شرح حديث : في اعتزال الناس في زمن الفتن
شرح الحديث :
هذا الحديث رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه
منها كتاب الفتن ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
( يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ غَنَمٌ
يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَن
) . وروى مسلم في صحيحه نحوه ، عن أبي سعيد الخدري أيضاً رضي
الله عنه الله عنه أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ
ﷺ
فَقَالَ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : رَجُلٌ
يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ.
قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : مُؤْمِنٌ فِي شِعْبٍ مِنْ
الشِّعَابِ يَعْبُدُ اللَّهَ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ ) .
قوله : (شَعَفَ
الْجِبَالِ ) أي : رؤوس الجبال . وَأَمَّا (
الشِّعْب) : فَهُوَ مَا انْفَرج بَيْن جَبَلَيْنِ . قال
النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم : وَلَيْسَ
الْمُرَاد نَفْس الشِّعْب خُصُوصًا ; بَلْ الْمُرَاد الانْفِرَاد وَالاعْتِزَال , وَذَكَرَ
الشِّعْب مِثَالا لأَنَّهُ خَالٍ عَنْ النَّاس غَالِبًا اهـ.
والحديث يدل على أفضلية العزلة عن الناس وترك
الاختلاط بهم ، في حال خوف المسلم على دينه لكثرة الفتن
، بحيث إنه لو خالط الناس لا يأمن على دينه من أن يرتد عنه ، أو يزيع عن الحق ، أو
يقع في الشرك ، أو يترك مباني الإسلام وأركانه ، ونحو ذلك
.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وَالْخَبَر دَالّ
عَلَى فَضِيلَة الْعُزْلَة لِمَنْ خَافَ عَلَى دِينه اهـ
.
وقال السندي في حاشيته على النسائي : فِيهِ أَنَّهُ يَجُوز الْعُزْلَة بَلْ هِيَ أَفْضلُ
أَيَّام الْفِتَن اهـ .
وفي الحديث الثاني المذكور آنفاً جعل النبي
ﷺ
المؤمنَ المعتزلَ يتلو المجاهد في سبيل الله في الفضيلة ، قال الحافظ في الفتح: وَإِنَّمَا
كَانَ الْمُؤْمِن الْمُعْتَزِل يَتْلُوهُ فِي الْفَضِيلَة لأَنَّ الَّذِي يُخَالِط
النَّاس لا يَسْلَم مِنْ ارْتِكَاب الآثَام ، وَقَدْ تكون هذه الآثام أكثر من الحسنات
التي يحصلها بسبب اختلاطه بالناس . ولكن تفضيل الاعتزال خاص بحالة وقوع الفتن اهـ بمعناه .
وأما العزلة في غير وقت الفتن وخوف المسلم
على دينه فاختلف العلماء في حكمها ذهب الجمهور إلى أن الاختلاط بالناس أفضل من العزلة
واستدلوا على ذلك بعدة أدلة ، منها :
1-
أن
ذلك هو حال النبي ﷺ
، والأنبياء من قبله صلوات الله وسلامه عليهم ، وجماهير الصحابة رضي الله عنهم . شرح
مسلم للنووي، فإن مخالطة الناس لا بد وأن يكون
فيها بعض الشقاء والعناء والنكد والضيق، ولكن على المؤمن عموما والداعية على وجه الخصوص
أن يصبر على الناس وعلى ما يصدر منهم عليه من أذى ، وأن يحتسب الأجر في ذلك .
وأن
ينظر دائما إلى الناس بعين الرأفة والرحمة ، فلا يرى لنفسه الحق أن يترك الناس إن
آذوه أو ضيقوا عليه ويهجرهم انتصارا لنفسه ، ولا أن يتبرم من حالهم ولا ييأس من النصح
لهم ، فإن تلك الأفعال مجانبة للحكمة والهدى، ولا يتصور الإنستان عمرما أن الأمور ستصفى
له الصفاء الكامل في يوم من الأيام، بل عليه أن هذه سنة الحياة، وهي الإبتلاءات
والفتن التي لا بد منها. وإن أحب الخلق إلى الله تعالى هم الرسل والأنبياء ، وهم
قد لاقوا في سبيل الدعوة إلى الله تعالى ما لا يوصف ، من الأذى القولي والفعلي والطرد
والإهانة والقتل، ومع ذلك فلا يزال الأنبياء على دعوتهم والصبر عليهم، ألا ترى أن الله
تعالى عاتب نبيه يونس عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما ذهب مغاضبا مغتاظا من قومه
، فقال تعالى: { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ
أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَـٰهَ إِلَّا
أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } (
الأنبياء 87) ، ليس باختيار الداعية أن يترك القوم وحالهم ، بل الصبر على الناس وتحمل
الأذى الصادر منهم من الأمور الواجبة التي لا مناص عن حملها والقيام بها ، والعاقبة
للمتقين
2-
ما
رواه الترمذي وابن ماجه عن ابن عمر أن النبي ﷺ قال : (الْمُؤْمِنُ
الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الْمُؤْمِنِ
الَّذِي لا يُخَالِطُ النَّاسَ وَلا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ) .
صححه الألباني في صحيح الترمذي.
قال السندي في حاشيته على ابن ماجه: الْحَدِيث
يَدُلّ عَلَى أَنَّ الْمُخَالِطَ الصَّابِرَ خَيْرٌ مِنْ الْمُعْتَزِل اهـ
وقال الصنعاني في سبل السلام: فيه أفضلية من
يخالط الناس مخالطة يأمرهم فيها بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحسن معاملتهم فإنه أفضل
من الذي يعتزلهم ولا يصبر على المخالطة اهـ
3-
ما
رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : مَرَّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
بِشِعْبٍ فِيهِ عُيَيْنَةٌ مِنْ مَاءٍ عَذْبَةٌ فَأَعْجَبَتْهُ لِطِيبِهَا . فَقَالَ
: لَوْ اعْتَزَلْتُ النَّاسَ فَأَقَمْتُ فِي هَذَا الشِّعْبِ ، وَلَنْ أَفْعَلَ حَتَّى
أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ
فَقَالَ : ( لا تَفْعَلْ ، فَإِنَّ مُقَامَ أَحَدِكُمْ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ سَبْعِينَ عَامًا، أَلا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ
وَيُدْخِلَكُمْ
الْجَنَّةَ ؟ اغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ
نَاقَةٍ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ) (حسنه الألباني في صحيح
الترمذي.)
4-
ولا
ينبغي للمسلم العارف بدين الله المتمسك بحبله المتين أن ترك الناس العامة لأهل الأهواء
والشهوات يرغبونهم عن دينهم ، ويبدلون به كما يشتهون وهو بمعزل عنهم، بل لا بد له من
المزاحمة ونشر النور ودعوة الناس إلى الحق مهما بلغت الحال من السوء وغلظ الحال، فالعاقبة للمتقين ، فالمسلم داعية إلى الله ،
وهو كالطبيب المعالج الذي يتعامل مع طبائع وشخصيات متباينة، فإن لم يكن لديه الصبر
الكافي، سئم وترك مريضه عرضة للهلاك، وعلاج كثير من الأمراض يحتاج لفترة من الزمن غير
قصيرة، يجتث فيها الخبيث من الأفكار والأخلاق ، والبدع الشرك ، ويغرز مكانها بذور
الخير والحق، فتثمر بإذن ربها . والخير في أمة محمد باق إلى يوم الدين. ومن الأمور
المتقررة عند أهل المعرفة أنه لا يستطيع العمل على تغيير واقع الناس وانتشالهم من الضلال
إلى الهدى، ومن البدعة إلى السنَّة، بصورة صحيحة مؤثرة، إلا من عاشرهم، وداخلهم، وعرف
أحوالهم؛ ولذا على الداعية وطالب العلم أن يستشعر الخيرية.
5-
ويحصل
للمسلم عموما من المصالح الشرعية من مَنَافِع الاخْتِلاط بالناس الكثير الذي لا
يتأتى أبدا بالعزلة، مثل : َالْقِيَامِ بِشَعَائِر الإِسْلام وَتَكْثِير سَوَاد الْمُسْلِمِينَ
وَإِيصَال أَنْوَاع الْخَيْر إِلَيْهِمْ مِنْ إِعَانَة وَإِغَاثَة ونَحْو ذَلِكَ .
وشُهُودِ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَالْجَنَائِز وَعِيَادَة الْمَرْضَى وَحِلَق الذِّكْر
. . . وَغَيْر ذَلِكَ . فتح الباري ( 13/43 ) شرح مسلم للنووي، وكلها لها عظيم
الأجر يفوق أجر المفرد . أعلم .
حكم
المخالطة مع خوف الضرر في الدين:
عرضنا
سالفا موقف جماهير السلف بتفضيل الاختلاط بالناس، في الأحوال الطبيعية التي لا يلحق
المسلم فيها ضرر في دينه، على اعتزالهم والبعاد عنهم، ولكن في حالات يكون الإختلاط
فتنة قد تلحق، فليس الأمر على التفسح فيه
ـ بل في هذه الحالة يكون اختلاطا مقننا، بقدر الحاجة ، وبقدر ما يبلغ دين الله
الحق، وفي هذا المعنى قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «
خالطوا الناس وزايلوهم، وصافحوهم، ودينكم لا تَكْلِمُونه» وقال
عمررضي الله عنه: «خالطوا الناس بما يحبون، وزايلوهم بأعمالكم،
وجِدُّوا مع العامة» وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «خالطوا
الناس بألسنتكم وأجسادكم، وزايلوهم بقلوبكم وأعمالكم؛ فإن لكل امرئ ما اكتسب، وهو يوم
القيامة مع من أحب»
وفي
هذه الآثار المذكورات عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم بيان للمنهج الشرعي في هذه القضية، وهو مخالطة الناس
ومخالفتهم، مع مزايلتهم ومخالفتهم، وليس بين الأمرين تعارض؛ إذ الأمر كما توضحه هذه
الآثار والآثار الأخرى، يراد به مخالطتهم بالأجسام، ومزايلتهم بالأعمال، مع المحافظة
التامة على الدين، أن يصاب بضرر بسبب هذه المخالطة. ويحسن التنبيه هنا إلى أن أهل العلم
لا يقصدون بذلك أن يختلط العالم والداعية بالناس اختلاطاً طاغياً على شؤونه وأموره
الأخرى، بل هم مجتمعون على أن القدر الذي يطالب به من الخلطة، لا بد أن يكون معتدلاً
في الجملة، ثم هو يتفاوت بعد ذلك بحسب المصلحة.
مواقف من سيرته ﷺوشيء
من صبره وحلمه على الناس:
1-
وحياته
ﷺ
وسيرته العطرة دليل الصدق على سمو نفسه عن الإنتقام لذاته عليه ﷺ،
بل يبدل هذه الرغبة إلى رفق ورحمة يغمر بها غريمه ، وثم يثيبه ويواسيه بما عنده ﷺ،
وإليكم هذه الحادثة: فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " كنتُ
أمشي مع رسولِ اللهِ ﷺ،
وعليه رِداءٌ نَجرانيٌّ غليظُ الحاشيةِ . فأدركه أعرابيٌّ . فجبَذَه برِدائِه جبْذةً
شديدةً . نظرتُ إلى صفحةِ عُنُقِ رسولِ اللهِ ﷺ وقد أثَّرتْ بها حاشيةُ
الرِّداءِ، من شدِّةِ جبْذَتِهِ، ثم قال :
يا محمدُ ! مُرْ لي من مالِ اللهِ الذي عندك، فالتفتَ إليه رسولُ اللهِ ﷺ.
فضحِكَ . ثم أمر له بعَطاءٍ، وفي حديثِ عكرمةَ
بنِ عمارٍ من الزِّيادةِ : قال : ثم جبذَهُ إليه جبْذَةً ، رجع نبيُّ اللهِ ﷺ في نحرِ ، عرابيِّ . وفي
حديث همامٍ : فجاذَبَه حتى انشقَّ البُرْدُ، وحتى بقيتْ حاشيتُه في عُنُقِ رسولِ اللهِ ﷺ"
( صحيح مسلم) تصرف عجيب من رسول الله ، وحلم ندر مثيله ، وسمو وتواضع ، وحنو وحلم على
من أساء له وآذاه مصدره إيمان فهوﷺ الرحمة المهداة والمنة المسداة لهذه البشرية
الحائرة التي كانت قبل محمد ﷺ لا تعرف ما معنى الرحمة ولا ما معنى الخلق
.
2-
وانظر
كيف تعامل النبي الكريم ﷺ مع من بال في مسجده المسجد النبوي
الشريف، يأتي أعرابي ويبول فيه، كما في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
" جاء
أعرابيٌّ ، فبال في طائفةِ المسجدِ، فزجَره الناسُ، فنَهاهمُ النبيُّ صلَّى ﷺ،
فلما قَضى بَولَه، أمَر النبيُّ ﷺ بذَنوبٍ من ماءٍ، فأُهريقَ عليه " وفي
صحيح بن حبان : " أ نَّ
رسولَ الله ﷺ
قال له: ( إنَّ هذا المسجدَ إنَّما هو لذِكْرِ اللهِ والصَّلاةِ ولا يُبالُ فيه ) ثمَّ
دعا بسَجْلٍ مِن ماءٍ فأفرَغه عليه"، فما زجره ولا نهره ، بل نهى الناس من زجره وضربه
والتعدي عليه، وعلمه أحسن التعليم بأن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى ولا
القذر وإنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن.
3-
وانظر إليه ﷺ وهو يقف موقف العز في فتح مكة ، ويقف من آذوه
وطردوه وأتعبوه وعذبوا أصحابه وساموهم سوء العذاب موقف الذل والمهانة ، ينتظرون حكمه
فيهم ، ومع ذلك جاشت فيه نفس الشفقة والعطف والحنان ، ونسي ما كان منهم ، واحتسب أجره
على الله تعالى ، وقدم مبدأ العفو عند المقدرة ، وقال "
يا معشرَ قريشٍ ما ترَونَ أنِّي فاعلٌ بكم ؟ قالوا
: خيرًا ، أخٌ كريمٌ ، وابنُ أخٍ كريمٍ ، فقال :
اذهبوا فأنتم الطُّلَقاءُ " فلم ينتصر لنفسه وقد
آذوه ، عند مقدرته عليهم ، وضعفهم، وإنما هو العفو والصفح ، والرفق بهم ، فليست العزلة عن الناس تخلصا من أذاهم هي الحل ،
بل الحل هو المخالطة لهم مع كمال الصبر عليهم واحتساب الأجر في ذلك.
اللهم علمنا ما بنفعنا وتنفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا رب العالمين
جزاك الله خير
ReplyDelete