من الثبات وغيره،  ثم قال تبارك وتعالى: { والذين كفروا فتعساً لهم}  تعس، أي: انتكاس من أمرهم وخذلان، وهو عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين. وقد ثبت في الحديث عن رسول اللّه أنه قال: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش" أي فلا شفاه اللّه عزَّ وجلَّ، وقوله سبحانه وتعالى: { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أحبطها وأبطلها، وذلك الإضلال والتعس للذين كفروا، بسبب أنهم { كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ } من القرآن الذي أنزله الله، صلاحا للعباد، وفلاحا لهم، فلم يقبلوه، بل أبغضوه وكرهوه، { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } أي جعلها هباءكأن لم تكن .
في اللغة:

والحبوط لغة هو انتفاخ بطن الدّابة حيت تأكل نوعاً ساماً من الكلأ ثم تلقى حتفها، وهذا اللفظ أنسب شيء لوصف الأعمال التي يظنّ أصحابها أنها رابحة ولكنها تنتهي إلى البوار.
ثم ينبههم تعالى إلى أن يكون لهم عظة ممن كان قبلهم ،{ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} أي: أفلا يسير هؤلاء المكذبون بالرسول ، { فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم أي ونَّجى المؤمنين من بين أظهرهم، ولهذا قال تعالى: { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا}  ثم قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّـهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} فتولاهم برحمته، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتولى جزاءهم ونصرهم
 -ولهذا فإنه يوم أُحُد لما قال أبو سفيان رئيس المشركين: اعلُ هُبَل، اعلُ هُبَل، فقال رسول اللّه : (ألا تجيبوه؟) فقالوا: يا رسول اللّه وما نقول؟ قال قولوا: (اللّه أعلى وأجل)، ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال : (ألا تجيبوه؟)، قالوا: وما نقول يا رسول اللّه؟ قال: (قولوا: اللّه مولانا ولا مولى لكم).  ثم بين حال الفريق الآخر: { وَأَنَّ الْكَافِرِينَ } فالذين كفروا بالله تعالى قطعوا عن أنفسهم ولاية الله، وسدوا علىهم رحمته { لا مَوْلَى لَهُمْ } يهديهم إلى سبل السلام، ولا ينجيهم من عذاب الله وعقابه، بل أولياؤهم الطاغوت، يخرجونهم من النور إلى الظلمات، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
ثم قال سبحانه وتعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } ثوابهم يوم القيامة بما قدموه في حياتهم لآخرتهم دخول الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار، التي تسقي تلك البساتين الزاهرة، والأشجار الناظرة المثمرة، لكل زوج بهيج، وكل فاكهة لذيذة.
ولما ذكر أن الكافرين لا مولى لهم،قال عنهم: {  وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ }  أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام، خضماً وقضماً ليس لهم همة إلا في ذلك، ولهذا ثبت في الصحيح قوله: " المؤمن يأكل في مَعِى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" ، ذكر أنهم وُكِلُوا إلى أنفسهم، فلم يتصفوا بصفات المروءة، ولا الصفات الإنسانية، بل نزلوا عنها دركات، وصاروا كالأنعام، التي لا عقل لها ولا فضل، بل جل همهم ومقصدهم التمتع بلذات الدنيا وشهواتها، ولهذا كانت النار مثوى لهم، أي: منزلا معدا، لا يخرجون منها، ولا يفتر عنهم من عذابها. { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } أي: وكم من قرية من قرى المكذبين، هي أشد قوة من قريتك، في الأموال والأولاد والأعوان، والأبنية والآلات. وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة، في تكذيبهم لرسول الله ، وهو سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، فإذا كان الله، عز وجل، قد أهلك الأمم الذين كذبوا الرسل قبله بسببهم، وقد كانوا أشد قوة من هؤلاء، فماذا ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأخرى؟ وقوله: { مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } أي:الذين أخرجوك من بين أظهرهم. عن ابن عباس:أن النبي لما خرج من مكة إلى الغار أراه قال:التفت إلى مكة - وقال: "  أنت أحب بلاد الله إلى الله، وأنت أحبّ بلاد الله إليّ، ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك " . { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ } حين كذبوا رسلنا، ولم تفد فيهم المواعظ، فلا نجد لهم ناصرا، ولم تغن عنهم قوتهم من عذاب الله شيئا. أليسوا بأحق من غيرهم بالإهلاك والعقوبة.
يقول تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ } أي: لا يستوي من هو على بصيرة من أمر دينه، علما وعملا قد علم الحق واتبعه، ورجا ما وعده الله لأهل الحق، كمن هو أعمى القلب، قد رفض الحق وأضله، واتبع هواه بغير هدى من الله، ومع ذلك، يرى أن ما هو عليه من الحق، فما أبعد الفرق بين الفريقين! { كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } أي:ليس هذا، كهذا كقوله: { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} ( الرعد 19 )، وكقوله:{ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [ الحشر:20 ] .
ثم قال تعالى :{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي: مثل الجنة التي أعدها الله لعباده، الذين اتقوا سخطه، واتبعوا رضوانه، أي: نعتها وصفتها الجميلة، {  فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} غير متغير، لا بوخم ولا بريح منتنة، ولا بمرارة، ولا بكدورة، بل هو العذب الصافي، أطيبها ريحا، وألذها شربا.
والعرب تقول:أَسِن الماء، إذا تَغَيَّر ريحه.  
 { وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} بحموضة ولا غيرها،  {وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي: يلتذ به شاربه لذة عظيمة، لا كخمر الدنيا الذي يكره مذاقه ويصدع الرأس، ويغول العقل، بل هي حسنة المنظر والطعم والرائحة والفعل، كما قال عنها تعالى :{لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [ الصافات:47 ] ،{ لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ}  [ الواقعة:19 ] ،{  بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } [ الصافات:46 ] ، وفي حديث مرفوع: " لم تعصرها الرجال بأقدامها "،  { وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى } من شمعه، وسائر أوساخه{ وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } من نخيل، وعنب، وتفاح، ورمان، وأترج، وتين، وغير ذلك مما لا نظير له في الدنيا، فهذا المحبوب المطلوب قد حصل لهم.
في أنهار الجنة:

عن حكيم بن معاوية، عن أبيه قال:سمعت رسول الله يقول: « في الجنة بحر اللبن، وبحر الماء، وبحر العسل، وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار منها بعد » . ورواه الترمذي في « صفة الجنة » ، وقال:حسن صحيح.
وفي الصحيح: " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن ".
 ثم زادهم ربهم من رحمته: { وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} يزول بها عنهم المرهوب، { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ }. فأي هؤلاء خير أم من هو خالد في النار التي اشتد حرها، وتضاعف عذابها، وَسُقُوا  فيها مَاءًحَمِيمًا  أي: حارا جدا، { فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } فسبحان من فاوت بين الدارين والجزاءين، والعاملين والعملين.

اللهم إنّا نسألك الجنَّة وما قرَّب إليها من قول وعمل ونعوذ بك من النَّار وما قرَّب إليها من قول وعمل ، اللهم إنّا نسألك رضاك والجنَّة ، ونعوذ بِك من سَخَطِك والنَار


No comments:

Post a Comment