Thursday 21 January 2016

تفسير مختصر - وربط للآيات - وبيان المتشابهات - سورة محمد ج 2

 

 



سورة "محمد" ج 2

يقول تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} أي ومن المنافقين { مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} ما تقول استماعا، لا عن قبول وانقياد، بل معرضة قلوبهم عنه، ولهذا قال: { حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } مستفهمين عما قلت، وما سمعوا، مما لم يكن لهم فيه رغبة { مَاذَا قَالَ آنِفًا } أي: قريبا، وهذا في غاية الذم لهم، فإنهم لو كانوا حريصين على الخير لألقوا إليه أسماعهم، ووعته قلوبهم، وانقادت له جوارحهم، ولكنهم بعكس هذه الحال، ولهذا قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } أي: ختم عليها، وسد أبواب الخير التي تصل إليها بسبب اتباعهم أهواءهم، التي لا يهوون فيها إلا الباطل.
ثم بين حال المهتدين، فقال: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} أي باتباع ما يرضي الله فالذين قصدوا الهداية وفقهم الله لها فهداهم إليها، وثبتهم عليها وزادهم منها ( زَادَهُمْ هُدًى) شكرا منه تعالى لهم على ذلك ان يزيدهم هدى، ( وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ) وزيادة أخرى أن وفقهم للخير، وحفظهم من الشر، فذكر للمهتدين جزاءين: العلم النافع، والعمل الصالح.
وقوله:{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُم}  أي:وهم غافلون عنها، { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } أي:أمارات اقترابها، كقوله تعالى: { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ } [ النجم 56 -57 ] ، وكقوله:{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ }[ القمر:1 ] وقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل:1 ] ، فبعثة رسول الله من أشراط الساعة؛ لأنه خاتم الرسل الذي أكمل الله به الدين،ولهذا جاء في أسمائه عليه السلام، أنه كما قال: " أنا محمَّدٌ وأنا أحمدُ وأنا الماحي الَّذي يُمحَى بيَ الكفرُ وأنا الحاشرُ الَّذي يُحشرُ النَّاسُ على عقِبي وأنا العاقبُ . والعاقِبُ الَّذي ليس بعدَهُ نبيٌّ ." ( صحيح مسلم)
وفي البخاري: عن سهل بن سعد قال:رأيت رسول الله قال بأصبعيه هكذا، بالوسطى والتي تليها: « بعثت أنا والساعة كهاتين » .
 فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون ( إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً ) أي: فجأة، وهم لا يشعرون ( فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) أي: علاماتها الدالة على قربها.
{ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي: من أين لهم، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا ويستعتبوا؟ قد فات ذلك، وذهب وقت التذكر، فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر، وجاءهم النذير. فكيف للكافرين بالتذكر إذا جاءتهم القيامة، حيث لا ينفعهم ذلك ، كقوله تعالى:{ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} ( الفجر23) ، وقوله: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ } أمر الله تعالى نبيه وأمته من بعده بالعلم الذي لا بد فيه من إقرار القلب ومعرفته، بمعنى ما طُلِب منه علمه، واستكمال هذا العلم ، وأن يعمل بمقتضاه.  وهذا العلم الذي أمر الله به - وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنا من كان، والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور: أحدها بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته ، ثم العمل بتألهه سبحانه ، وذلك بإفراده بالعبودية والعبادة؛ فإذا علم ذلك .. يعمل به، ولهذا عطف عليه بالأمر بالإستغفار.
فائدة:العلم قبل العمل:

في هذه الآية الحث على أن يكون العلم قبل العمل، بمعنى أن المسلم لا يعمل عملاً يريد به وجه الله إلا ويكون على بصيرة بصحة العمل أولا في الشرع عن ربه ، وعن رسول الله ﷺ، ثم يتعلم كيفية العمل به، يعلم ثم يتعلم العمل، وأول العلم الذي بينه ربنا هنا ، وهو العلم بمعاني{ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ }،  وشروط  العمل بها ، ومن أراد الصلاة عليه أن يتعلم حقيقة صلاة النبي، ومن أراد الحج عليه أن يتعلم نسكه أركانه وواجباته وسننه ، والكفارات ، وهكذا،  اللهم علمنا ما ينفعنا .
عودة للتفسير:

ثم قال ربنا سبحانه: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } أي: اطلب من الله المغفرة لذنبك، بأن تفعل أسباب المغفرة من التوبة والدعاء بالمغفرة، والحسنات الماحية، وترك الذنوب والعفو عن الجرائم. ( و ) استغفر أيضا { للمؤمنين وَالْمُؤْمِنَات } فإنهم - بسبب إيمانهم- كان لهم حق على كل مسلم ومسلمة. ومن جملة حقوقهم أن يدعو لهم ويستغفر لذنوبهم،  ومن لوازم ذلك النصح لهم، وأن يحب لهم من الخير ما يحب لنفسه، ويكره لهم من الشر ما يكره لنفسه، ويأمرهم بما فيه الخير لهم، وينهاهم عما فيه ضررهم، ويعفو عن مساويهم ومعايبهم، ويحرص على اجتماعهم اجتماعا تتألف به قلوبهم، ويزول ما بينهم من الأحقاد المفضية للمعاداة والشقاق، الذي به تكثر ذنوبهم ومعاصيهم.
فائدة في الحث على الإستغفار وفضله: 

في الصحيح أن رسول كان يقول: « اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي هَزْلي وجدّي، وخَطَئي وعَمْدي، وكل ذلك عندي » ، وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة: « اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني، أنت إلهي لا إله إلا أنت » وفي الصحيح أنه قال: « يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة »
عن عبد الله بن سرجس قال:أتيت رسول الله فأكلت معه من طعامه، فقلت:غفر الله لك يا رسول الله ، فقلت:استغفر لك ؟ فقال: « نعم، ولكم » ، وقرأ: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }، ثم نظرت إلى نُغْض كتفه الأيمن - أو:كتفه الأيسر شعبة الذي شك- فإذا هو كهيئة الجمع عليه الثآليل.(
رواه مسلم)،  وفي الأثر المروي عن أبي سعيد الخدري: « قال إبليس:وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم. فقال الله عز وجل:وعزتي وجلالي ولا أزال أغفر لهم ما استغفروني » (  مشكاة المصابيح وهو حديث حسن بمجموع طرقه)
وقوله: { وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي:يعلم تصرفكم في نهاركم ومستقركم في ليلكم، كقوله: {وهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [ الأنعام 60 ] ، وعن ابن عباس: متقلبكم في الدنيا، ومثواكم في الآخرة. ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت، فإن موت الإنسان قيام ساعته.

يقول تعالى: { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ }  مخبرا عن المؤمنين أنهم تمنوا شرعية الجهاد، فلما فرضه الله، عز وجل ، وأمر به نكل وتوانى عنه كثير من الناس، كقوله تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا }[ النساء:77 ] . وهنا يقول عن هذه الفئة من المؤمنين: { فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ }  أي:من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء. ثم قال مشجعا لهم: { فَأَوْلَى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ } أي:وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا، ولكن في هذه الحالة الراهنة والتي تونوا فيها : { فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ }  أي: صار الأمر جد ، وحضر القتال، { فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ } أي:أخلصوا له النية، { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ }
وقوله: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ } أي:عن الجهاد ونكلتم عنه، { أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } أي:تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام؛ ولهذا قال: { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، بل قد أمر [ الله ] تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام.
فائدة في فضل صلة الأرحام: 

قال القرطبي : الرحم عامة وخاصة:
 فالرحم العامة: رحم الدين والإسلام ،التي قد سماها الله إخوة بقوله تعالى: { إنما المؤمنون إخوة } ( الحجرات 10 )، ويوجب مواصلتها بملازمة الإيمان والمحبة لأهله ونصرتهم، والنصيحة وترك مضارتهم والعدل بينهم، والإنصاف في معاملتهم، والقيام بحقوقهم الواجبة، كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم ودفنهم، وغير ذلك من الحقوق المترتبة لهم.
وأما الرحم الخاصة وهي رحم القرابة من طرفي الرجل أبيه وأمه، فتجب لهم الحقوق الخاصة وزيادة، كالنفقة وتفقد أحوالهم، وترك التغافل عن تعاهدهم في أوقات ضروراتهم، وتتأكد في حقهم حقوق الرحم العامة، حتى إذا تزاحمت الحقوق بدئ بالأقرب فالأقرب. وقال بعض أهل العلم: إن الرحم التي تجب صلتها هي كل رحم محرم وعليه فلا تجب في بني الأعمام وبني الأخوال. وقيل: غير ذلك، والصواب أن كل ما يشمله ويعمه الرحم تجب صلته على كل حال، قربة ودينية، على ما ذكرناه أولا والله أعلم.
وقد وردت الأحاديث الصحاح والحسان بذلك عن رسول الله ، من طرق عديدة، ووجوه كثيرة، منها :
في صحيح مسلم عن جبير بن مطعم عن النبي قال: " لا يدخل الجنة قاطع " . قال ابن أبي عمر قال سفيان: يعني قاطع رحم. ورواه البخاري.
في صحيح البخاري عن أبي هريرة، عن النبي قال: « خلق الله الخلق، فلما فرغ منه قامت الرحم فأخذت بحقو الرحمن عز وجل، فقال:مه! فقالت:هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال:ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت:بلى. قال:فذاك " قال أبو هريرة:اقرؤوا إن شئتم: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } .
وفي مسند  الإمام أحمد عن أبي بكرة قال: قال رسول الله : « ما من ذنب أحرى أن يعجل الله  لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من قطيعة الرحم والبغي » ( ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي:هذا حديث صحيح.)
وفي مسند لإمام أحمد عن ثوبان، عن رسول الله قال: « من سره النِّساء في الأجل، والزيادة في الرزق، فليصل رحمه » . تفرد به أحمد، وله شاهد في الصحيح.
وعنده أيضا: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال:جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن لي ذوي أرحام، أصل ويقطعون، وأعفو ويظلمون، وأحسن ويسيئون، أفأكافئهم؟ قال: « لا إذن تتركون جميعا، ولكن جُدْ بالفضل وصلهم؛ فإنه لن يزال معك ظهير من الله، عز وجل، ما كنت على ذلك » (تفرد به من هذا الوجه، وله شاهد من وجه آخر إسناده صحيح)
وعن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله : « إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها » ، رواه البخاري .
وقال أحمد:حدثنا بهز، حدثنا حماد بن سلمة، أخبرنا قتادة، عن أبي ثمامة الثقفي، عن عبد الله بن عمرو قال:قال رسول الله : « توضع الرحم يوم القيامة لها حُجْنَة كحجنة المغزل، تتكلم بلسان طُلَق ذُلَق، فتصل من وصلها وتقطع من قطعها » .( صحيح الإسناد)
وقال الإمام أحمد:حدثنا سفيان، حدثنا عمرو، عن أبي قابوس، عن سفيان بن عيينة عن النبي قال: « الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، والرحم شُجْنَة من الرحمن، من وصلها وصلته، ومن قطعها بتته »  ( رواه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي:حسن صحيح. )

No comments:

Post a Comment