Friday 18 March 2016

الأمثال في القرآن 3 - سورة البقرة - المثل الناري



 


الأمثال في القرآن 3
المثل الأول-من سورة البقرة - المثل الناري : 

سنتناول الأمثال التي وردت في القرآن الكريم بعون الله بترتيب المصحف، وأول مثل ضربه الله تعالى لنا في القرآن،  في المنافقين، وتعجب كيف يكون هذا أول مثل،  فما هو وما العبرة منه ؟  

إليكم التفصيل :ـ 

تبدأ سورة البقرة بالحديث عن المؤمنين، ثم يثني الله تعالى فيها بالحديث بإيجاز شديد حاصل حال الكفار وما ختم الله على قلوبهم فلا ينفع فيهم إنذار ولا إرشاد فهم لا يعقلون .ثم في ثلاث عشر آية يحكي لنا ربنا عن فئة ثالثة من الناس هم  من يدعون الإيمان فيخالطهم المؤمنون يعتقدون أنهم منهم، هؤلاء هم المنافقين ، وصف حالهم من أنهم يخادعون الناس بإظهار الإيمان ، وهم مفسدون في الأرض ، ولعظم ضررهم على المجتمع المسلم ، ولأهمية توضيح صفاتهم واعتقادهم للمؤمنين ، ضرب الله تعالى فيهم مثلين ، هما

الأول : ما يسمى بالمثل الناري ، والثاني هو المثل المائي .
ولنتعرف على كل واحد منهما على حدة، نبدأ في هنا بالمثل الناري :

قال سبحانه وتعالى: ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة:17-18]
المعنى الإجمالي للمثل النّاري:ـ

ضرب  الله للمنافقين مثلاً في كفرهم بعد وضوح الحق عندهم وإيمانهم به – أو إظهارهم الإيمان به- فهم بعد ذلك عادوا إلى الكفر ، فهؤلاء مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، فلما أضاءت النار وأبصر ما حوله وأمامه وما يخشاه آمن، ثم ما لبث أن انطفأت عليه النار فصار لا يرى شيئاً، ولا يبصر ما عنده ولا يعرف ما عنده، ولهذا قال بعده: ( صُمٌّ ) أي: لا يسمعون الحق، ( بُكْمٌ ) أي: لا ينطقون بالحق، ( عُمْيٌ ) أي: أعمى لو كان هناك ضياء لما أبصر،فهم لا يرون الحق ( فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)  فهم لا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل ذلك من الهدى، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغي على الرشد، كأنهم صم لا يسمعون النذارة ولا البشارة ، عميٌ لا يرون الحق ولا طريقه، انحازوا عنه بعد أن عرفوه، ولم بعودوا إليه، فهم قد أبصروا الحق ثم عموا عنه، وآمنوا ثم كفروا فصاروا يتخبطون في الظلمات.
 وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع . فهذا هو مثلهم هذا المثل الناري الذي ضربه الله للمنافقين.

لم كان تخصيص المنافقين بهذين المثلين؛ النّاري والمائي:

 في المثل النّاري في قوله عنهم أن مثلهم هو:ـ ( مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) لما في النار من مادة النور، وفي المثل المائي يمثل لهم وبحالهم بـ ( أو كصيب من السماء.)  لما في الماء من مادة الحياة، وقد نزل الوحي من السماء متضمنا لإنارة القلوب بنوره ، وحياتها بمادته- وذكر الله حظ المنافقين في الحالتين- فهم بمنزلة من استوقد نارا للإضاءة والنفع حيث انتفعوا ماديا بالدخول في الإسلام ولكن لم يكن له أثر نوري في قلوبهم فذهب الله بما في النار من الإضاءة، ( ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) وبقي ما فيها من الإحراق وهذا مثلهم الناري .

فوائد وعبر من المثل النّاري:ـ

أكثر القرآن الكريم من ذكر المنافقين لعظم وخبث ودسيسة ودجل المنافقين وفسادهم سرائرهم وأعمالهم ، وإفسادهم لغيرهم، ولذلك كان أول مثل في القرآن فيهم، وتشبيه لحالهم أشد التشبيه.
ولتوضيح خبث حال هذه الفئة من الناس نذكر هنا باختصار عن النفاق.
النفاق:
النفاق كالكفر والشرك والفسق، درجات ومراتب؛ منها ما هو مخرج من الإسلام، ومنها غير مخرج منه، والنفاق مرض يستشري في المجتمعات، وهو على قسمين:
1-نفاق اعتقادي.
2- نفاق عملي.


1-             القسم الأول :ـ النفاق الاعتقادي: وهو النفاق الأكبر؛ المخرج من الملة، والموجب للخلود في الدرك الأسفل من النار:وهو إبطان الكفر في القلب، وإظهار الإيمان على اللسان والجوارح، ويترتب على هذا النوع ما يترتب على الكفر الأكبر؛ من حيث انتفاء الإيمان عن صاحبه، وخلوده في جهنم؛ لكن المنافق أشد عذاباً من الكافر؛ لأنه في الدرك الأسفل من النار إذا مات عليه.
والمنافق: إذا لم يظهر ما في باطنه من مخالفة الدين، وأظهر الأعمال الظاهرة من الإسلام؛ فهو في الظاهر مسلم، وتجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة في الدنيا، ويعامل معاملة المسلمين؛ لأننا لم نؤمر بالشق عن ما في القلوب، وهذا في الأصل خارج عن نطاق وقدرة ابن آدم.
والنفاق: إذا أطلق ذكره في القرآن؛ فإن المراد به النفاق الأكبر المنافي للإيمان،
والمنافقون شر وأسوأ أنواع الكفار؛ لأنهم زادوا على كفرهم الكذب والمراوغة والخداع للمؤمنين، ولذلك أخبرنا الله تعالى عن صفاتهم في القرآن بالتفصيل، ووصفهم بصفات الشر كلها؛ لكي لا يقع المؤمنون في حبائلهم وخداعهم.
ومن صفات هذا النوع من المنافقين:
-الكفر وعدم الإيمان.
-التولي والإعراض عن حكم الله تعالى وحكم رسوله
-الاستهزاء بالدين وأهله والسخرية منهم.
-الميل بالكلية إلى أعداء الدين، ومظاهرتهم ومناصرتهم على المؤمنين والمسلمين.
-تكذيب الرسول ، أو بعض ما جاء به الرسول ، أو الإستهزاء به أو ببعض أعماله وخصاله، أو أبغض الرسول ﷺ.
- أو الاستهزاء والسخرية بالمؤمنين؛ لأجل إيمانهم وطاعتهم لله تعالى ولرسوله .
وهذا الصنف من المنافقين موجودون في كل زمان ومكان وهذا النوع الذي وصف الله عز وجل المنافقين به في أول آيات سورة البقرة ، إذ قال في الآية الثالثة: ( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) [ البقرة 10] وهو مرض القلب الشك والريب والتردد، فليس عندهم علم ولا يقين.
 وأمراض القلوب: تزيد وتنقص، والكفر يزيد وينقص، والإيمان يزيد بالطاعة ،وينقص بالمعصية.
 وتنقسم أمراض القلوب إلى قسمين: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة.
فأول أمراض القلوب: مرض الشبهة والشك هو الأشد؛ لأنه مرض في الاعتقاد، وشك في العقيدة. قال تعالى: ( فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا )[البقرة 10]  أي: زاد مرض الشبهة والشهوة في قلوبهم بغفلتهم ، وكثرة معاصيهم.
وثاني أمراض القلوب :ـ مرض شهوة المعاصي كمن يحب الزنا والفواحش, ويحب الغناء، فهذا عنده مرض شهوة المعاصي
 قال الله تعالى في سورة الأحزاب مخاطباً لأزواج النبي : ( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ) [الأحزاب 32]  أي: مرض الشهوة، فنهيت المرأة عن الخضوع بالقول؛ لأنها إذا رخمت الصوت وحسنته طمع فيها الفاسق
2-             القسم الثاني من النفاق : النفاق العملي: وهو النفاق الأصغر؛ غير المخرج من الملة ، وظاهره اختلاف السر والعلانية في الأعمال، وذلك بعمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء أصل الإيمان في القلب وصاحبه لا يخرج من الملة، ولا يُنفى عنه مطلق الإيمان، ولا مسمى الإسلام، وهو معرّض للعذاب كسائر المعاصي، دون الخلود في النار، وصاحبه قد تناله شفاعة الشافعين .
وهذا النوع من النفاق مقدمة وطريق للنفاق الأكبر؛ لمن سلكه وكان ديدنه.
وأمثلة ذلك: الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر بالعهود، وكالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، وإظهار المودة للغير والقيام له بالخدمة مع إضمار عكسه في النفس.
قال النبي : " أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر" ( البخاري ومسلم)

الحكمة من ضرب مثل المنافقين بمن استوقد النار:
     
قال أهل العلم: إنما ضرب الله لهم المثل النار لثلاثة أسباب: أولاً: أن النار لا توقد إلا بوقود وبحطب، فوقودها الإيمان، وهو العقيدة والأعمال الصالحة، والمنافق ليس عنده وقود من إيمان في قلبه، فالمنافق يتكلم بلسانه غير الذي يضمره في قلبه لأنه لا وقود عنده، ولا يوجد في قلبه شيء يسقي به هذا الإيمان من الأعمال الصالحة ،فانطفأت عليه جذوة الإيمان.
ثانياً:ـ قيل: جعل الله لهم النار مثلاً؛ لأن فيها احتراقاً، فهي إما أن تضيء وتنفع ،وإما أن تحرق، فذهب الله بالنور الذي فيه الإنارة والبصر والضوء وبقي لهم خاصية الإحراق في قلوبهم لعنة يلقونها إلى يوم القيامة.
في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً) [البقرة 17]
انظر! كيف قال: ( اسْتَوْقَدَ ) قال أهل العلم: السين هنا هي سين الطلب؛ وزيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فمعنى ( اسْتَوْقَدَ ) أي طلب الإيقاد، والسين سين الطلب- أي لم يوقد النار بنفسه بل أوقدها له غيره ،أو حمل نفسه على إيقادها-  فالمنافق قد أنار له غيره طريق الإيمان – وقد يكون قد بحث عنه – ثم لم يلبث أن أطفأه بنفسه لنفسه ، لم يحافظ عليه بكثرة شك قلبه ، ومعاصيه.
السر في قوله: (بِنُورِهِمْ) وليس – بإضاءتهم -   

قال تعالى: ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ  ) لماذا لم يقل: ذهب الله بإضاءتهم؟ بالرغم من أن أصل الفعل: قوله ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ) ، ومصدر(أَضَاءَتْ) هو  إِضاءَة؛ فالأصل أن تكون (فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بإضاءتهم) لكن في القرآن قال: ( فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ) ما هو السر؟ السر هو في الفرق بين الضياء والنور .
والفرق بينهما هو:
قد يفرق بينهما بأن الضوء: ما كان من ذات الشيء المضئ، والنور: ما كان مستفادًا من غيره.أي هومستفاد من المُضيء، وعليه جرى قوله تعالى: ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ).[ يونس 5 ]
وقال الراغب الأصفهاني :" النور الضوء المنتشر الذي يعين على الابصار.وهو ضربان: دنيوي وأخروي.
والدنيوي ضربان: معقول بعين البصيرة، وهو ما انتشر من الانوار الآلهية كنور العقل ونور القرآن. ومنه: ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّـهِ نُورٌ‌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ (المائدة 15 ) 
ومحسوس بعين التبصر وهو ما انتشر من الأجسام النيرة،كالقمر والنجوم النيرات، ومنه: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا).( يونس 5 ) ومن النور الاخروي قوله تعالى: ( يسعى نورهم بين أيديهم ) " أهـ   المصدر: معجم الفروق اللغوية
فعلية يفهم أنه استبدل الضياء بقوله ذهب بنورهم ليظهر ان مصدر النور وهو النار ما زال باقيا ، ولكن انتفى النفع منه ، وهو الإستنارة والرؤية والبصيرة إلا نفع ما يظهرونه من الإيمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والأمن على أنفسهم وأولادهم وأموالهم،  هو ما لهم منه ، وما بقي لهم من  أصله إلا النار تحرقهم يوم القيامة ، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْ‌كِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ‌ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرً‌ا ﴾( النساء: 145 )

الإلتفات في الآيات :

ورد في هذه الآيات ما يعبر عنه أهل اللغة بالإلتفات ، وهو تغيير صيغة الكلام ، إما من الجمع إلى الإفراد أو العكس ، أو من المخاطب إلى الغائب ، أو في زمان الفعل ، وغيره كثير، وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام. قال الزمخشري:ـ أنّ للإلتفات تأثيراً نفسيّاً لزيادة توقد نشاط السامع، وإيقاظٍه إلى الكلام، وهذا على ما يبدو يأتي نتيجة تحول الأسلوب فيتقيظ لذلك السامع لعدم سير الكلام على منوال واحد.  
فقد جاء في أول الآية التفات من الجمع في ( مثلهم ) إلى الإفراد في ( الذي ) والسبب هو أن الجمع جاء باعتبار المعنى- أي كلهم بشبهون ( الذي ) استوقد نارا -  والإفراد باعتبار اللفظ.
وقد جاء بعده في أثناء المثل الإلتفات من الواحد إلى الجمع ، فجاء في أول الكلام بصيغة الواحد ( حوله ) ثم صار إلى الجمع في ( بنورهم ) في قوله تعالى: ( فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. صم بكم عمي فهم لا يرجعون)
وفي هذا الإلتفات دليل على أن الإيمان لا يقتصر نفعه على صاحبه (أضاءت ما حوله) حيث تعداه الضياء إلى غيره ممن حوله

هذا والله أعلم بمراده ومقصده

No comments:

Post a Comment