Tuesday 8 March 2016

تفسير ربط للآيات وبيان المتشابهات سورة الحديد ج2



 



تفسير ربط للآيات وبيان المتشابهات
سورة الحديد ج2

في هذا الجزء من السورة  اورد ربنا الآيات التي تدعو المسلمين إلى تمام اليقين بالله تعالى وتمام الإيمان به ، والذي يوصلهم للبذل والسخاء والإنفاق في سبيل الله لأن الصدقة برهان على تمام الإيمان، فلابد للمؤمن من الجهاد بالنفس والمال لينال السعادة في الدنيا ، والمثوبة في الآخرة، وهو ما يفصله لنا ربنا في بيان مصير كل فريق : أهل الإيمان ، وأهل النفاق ، فالمؤمنون يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، والمناققون يتخبطون في الظلمات ، كما كانوا في الدنيا يعيشون مترددين بين الشك والتربص، في ظلمات الجهل والغي والضلال.

قوله تعالى:{ آمِنُوا بِاللَّـهِ وَرَ‌سُولِهِ وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ  فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ‌ كَبِيرٌ‌}
وهذا أمر من الله تبارك وتعالى لعباده بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل، وواضح من موضع هذا الأمر أنه أمر للمؤمنين، فقد أعقبه حثهم على الإنفاق { وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } أي مما هو معكم على سبيل العارية، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفكم فيه من المال في طاعته، دليل على أن أصل الملك لله سبحانه، وأن العبد ليس له فيه إلا التصرف الذي يرضي الله فيثبته على ذلك بالجنة، وفي هذا تشجيع على الإنفاق ، فإن الرجل يهون عليه النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه،وفي قوله :{ مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ }، يصح معنيين ؛ أولهما كما قال الحسن:  أي ورثتموه عمن كان قبلكم. وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النواب والوكلاء، فاغتنموا الفرصة فيها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم. ، وثانيهما : فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك أيضا، فلعل وارثك أن يطيع اللّه فيه فيكون أسعد بما أنعم اللّه به عليك منك، أو يعصي اللّه فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان، روى مسلم، عن عبد اللّه بن الشخير قال: انتهيت إلى رسول اللّه وهو يقول: " ألهاكم التكاثر، يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟ أو لبست فأبليت؟ أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس" (أخرجه مسلم )، وقوله تعالى:  { فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ‌ كَبِيرٌ‌} ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة، ثم قال تعالى: { وَما لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ ۙ وَالرَّ‌سُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَ‌بِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ؟ استفهام يراد به التوبيخ. أي أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل، أي: وأيّ شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به، وفي الحديث أن رسول اللّه قال يوماً لأصحابه: "أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟"  قالوا: الملائكة، قال: (وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟" قالوا: فالأنبياء، قال: "وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟" قالوا: فنحن، قال: "وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها" "(أخرجه البخاري في كتاب الإيمان). وقوله تعالى: { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ }  كما قال تعالى: { واذكروا نعمة اللّه عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا} ويعني بذلك بيعة الرسول، وقوله تعالى: { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي حججاً واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات، {  لِّيُخْرِ‌جَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‌}  أي من ظلمات الجهل والكفر، إلى نور الهدى والإيمان، { وَإِنَّ اللَّـهَ بِكُمْ لَرَ‌ءُوفٌ رَّ‌حِيمٌ } أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس، ولما أمرهم أولاً بالإيمان والانفاق، ثم حثهم على الإيمان، حثهم أيضاً على الانفاق، فقال: { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلِلَّـهِ مِيرَ‌اثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضِ} ؟ أي أنفقوا ولا تخشوا فقراً وإقلالاً، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السماوات والأرض، وهو القائل: { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}( سبا 39) { ما عندكم ينفد وما عند اللّه باق} ( النحل96) ، فما أنقت يا ابن آدم قد حفظته من مالك عند الله، وما عند الله يبقى لك بل ويضاعفه ربك لك أضعافا كثيرة تأتيك أجرا وثوابا، وقوله تعالى: { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ }أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله، وذلك أنه قبل فتح مكة كان الحال شديداً، فلم يكن يؤمن حينئذ إلا الصديقون، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهوراً عظيماً، ودخل الناس في دين اللّه أفواجاً، ولهذا قال تعالى: { أُولَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَ‌جَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا ۚ وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‌ }، والجمهور على أن المراد بالفتح ههنا فتح مكة وعن الشعبي: أن المراد صلح الحديبية . وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد، عن أنَس قال: كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف كلام، فقال خالد لعبد الرحمن: تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي فقال: "دعوا لي أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحُد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم" ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكّة. وعن أبي سعيد الخدري أن رسول اللّه قال: "يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم" قلنا: من هم يا رسول اللّه، قريش؟ قال: "لا، ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً" وأشار بيده إلى اليمن فقال: "هم أهل اليمن، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية" فقلنا: يا رسول اللّه هم خير منا؟ قال: "والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه" ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال: "ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس" { لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَ‌جَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا } (أخرجه ابن جرير). وقوله تعالى: { وَكُلًّا وَعَدَ اللَّـهُ الْحُسْنَىٰ } يعني المنفقين قبل الفتح وبعده كلهم لهم ثواب على ما عملوا، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء، وهكذا الحديث الذي في الصحيح: "المؤمن القوي خير، وأحب إلى اللّه من المؤمن الضعيف وفي كل خير" فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه، مع تفضيل الأول عليه، ولهذا قال تعالى: { وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‌}، أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن فعل ذلك بعد ذلك، وما ذاك إلا لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق، وفي الحديث: "سبق درهم مائة ألف" ( النسائي ؛ حديث حسن)،ولا شك أن الصدّيق أبا بكر رضي اللّه عنه له الحظ الأوفر من هذه الآية، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه اللّه عزَّ وجلَّ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها. 

لمسة بيانية: 
 
 تقديم والتأخير في قوله تعالى { بما تعملون بصير} وفي آية أخرى يقول {بصير بما تعملون}  فهل للتقديم والتأخير لمسة بيانية؟( لمسات بيانية للدكتور : فاضل السامرائي)

التقديم والتأخير يأتي لسبب، والسياق قد يكون الحاكم والموضح للأمور. إذا كان سياق الكلام أو الآية في العمل يقدّم العمل،  وإذا لم يكن السياق في العمل أو إذا كان الكلام على الله سبحانه وتعالى وصفاته يقدّم صفته. من باب تقديم العمل على البصر:
هذا في العِلم والخبرة والعمل وليس فقط في العلم والبصر وهذا خط عام في القرآن، مثل قوله تعالى : {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ( البقرة271) هذا عمل فقدم العمل على الخبرة، أما هنا في سورة الحديد:  { وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ،الآية في  الإنفاق وهو عمل فقدم العمل،أما في قوله تعالى :{ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (البقرة 110) الله بهذا العمل بصير، وهكذا إذا كان السياق عن العمل يقدم العمل على البصر وإذا كان الكلام ليس في السياق عن العمل أو الكلام على الله تعالى وصفاته يقدم صفته.

عودة للتفسير :

وقوله تعالى: {مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِ‌ضُ اللَّـهَ قَرْ‌ضًا حَسَنًا}  قال عمر بن الخطّاب: هو الإنفاق في سبيل اللّه، وقيل: هو النفقة على العيال، والصحيح أنه أعم من ذلك، فكل من أنفق في سبيل اللّه بنية خالصة، وعزيمة صادقةعلى أهل بيته ومن يعول، او صدقة في أرحام أو غيرهم ، أو كانت الزكاة الواجبة ، أو في سبيل الله كله دخل في عموم هذه الآية، ولهذا قال تعالى:  { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِ‌ضُ اللَّـهَ قَرْ‌ضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ‌ كَرِ‌يمٌ كما قال في الآية الأُخْرى { أضعافاً كثيرة وله أجر كريم}( البقرة 245) أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة يوم القيامة. عن عبد اللّه بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِ‌ضُ اللَّـهَ قَرْ‌ضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ }  قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول اللّه، وإن اللّه ليريد منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك يا رسول اللّه، قال، فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمائة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها، قال، فجاء أبو الدحداح، فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عزَّ وجلَّ. وفي رواية أنها قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح، ونقلت منه متاعها وصبيانها، وإن رسول اللّه قال: "كم من عِذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح" ""أخرجه ابن أبي حاتم"". معنى العذق : القنو من النخل، والعنقود من العنب، و رداح : ضخم، مخصب.
قوله تعالى :{ يَوْمَ تَرَ‌ى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُ‌هُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} ،ثم يخبر الله تعالى عن المؤمنين المتصدقين، أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم بحسب أعمالهم، مصداقا لما جاء في صحيح مسلم في الحديث عنه " وَالصَّلَاةُ نُورٌ, وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ, وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ " ، فالمؤمن صلاته نور له، وصدقته برهان على أيمانه، والصيام ضياء له يوم القيامة، وقال عبد اللّه بن مسعود في قوله تعالى { يَسْعَىٰ نُورُ‌هُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} قال: على قدر أعمالهم يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة " رواه ابن أبي جرير الطبري، وقال: أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. وقال الضحّاك: ليس أحداً إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفيء نور المنافقين، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفيء نور المنافقين، فقالوا: ربنا أتمم لنا نورنا، وعن أبي الدرداء، عن النبي قال: " أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود، وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي، فأعرف أُمتي من بين الأمم"  فقال له رجل: يا نبي اللّه كيف تعرف أُمّتك من بين الأُمم؟ فقال: "أعرفهم، محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأُمم غيرهم، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم" (أخرجه ابن أبي حاتم، وفي الترغيب والترهيب ، قال الألباني عنه صحيح لغيره لكثرة شواهده)، وقوله: { وَبِأَيْمَانِهِم} قال الضحّاك: أي وبأيمانهم كتبهم، وأن نورهم على قدر أيمانهم ، وقوله: { بُشْرَ‌اكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِ‌ي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ‌ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، أي يقال لهم: بشراكم اليوم جنات، أي لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبداً  ذلك هو الفوز العظيم . وقوله: { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا } وهذا إخبار منه تعالى عما يقع في العرصات يوم القيامة، وحيث  يغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيعطى المؤمن نوراً، ويترك الكافر والمنافق، فلا يعطيان شيئاً، ويومها لا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا: { انظُرُ‌ونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِ‌كُمْ }، وهي خدعة اللّه التي خدع بها المنافقين حيث قال: { يخادعون اللّه وهو خادعهم} ، فيقال لهم { قِيلَ ارْ‌جِعُوا وَرَ‌اءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورً‌ا}  فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم، وقد ضرب بينهم بسور له باب فَضُرِ‌بَ بَيْنَهُم بِسُورٍ‌ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّ‌حْمَةُ وَظَاهِرُ‌هُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ }، قال ابن عباس: بينما الناس في ظلمة إذ بعث اللّه نوراً، فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه، وكان النور دليلاً من اللّه إلى الجنة، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم، فأظلم اللّه على المنافقين، فقالوا حينئذ: { انظُرُ‌ونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِ‌كُمْ } فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون { ارْ‌جِعُوا وَرَ‌اءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورً‌ا} من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور، وقوله تعالى: { فَضُرِ‌بَ بَيْنَهُم بِسُورٍ‌ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّ‌حْمَةُ وَظَاهِرُ‌هُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } قال الحسن وقتادة: هو حائط بين الجنة والنار، وقال عبد الرحمن بن زيد: هو الذي قال اللّه تعالى: { وبينهما حجاب}، وهكذا روي عن مجاهد وهو الصحيح { بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّ‌حْمَةُ } أي الجنة وما فيها { وَظَاهِرُ‌هُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ } أي النار، والمراد بذلك سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه، فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب، وبقي المنافقين من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وشك وحيرة، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } أي ينادي المنافقين المؤمنين: أما كنا معكم في الدار الدنيا نشهد معكم الجمعات؟ ونصلي معكم الجماعات؟ ونقف معكم بعرفات؟ ونحضر معكم الغزوات؟ ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ قالوا: بلى، أي فأجاب المؤمنون النافقين قائلين:{ قَالُوا بَلَىٰ}  قد كنتم معنا { وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَ‌بَّصْتُمْ وَارْ‌تَبْتُمْ وَغَرَّ‌تْكُمُ الْأَمَانِيُّ }، قال بعض السلف: أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي والشهوات { وَتَرَ‌بَّصْتُمْ } أي أخّرتم التوبة من وقت إلى وقت، وقال قتادة: تربصتم بالحق وأهله، {وَارْ‌تَبْتُمْ } أي شككتم بالبعث بعد الموت، { وَغَرَّ‌تْكُمُ الْأَمَانِيُّ } أي قلتم: سيغفر لنا، وغرتكم الحياة الدنيا { حَتَّىٰ جَاءَ أَمْرُ‌ اللَّـهِ } أي ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت، {وَغَرَّ‌كُم بِاللَّـهِ الْغَرُ‌ورُ‌ } أي الشيطان، وقال قتادة: كانوا على خدعة من الشيطان واللّه ما زالوا عليها حتى قذفهم اللّه في النار، ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين: إنكم كنتم معنا أي بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تراءون الناس ولا تذكرون اللّه إلا قليلاً، وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر اللّه تعالى به عنهم حيث يقول: { كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر}  ؟ فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ؛ ثم قال تعالى: { فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا } أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من عذاب اللّه ما تقبل منه، وقوله تعالى: { مَأْوَاكُمُ النَّارُ‌} أي هي مصيركم وإليها منقلبكم، وقوله تعالى:{ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } أي هي أولى بكم من كل منزل على كفركم وارتيابكم وبئس المصير، ثم يعتب الله تعالى على المؤمنين فيقول: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ‌ اللَّـهِ }
أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر اللّه، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه، قال ابن عباس: إن اللّه استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن، فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ‌ اللَّـهِ} الآية (رواه ابن أبي حاتم)  وقد روينا عن ابن مسعود رضي اللّه عنهما جاء في الصحيح، قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللّه بهذه الآية: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ‌ اللَّـهِ} الآية إلا أربع سنين (رواه مسلم والنسائي)، وقوله تعالى: { وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } نهى اللّه تعالى المؤمنين، أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم، من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد، بدلوا كتاب اللّه الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون اللّه، فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد، { وَكَثِيرٌ‌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ}  أي في الأعمال، فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة، كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}( المائدة 13) أي فسدت قلوبهم فقست، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه، ولهذا نهى اللّه المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.

العتاب في اللغة:
 
 مخاطبة الإدلال ( للتوضيح والدلالة) ومذاكرة الموجدة( أي يذكر له ما يجد في قلبه عليه )
عاتب يعاتب من مادة ( ع ت ب ) التي تدل على ( الأمر الذي فيه صعوبة من كلام أو غيره ، ومنها ( عتبة الباب ) وهي أسكفة الباب ، وإنما سميت كذلك لارتفاعها عن المكان المطمئن السهل.ويقال : عتبت على فلان : أي وجدت في قلبي شيئاًعليه ، ويقال : عاتبته فأعتبني : أي وضحت له الأمر فترك ما كان يجد عليّ،ورجع إلى مسرتي. قال تعالى:{  فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}( فصلت 24)، ومعنى وإن يستعتبوا إن يسألوا العُتبى بضم العين وهي رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب .
والعاتب هو اللائم ، والسين والتاء فيه للطلب لأن المرء لا يسأل أحدا أن يعاتبه وإنما يسأله ترك المعاتبة ، أي يسأله الصفح عنه ، فإذا قبل منه ذلك قيل : أعتبه أيضا ، وهذا من غريب تصاريف هذه المادة في اللغة ، والمراد في قوله تعالى:{  فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي أن الله لا يعتبهم ، أي لا يقبل منهم 


عودة للتفسير:

{ أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ‌ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} أي تذل وتلين قلوبهم لذكر الله وما نزل من عند الله من القرآن الحق وما فيه من المواعظ ،  روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال : "إن الله يستبطئكم بالخشوع"  فقالوا عند ذلك : خشعنا. وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة بمكة مجدبين، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا. وذكر ابن المبارك : أخبرنا مالك بن أنس، قال : بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
اللهم إنا نسألك العافية .

هذه الآية كانت سببا لتوبة عبد الله بن المبارك إمام الحديث، والفضيل بن عياض:
 فقد حدث عن توبته، قال عبدالله بن المبارك لما سئل عن بدء زهده قال : كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السحر، وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة،  والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، ( اي لا يستجيب له إذا عزف عليه) ،وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان - يعني العود الذي بيده – ويقول: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ‌ اللَّـهِ وما نَزَل مِنَ الْحَقِ}  قلت : بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري. وقيل عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود :
ألم يأن لي منك أن ترحما ** وتعص العواذل واللوما
وترثي لصب بكم مغرم ** أقام على هجركم مأتما
يبيت إذا جنه ليله  **  يراعي الكواكب والأنجما
وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ‌ اللَّـهِ وما نَزَل مِنَ الْحَقِ} فرجع القهقرى وهو يقول : بلى والله قد آن ،فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض : إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل : أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام. 

قوله تعالى { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ يُحْيِي الْأَرْ‌ضَ بَعْدَ مَوْتِهَا }  أي يحيي الأرض الجدبة  بعد موتها بالمطر. والمعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر بن محمد : يحييها بالعدل بعد الجور. وقيل : المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة. وقيل : كذلك يحيي الله الموتى من الأمم، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه. { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه لمحيي الموتى.
فاللّه  سبحانه هو الذي يلين القلوب بعد قسوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال.

اللهم اهدِنا فيمَن هديت ، وعافنا فيمن عافيت ، وتولنا فيمن توليت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وقِنا شر ما قضيت، انك تقضي ولا يقضى عليك، اٍنه لا يذل مَن واليت ،ولا يعزُ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت ، لك الحمد على ما قضيت ، ولك الشكر على ما أعطيت، نستغفرك اللهم من جميع الذنوب والخطايا ونتوب اٍليك


No comments:

Post a Comment