Wednesday 12 July 2017

تفسير وربط للآيات وبيان المتشابهات – سورة الجمعة ج 4 – فضل الجمعة يومه وأحكام صلاتها

 



 



تفسير سورة الجمعة ج 4 – فضل الجمعة يومه وأحكام صلاتها

سأتناول في هذا الجزء تفسير الثلاث آيات الأخيرة من سورة الجمعة، ولا يحسن تفسير الآيات بدون التطرق لأحكام الجمعة، فضل يومها ، وأحكام صلاتها، وليكون ذكر الأحكام المستخلصة من هذه الآيات وافياً واضحاً، فيلزم أن أقسم تفسير هذه الآيات على جزئين تفاديا للإطالة. وإليكم الجزء الأول، وهو تفسير الآية 9 من السورة،
وبالله التوفيق

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) وهذه الآية التي ذكرت فيها صلاة الجمعة ، وهي الآية الوحيدة في القرآن التي يذكر فيها الجمعة، ونادى الله فيها المؤمنين للسعي إلى صلاة الجمعة إذا أذن المؤذن لها، وقبل أن نشرع في  تفسير الآيات في صلاة الجمعة،  أذكر نبذة عن فرضية صلاة الجمعة، وأول من صلاها، وأول جمعة صلاها رسول الله ﷺ.

 فضل يوم الجمعة، وتسميته:

إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه كل أسبوع مرة بالمساجد، وفيه كمل جميع الخلائق، وفيه خلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، وفيه تقوم الساعة، كما ثبت بذلك الأحاديث الصحاح.
 وقد كان يقال له يوم العروبة،  وثبت أن الأمم قبلنا أُمروا به فضلوا عنه، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدئ فيه الخلق، واختار اللّه لهذه الأمة يوم الجمعة الذي أكمل اللّه فيه الخليقة، كما أخرجه البخاري ومسلم. عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه : (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، ثم إن هذا يومهم الذي فرض اللّه عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا اللّه له، فالناس لنا فيه تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد) ""هذا لفظ البخاري"" ولمسلم: (أضل اللّه عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء اللّه بنا فهدانا اللّه ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة، المقضِيِّ بينهم قبل الخلائق) ""أخرجه الشيخان واللفظ لمسلم"
 أول ما سمي يوم الجمعة، وأول جمعة صليت:

قال أبو سلمة: أول من قال: « أما بعد » كعب بن لوي، وكان أول من سمى الجمعة جمعة،  وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة.
وقيل: أول من سماها جمعة الأنصار، قال ابن سيرين: جمع أهل المدينة من قبل أن يقدم النبي المدينة، وقبل أن تنزل سورة الجمعة؛ وهم الذين سموها الجمعة؛ وذلك أنهم قالوا: إن لليهود يوما يجتمعون فيه، في كل سبعة أيام يوم وهو السبت. وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله ونصلي فيه - ونستذكر - أو كما قالوا - فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم الأحد للنصارى؛ فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة ( أبو أمامة رضي الله عنه ) فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكرهم، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا. فذبح لهم أسعد شاة فتعشوا وتغدوا منها لقلتهم،  فهذه أول جمعه في الإسلام.
وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلا على ما يأتي. وقال البيهقي: وروينا عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة بالمدينة للمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله . قال البيهقي: يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة فأضافه كعب إليه. والله اعلم.

الخلاف في فرض الجمعة:

وهذا لا يعني أنه أسعد بن زرارة وجماعة الأنصار هم من فرض يوم الجمعة ليكون يوما عيد وعبادة للمسلمين، ففي سورة النحل قوله تعالى ( إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ( 124) ، قالوا في تفسيرها: إنما جعل الله تعظيم يوم السبت بالتفرغ للعبادة فيه على اليهود الذين اختلفوا فيه على نبيهم، واختاروه بدل يوم الجمعة الذي أُمِروا بتعظيمه. فإن ربك -أيها الرسول- لَيحكم بين المختلفين يوم القيامة فيما اختلفوا فيه على نبيهم، ويجازي كلا بما يستحقه.فهذا يعني أن الله تعالى قد أمر به أهل الكتب من قبلنا ، ولكنهم اختلفوا على أنبيائهم، وهدانا الله إليه، فلله الحمد والمنة.
وروى أبو إسحاق الفزاري في " كتاب السير " له ، عن الأوزاعي قال : بعث رسول الله مصعب بن عمير القرشي إلى المدينة، قبل أن يهاجر النبي ، فقال: " أجمع من بها من المسلمين ، ثم انظر اليوم الذي تجمر فيه اليهود لسبتها، فإذا مال النهار عن شطره فقم فيهم، ثم تزلفوا إلى الله بركعتين" .( رواه الدارقطني -في إسناده مقال وتضعيف)
وروى عبد الرزاق في عن معمر، عن الزهري ، قال: بعث رسول الله مصعب بن عمير إلى أهل المدينة ليقرئهم القرآن ، فاستأذن رسول الله أن يجمع بهم ، فأذن له رسول الله ، وليس يومئذٍ بأميرٍ، ولكنه انطلق يعلم أهل المدينة .
فتبين بهذا : أن النبي أمر بإقامة الجمعة بالمدينة، ولم يقمها بمكة، وهذا يدل على أنه كان قد فرضت عليه الجمعة بمكة ، قبل أن تنزل سورة الجمعة، والله أعلم.
وأما كونه لم يفعله بمكة ، فيحمل أنه إنما أمر بها أن يقيمها في دار الهجرة ، لا في دار الحرب، وكانت مكة إذ ذاك دار حربٍ، ولم يكن المسلمون يتمكنون فيها من إظهار دينهم ، وكانوا خائفين على أنفسهم، ولذلك هاجروا منها إلى المدينة ، والجمعة تسقط بأعذارٍ كثيرةٍ منها الخوف على النفس والمال .
قال : وقال الزهري : فجمع بهم مصعب بن عمير في دار من دور الأنصار، قد يكون دار لأسعد بن زرارة ، فجمع بهم وهم بضعة عشر.

وأما أول جمعة جمعها النبي بأصحابه:

قال أهل السير والتواريخ: قدم رسول الله مهاجرا حتى نزل بقباء، على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى، ومن تلك السنة يعد التاريخ. فأقام بقباء إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم. ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة؛ فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم قد اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا؛ فجمع بهم وخطب. وهي أول خطبة خطبها بالمدينة، وقال فيها: ( الحمد لله. أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأأمن به ولا أكفره، وأعادي من يكفر به. واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسول، أرسله بالهدى ودين الحق، والنور والموعظة والحكمة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل. من يطيع الله ورسوله فقد رشد. ومن يعص الله ورسول فقد غوى وفرط وضل ضلالا بعيدا. أوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله. واحذروا ما حذركم الله من نفسه.....) ولم تثبت عنه ، والله أعلم
وأول جمعة جمعت بعدها جمعة بقرية يقال لها: « جواثي » من قرى البحرين. وقيل: إن أول من سماها الجمعة كعب بن لؤي بن غالب لاجتماع قريش فيه إلى كعب؛ كما تقدم. والله اعلم. وفي نهاية التفسير ساذكر أحكام يوم الجمعة وصلاتها إن شاء الله.

التفسير:  

قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) قرأ عبدالله بن الزبير والأعمش وغيرهما « الجمْعة » بإسكان الميم على التخفيف. وهما لغتان.

في اللغة:

الجُمْعَةُ : المجموعةُ ، الجُمْعَةُ : الأُلْفةُ
جُمْعةٌ من تمْرٍ : قُبْضَةٌ منه
والجُمْعةُ – يتسكين الميم-، والجُمُعةُ – بضم الميم-، والجُمَعَةُ- بفتح الميم- : كلها في ما يلي الخميسَ من أَيامِ الأَسبوع لغات صحيحة،  وتجمع على: جُمَعٌ وجمعات.
قال الفراء: يقال الجُمْعة ( بسكون الميم ) والجُمُعة ( بضم الميم ) والجَمَعة ( بفتح الميم ) فيكون صفة اليوم؛ أي تجمع الناس. كما يقال: ضَحَكة للذي يضحك.

وقال ابن عباس: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم فاقرؤوها جُمُعة؛ يعني بضم الميم، وقال الفراء وأبو عبيد: والتخفيف أقيس وأحسن؛ نحو غُرْفة وغُرَف، وطُرْفة وطُرَف، وحُجْرة وحُجَر. وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل: إنها لغة النبي ﷺ.
 وعن سلمان أن النبي قال: ( إنَّما سُمِّيَتِ الجمعةَ لأنَّ آدمَ جُمعَ فيها خلقُهُ) ( ضعيف الجامع للألباني- ضعيف)، وقيل: لأن الله تعالى فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمعت فيها المخلوقات. وقيل: لتجتمع الجماعات فيها، وقيل: لاجتماع الناس فيها للصلاة، والله أعلم.
 وقوله ( مِن يَوْمِ ) بمعنى ( في يوم )؛ أي في يوم الجمعة؛ كقوله تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [ فاطر: 40 ] أي في الأرض.
خاطب الله المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفا لهم وتكريما فقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) ثم خص يوم الجمعة بالنداء له – الآذان- قال: ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ )،فالنداء لصلاة الجمعة وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى: ( وإذا ناديتم إلى الصلاة )( المائدة 58 )، أنما خصه هنا ليدل على وجوبه وتأكيد فرضه، قال ابن العربي: وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة وهي قوله: ( مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) وذلك يفيده؛ لأن النداء الذي يختص بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة. فأما غيرها فهو عام في سائر الأيام.

وقد كان الأذان على عهد رسول الله كما في سائر الصلوات آذان واحد؛ يؤذن إذا جلس النبي على المنبر، وكذلك كان يفعل أبو بكر وعمر وعلي بالكوفة. ثم زاد عثمان على المنبر أذانا ثالثاً-باعتبار الإقامة آذان- على داره التي تسمى « الزوراء » حين كثر الناس بالمدينة. ليتأهب الناس لحضور الخطبة عند اتساع المدينة وكثرة أهلها؛ حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذن مؤذن النبي ، ثم يخطب عثمان. خرج البخاري من طرق بمعناه. وفي بعضها: أن الأذان الثاني- يقصد الأول، وقال الثاني لترتيب استحداثه- يوم الجمعة أمر به عثمان بن عفان حين كثر أهل المسجد، وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد، قال ابن العربي. وفي الحديث الصحيح: أن الأذان كان على عهد رسول الله واحدا، فلما كان زمن عثمان زاد الأذان الثالث على الزوراء، وسماه في الحديث ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة، كما قال : ( بين كل أذانين صلاة لمن شاء) يعني الأذان والإقامة. 

قوله تعالى:( فَاسْعَوْا ) اختلف في معنى السعي ها هنا على ثلاثة أقوال:
 أولها: القصد. قال الحسن: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. الثاني: أنه العمل، كقوله تعالى: « ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن » [ الإسراء: 19 ] ، وقوله: « إن سعيكم لشتى » [ الليل: 4 ] ، وقوله: « وأن ليس للإنسان إلا ما سعى » [ النجم: 39 ] . وهذا قول الجمهور. وقال زهير:
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم
أي فاعملوا على المضى إلى ذكر الله، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والتطهير والتوجه إليه. الثالث: أن المراد به السعي على الأقدام. وذلك فضل وليس بشرط. ففي البخاري: أن أبا عبس بن جبر - واسمه عبدالرحمن وكان من كبار الصحابة - مشى إلى الجمعة راجلا وقال: سمعت رسول الله يقول: ( من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار ) ويحتمل ظاهره .
رابعا: وهو الجري والاشتداد. قال ابن العربي: وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون، قالوا بل أراد بالسعي المضى بجد وانكماش، ولم يقصد للعدو والإسراع في الخطو.
يقول القرطبي: ومما يدل على أنه ليس المراد ها هنا العدو قوله : ( إذا أقيمَتِ الصَّلاةُ ، فلا تَأتوها وأنتُمْ تَسعونَ ، ولَكِن ائتوها وأنتُمْ تمشونَ ، وعليكُمُ السَّكينةَ فما أدرَكْتُمْ فصلُّوا ، وما فاتَكُم فأتمُّوا) ( صحيح الترمذي)، وكذلك قال ابن كثير: أي اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم إليها، وليس المراد بالسعي ههنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها، كقوله تعالى: { ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن} ، فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه لما أخرجاه في الصحيحين، عن أبي قتادة قال: بينما نحن نصلي مع النبي إذ سمع جلبة رجال، فلما صلى قال: (ما شأنكم؟) قالوا: استعجلنا إلى الصلاة قال: (فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فامشكوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) ""أخرجاه في الصحيحين""، وقال الحسن: أما والله ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار؛ ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك. وهذا حسن، فإنه جمع الأقوال الثلاثة. 
قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) خطاب المكلفين بإجماع. ويخرج منه المرضى والزمني والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة. روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد ) (خرجه الدارقطني- ضعيف ) وقال المالكية رحمهم الله: ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه منه الإتيان إليها؛ أ-مثل المرض الحابس، ب-أو خوف الزيادة في المرض، ج-أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن . د- والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع. ولو يره مالك عذرا له.
 ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الإمام أعاد، ولا يجزيه أن يصلي قبله. وهو في تخلفه عنها مع إمكانه لذلك عاص لله بفعله.

على من تجب صلاة الجمعة؟

قوله تعالى: ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ ) يختص بوجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء، فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب. واختلف فيمن يأتي الجمعة من الداني والقاصي، فقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس: تجب الجمعة على من في المصر على ستة أميال. وقال ربيعة: أربعة أميال. وقال مالك والليث: ثلاثة أميال. وقال الشافعي: اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صيتا، والأصوات هادئة، والريح ساكنة وموقف المؤذن عند سور البلد. وفي صحيح مسلم عن عائشة: كان الناسُ ينتابون الجمعةَ من منازلِهم من العَوالي . فيأتون في العَباءِ . ويصيبُهم الغبارُ . فتخرُجُ منهم الريحُ ( اي رائحة العرق من المشي البعيد)، فأتى رسولَ اللهِ إنسانٌ منهم ، وهو عندي . فقال رسولُ اللهِ : " لو أنكم تطهرتُم ليومِكم هذا " . قال النووي رحمه الله : " قال الشافعي والأصحاب : إذا كان في البلد أربعون فصاعدا من أهل الكمال ، وجب الجمعة على كل من فيه وإن اتسعت خطة البلد فراسخ ، وسواء سمع النداء أم لا . وهذا مجمع عليه " انتهى من المجموع" (4/353) .

عدد المصلين الذي تنعقد به الجمعة:

واختلف العلماء في العدد الذي تنعقد به الجمعة على أقوال؛ فقال الحسن: تنعقد الجمعة باثنين. وقال الليث وأبو يوسف، تنعقد بثلاثة. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: بأربعة. وقال ربيعة: باثني عشر رجلا. ودليلهم ما ورد في أول جمعة جمعت،  عن الزهري بسنده إلى مصعب بن عمير: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى المدينة، وأنه نزل في دار سعد بن معاذ، فجمع بهم وهم اثنا عشر رجلا ذبح لهم يومئذ شاة. وقال الشافعي: بأربعين رجلا. وقال أبو إسحاق الشيرازي : كل قرية فيها أربعون رجلا بالغين عقلاء أحرارا مقيمين، إلا وجبت عليهم الجمعة.
وفي فتاوى ابن باز قوله: وأصح الأقوال في هذه المسألة قول من قال: تنعقد بثلاثة لوجوه منها: أن الأصل وجوب إقامة الجمعة على أهل القرى والأمصار فلا يجوز لهم تركها إلا بحجة ولا حجة في تركها لمن بلغ هذا العدد، ومنها أن الثلاثة هي أقل الجمع في اللغة العربية .

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله بعد حكاية هذا القول : " ولكن الصحيح ما دام يشمله اسم واحد فهو بلد واحد ، ولو فرض أن هذا البلد اتسع وصار بين أطرافه أميال أو فراسخ فهو وطن واحد تلزم الجمعة من بأقصاه الشرقي ، كما تلزم من بأقصاه الغربي ، وهكذا الشمال والجنوب ؛ لأنه بلد واحد " انتهى من "الشرح الممتع"

حكم صلاة الجمعة:

وفرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم؛ ردا على من يقول: إنها فرض على الكفاية؛ وجمهور الأمة والأئمة أنها فرض على الأعيان؛ لقول الله تعالى: ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) . وثبت عن النبي أنه قال: ( لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين ) . وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها. وفي سنن ابن ماجة عن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - قال: قال رسول الله : ( من ترل الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها طبع الله على قلبه ) ، إسناده صحيح. وحديث جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله : ( من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه ) . ابن العربي: وثبت عن النبي أنه قال: ( الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم ) .

متى تُصلى الجمعة؟

قوله تعالى: ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّـهِ ) دليل على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت، بدليل قوله : ( إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليؤمكما أكبركما ) قاله لمالك بن الحويرث وصاحبه. وفي البخاري عن أنس بن مالك: "أن النبي كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس، أي عن الزوال"
وقد روي عن أبي الصديق وأحمد بن حنبل أنها تُصلي قبل الزوال، وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع: كنا نصلي مع النبي ثم ننصرف وليس للحيطان ظل، وبحديث ابن عمر: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة، ومثله عن سهل، خرجه مسلم. وحديث سلمة محمول على التبكير.
وروى وكيع عن يعلي عن إياس عن أبيه قال: كنا نجمع مع رسول الله إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء. وهذا مذهب الجمهور من الخلف والسلف، وقياسا على صلاة الظهر. وحديث ابن عمر وسهل، دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها، فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة، وقد رأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير، وتأول قول النبي : ( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة... ) الحديث بكماله إنه كان في ساعة واحدة. وحمله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتي عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادة النهار ونقصانه. ابن العربي: وهو أصح؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها.

استحباب الإغتسال للجمعة، و الوضوء يكفى:

أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات؛ لقوله عز وجل: ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) [ المائدة 6 ] الآية. وقال النبي : ( لا يقبل الله صلاة بغير طهور) ولا يصح القول بوجوب الغسل يوم الجمعة وإنما هو مستحب؛ لما روى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي قال: ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل ) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ( من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم راح إلى الجمعة فاستمع وأنصت غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ومن مس الحصى فقد لغا ) وهذا نص. وفي الموطأ: أن رجلا دخل يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب... - الحديث إلى أن قال: - ما زدت على أن توضأت، فقال عمر: والوضوء أيضا؟ وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل. فأمر عمر بالغسل ولم يأمره بالرجوع، فدل على أنه محمول على الاستحباب.

إذا اجتمع يوم عيد في يوم الجمعة:

هل تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد؟ يرى أحمد بن حنبل فإنه قال: إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة؛ لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها، وتعلق في ذلك بما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة، وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه. والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وفي صحيح مسلم،عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله يقرأُ ، في العيدينِ وفي الجمعةِ ، بـ ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ) ، ( وهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ). قال : وإذا اجتمع العيدُ والجمعةُ، في يومٍ واحدٍ ، يقرأُ بهما أيضًا في الصلاتيْنِ "  
وقد ورد من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه سأله: هل شهدت مع رسول الله عيدين اجتمعا في يوم واحد؟ قال: نعم، قال: كيف صنع؟ قال: صلى العيد ثم رخص في الجمعة، فقال: (من شاء أن يصلي فليصل). رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه والدارمي والحاكم في "المستدرك" وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد على شرط مسلم. ووافقه الذهبي، وقال النووي في "المجموع": إسناده جيد.
2- وشاهده المذكور هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: (قد اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة، وإنا مجمعون). رواه الحاكم كما تقدم.
وبناء على هذه الأحاديث المرفوعة إلى النبي ، وعلى هذه الآثار الموقوفة عن عدد من الصحابة رضي الله عنهم ، وعلى ما قرره جمهور أهل العلم في فقهها، فقد أفتت اللجنة الدائمة للفتوى بالتالي:
1- من حضر صلاة العيد فيرخص له في عدم حضور صلاة الجمعة، ويصليها ظهراً في وقت الظهر، وإن أخذ بالعزيمة فصلى مع الناس الجمعة فهو أفضل.
2- من لم يحضر صلاة العيد فلا تشمله الرخصة، ولذا فلا يسقط عنه وجوب الجمعة، فيجب عليه السعي إلى المسجد لصلاة الجمعة، فإن لم يوجد عدد تنعقد به صلاة الجمعة صلاها ظهراً.
3- يجب على إمام مسجد الجمعة إقامة صلاة الجمعة ذلك اليوم ليشهدها من شاء شهودها ومن لم يشهد العيد، إن حضر العدد التي تنعقد به صلاة الجمعة وإلا فتصلى ظهرا.
4- من حضر صلاة العيد وترخص بعدم حضور الجمعة فإنه يصليها ظهراً بعد دخول وقت الظهر.
5- لا يشرع في هذا الوقت الأذان إلا في المساجد التي تقام فيها صلاة الجمعة، فلا يشرع الأذان لصلاة الظهر ذلك اليوم.

قوله تعالى: ( ِإلَى ذِكْرِ اللَّـهِ ) أي الصلاة. وقيل الخطبة والمواعظ؛ قاله سعيد بن جبير. ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع؛ وأوله الخطبة، والدليل على وجوب الخطبة أنها تحَرِّم البيع ولولا وجوبها ما حرمته؛ لأن المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا: إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة،  والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبحا لله بفعله، الزمخشري: فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك! قلت: ما كان من ذكر رسول الله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله.
قوله تعالى: ( وَذَرُوا الْبَيْعَ ) منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها، والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله تعالى: ( سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ) [ النحل81 ] ، لم يقل البرد ، وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، ومن لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء.

وفي وقت تحريم البيع والشراء قولان:

اختلف أهل العلم عند أي النداءين يحرم البيع ، على قولين :
مذهب الحنفية : يحرم البيع عند الأذان الأول ، وهو الذي استحدثه عثمان رضي الله عنه. ومذهب الجمهور : أن التحريم متعلق بالأذان الثاني – الذي يكون عقب جلوس الإمام على المنبر. "الموسوعة الفقهية الكويتية" 
والقول الراجح : هو قول الجمهور ؛ لأنه لم يكن على عهد رسول الله إلا  آذان واحد للجمعة – بعد أن يجلس الإمام على المنبر – ، فيتعين أن يكون هذا الأذان هو المراد في الآية ( فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) حين نزلت ، ولأن البيع عند هذا الأذان يشغل عن الصلاة ، ويكون ذريعة إلى فواتها ، أو فوات بعضها.

حكم البيع بعد آذان الثاني ليوم الجمعة:

ويفسخ عقد البيع عنده إذا ما وقع في ذلك الوقت، ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره، إذ ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع. قالوا: وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ. ابن العربي: والصحيح فسخ الجميع، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به. فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردءا. ورأى بعض العلماء البيع في الوقت المذكور جائزا، وتأول النهي عنه ندبا، واستدل بقوله تعالى: ( ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ) وهذا مذهب الشافعي؛ فإن البيع ينعقد عنده ولا يفسخ،  جمهور الفقهاء على أن البيع وقت النداء محرم وهو قول المالكية والشافعية والحنابلة وقال الحنفية مكروه كراهة تحريمية وهو بمعنى الحرام عند الجمهور.
فتكون الخلاصة أن البيع محرم عند عامة الفقهاء ويأثم البائع والمشتري، قلت: والصحيح فساد البيع وفسخه؛ لقوله : " كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " أي مردود. والله اعلم

هل الحكم يشمل النساء والمرضى والمعذورين من الجمعة؟

عامة الفقهاء على أن المعذورين الذين لا تجب عليهم الجمعة لا يشملهم الحكم فلا يحرم البيع والشراء على المرأة والصبي والعبد والمريض والمسافر، وذلك أن النهي معلل بوجوب السعي لذكر الله، والعلة اذا نص عليها الدليل فان الحكم يدور معها وجودا وعدما، فكل من لم يخاطب بالسعي لا يخاطب بالنهي، والله اعلم

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، وزنا علما يا رب العالمين، وصل اللهم وسلم على صاحب الجمعة والجماعة، سيدنا وحبيبنا سيد الخلق أجمعين.

No comments:

Post a Comment