Thursday 10 February 2022

تفسير سورة البقرة ح 6 - قصة خلق آدم عليه السلام وغاية خلقه أن يكون خليفة في الأرض

   
 

محور مواضيع هذه الآيات:

-بيان عظمة الله في خلقه وتنوعه، وأن لا شيء يخرج من حدود إرادته، وبيان ما في خلق آدم من الخير للأرض، على الرغم من وجود الإفساد.

-بيان طاعة الملائكة لله تعالى المطلقة، وأنهم مخلوقون لطاعة الله، وتعظيمه وتقديسه.

-عداوة أبليس لابن آدم من بداية خلقه حسدًا منه، واستكبارًا عليه.

-الحكمة من إسكان الله تعالى لآدم وزوجه في الجنة وهو قد خلقه ليعمر الأرض.

التفسير:

قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴿٣٠﴾ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿٣١﴾‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴿٣٢﴾‏ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ ۖ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴿٣٣﴾‏ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴿٣٤﴾

هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك، وأن الله مستخلفه في الأرض.

فقالت الملائكة عليهم السلام: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) بالمعاصي (وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) وهذا تخصيص بعد تعميم، لبيان شدة مفسدة القتل، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك، عن ابن عباس: أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو، قال: كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة، فأفسدوا في الأرض، وسفكوا الدماء، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم، حتى ألحقوهم بجزائر البحور، فلما قال الله للملائكة: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً ) قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟ قال:إني أعلم ما لا تعلمون .فقالت الملائكة ذلك، فقاسوا هؤلاء -بني آدم-  بأولئك.- الجن- فنزهوا الباري عن ذلك وعظموه، وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة، فقالوا: (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) أي: ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، (وَنُقَدِّسُ لَكَ) يحتمل أن معناها: ونقدسك، فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص، ويحتمل أن يكون: ونقدس لك أنفسنا، أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة؛ كمحبة الله وخشيته وتعظيمه ونطهرها من الأخلاق الرذيلة.

قدس باللغة:

قَدَّسَ: فعل

قدَّسَ / قدَّسَ لـ يقدِّس ، تقديسًا ، فهو مُقدِّس ، والمفعول مُقدَّس - للمتعدِّي

قَدَّسَ للهِ : صلَّى له

 قدَّس اللهُ فلانًا: طهّره وبارك عليه

 قدَّس اللهَ: عظَّمه وبجّله ونزّهه عمّا لا يليق بألوهيّته

قال الله تعالى للملائكة: (إِنِّي أَعْلَمُ) من هذا الخليفة (مَا لا تَعْلَمُونَ)؛ لأن كلامكم بحسب ما ظننتم، وأنا عالم بالظواهر والسرائر، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة،أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك، إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين، والشهداء والصالحين، ولتظهر آياته للخلق ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة؛ كالجهاد وغيره وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم من الخير والشر بالامتحان، وليتبين عدوه من وليه وحزبه من حربه، وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه واتصف به، فهذه حكم عظيمة يكفي بعضها في ذلك.

ثم لما كان قول الملائكة عليهم السلام، فيه إشارة إلى فضلهم على الخليفة الذي يجعله الله في الأرض، أراد الله تعالى أن يبين لهم من فضل آدم، ما يعرفون به فضله، وكمال حكمة الله وعلمه فـ ( عَلَّمَ آدَمَ الأسْمَاءَ كُلَّهَا) أي: أسماء الأشياء، وما هو مسمى بها، فعلمه الاسم والمسمى، أي: الألفاظ والمعاني، حتى المكبر من الأسماء كالقصعة، والمصغر كالقصيعة، وهذا يستخلص من قوله تعالى: (كُلَّهَا)

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ) أي: عرض المسميات (عَلَى الْمَلائِكَةِ) امتحانا لهم، هل يعرفونها أم لا؟.

(فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في قولكم وظنكم، أنكم أفضل من هذا الخليفة.

( قَالُوا سُبْحَانَكَ) أي: ننزهك من الاعتراض منا عليك ومخالفة أمرك. (لا عِلْمَ لَنَا) بوجه من الوجوه (ِإلا مَا عَلَّمْتَنَا) إياه، فضلا منك وجودا، والملائكة هنا يصرحون بعدم معرفتهم شيء ابتداءً، بل بتعليم الله لهم ما يشاء، فردوا العلم لله فقالوا: (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) العليم الذي أحاط علما بكل شيء؛ فلا يغيب عنه ولا يعزب مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

الحكيم: من له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق،ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق شيئا إلا لحكمة: ولا أمر بشيء إلا لحكمة.

والحكمة: وضع الشيء في موضعه اللائق به، فأقروا واعترفوا بعلم الله وحكمته وقصورهم عن معرفة أدنى شيء، واعترافهم بفضل الله عليهم؛ وتعليمه إياهم ما لا يعلمون.

فحينئذ قال الله: (يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) أي: أسماء المسميات التي عرضها الله على الملائكة؛ فعجزوا عن تسميتها وتعريفها، (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) تبين للملائكة فضل آدم عليهم؛ وحكمة الباري وعلمه في استخلاف هذا الخليفة، (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) وهو ما غاب عنا فلم نشاهده، فإذا كان عالما بالغيب؛  فالشهادة من باب أولى، (وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ) أي: تظهرون (وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) .

ثم أمرهم تعالى بالسجود لآدم؛  إكراما له وتعظيما،وعبودية لله تعالى، فامتثلوا أمر الله وبادروا كلهم بالسجود،  (إِلا إِبْلِيسَ أَبَى) امتنع عن السجود، واستكبر عن أمر الله وعلى آدم، قال: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) وهذا الإباء منه والاستكبار، نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه،  فتبينت حينئذ عداوته لله ولآدم وكفره واستكباره.

وفي هذه الآيات من العبر والآيات:  

-في العقيدة؛ إثبات الكلام لله تعالى، وأنه لم يزل متكلما يقول ما شاء، ويتكلم بما شاء،  وأنه عليم حكيم- وهو جل في علاه تكلم بالقرآن منذ الأزل، وهذه المسألة زلَّت فيها أقدام، وضلَّت فيها أفهام؛ ذلك أنهم أرادوا تنزيه الله عن الحوادث - بزعمهم - فعطَّلوا الله عن الكلام؛ فمنهم مَن قال: القرآن مخلوق، ومنهم من قال: هو كلام نفسي، ألقى الله معناه في رُوعِ جبريل، وغير ذلك من التحريفات التي ما هي في الحقيقة إلا مخلَّفاتُ الفلاسفة والمتكلِّمين.

-وفيه أن العبد إذا خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالواجب عليه التسليم، واتهام عقله والإقرار لله بالحكمة للخالق.

 -وفيه اعتناء الله بشأن الملائكة، وإحسانه بهم بتعليمهم ما جهلوا، وتنبيههم على ما لم يعلموه.

-وفيه فضيلة العلم من وجوه:

منها: أن الله تعرف لملائكته، بعلمه وحكمته.

 ومنها: أن الله عرفهم فضل آدم بالعلم، وأنه أفضل صفة تكون في العبد.

 ومنها: أن الله أمرهم بالسجود لآدم،  إكراما له  لما بان لهم فضل علمه.

ومنها: الاعتبار بحال أبوي الإنس والجن،  وبيان فضل آدم، وأفضال الله عليه،وعداوة إبليس له، إلى غير ذلك من العبر.

 

وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ﴿٣٥﴾‏ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ﴿٣٦﴾‏

لما خلق الله آدم وفضله أتم نعمته عليه، بأن خلق منه زوجة ليسكن إليها؛  ويستأنس بها، وأمرهما بسكنى الجنة،  والأكل منها رغدا؛  أي: واسعا هنيئا، (حَيْثُ شِئْتُمَا) أي: من أصناف الثمار والفواكه،  وقال الله له: (إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى*وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) [سورة طه ١١٨].

رغدا في القرآن:
رَغَداً : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا ) [٥٨ البقرة] أي واسعا هنيئا

وهنا (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا) [٣٥ البقرة] رغداً: واسعاً. أو كثيراً. أو هنيئاً لا عناء فيه.

رغد عيش رغد ورغيد: طيب واسع، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ) [النحل١١٢]

 وأرغد القوم: حصلوا في رغد من العيش، وأرغد ماشيته.

ما سبب تقديم وتأخير كلمة{رَغَداً}  في آيتي سورة البقرة

1ـ العيش الرغد أو الأكل الرغد هو الهنيء الذي لا جهد معه. الآية الأولى الكلام مع آدم عليه السلام بالترخيص بسكن الجنة أولاً: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} [البقرة٣٥] ثم بالأكل من الجنة {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا} ، ثم بمطلق المكان: {حَيْثُ شِئْتُمَا} .

2ـ في الآية [٣٥] قدَّم {رَغَدًا} على مشيئة الأكل، بينما أخّر{رَغَدًا}على مشيئة الأكل في الآية (٥٨) هي في بني إسرائيل، وهم في التيه في سيناء، (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا) ؛ والسبب أنّ الآية الأولى في الجنة وكلها رغد؛ لذلك قدّمها، أمّا الآية الثانية فهي في الدنيا، والرغد فيها قليل عموما، وفي الصحراء أقل وأندر، فلذلك أخّرها .

ولو وضعهما موضعاً واحداً لكان المعنى أنهما متساويان في الرغد، وهذا بعيد؛ فليس من المعقول أنْ تتساوى الجنة والدنيا في الرغد .

(وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) نوع من أنواع شجر الجنة، الله أعلم بها، وإنما نهاهما عنها امتحانا وابتلاء أو لحكمة؛  أن يعرفهما عدوهما، وعدو أبناء آدم عموما، أو حكمة غير معلومة لنا (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) دل على أن النهي للتحريم، لأنه رتب عليه الظلم. 

فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه حتى أزلهما، أي: حملهما على الزلل بتزيينه؛  (وَقَاسَمَهُمَا بالله إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف٢١)، فاغترا به وأطاعاه؛ فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد، وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة.

 (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) أي: آدم وذريته، أعداء لإبليس وذريته، ومن المعلوم أن العدو يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل طريق، وحرمانه الخير بكل طريق، ففي ضمن هذا، تحذير بني آدم من الشيطان كما قال تعالى: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) ( فاطر٦)، وقال تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا) ( الكهف ٥٠)

ثم ذكر منتهى الإهباط إلى الأرض، فقال: (وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ ) أي: مسكن وقرار، ( وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) انقضاء آجالكم، ثم تنتقلون منها للدار التي خلقتم لها، وخلقت لكم، ففيها أن مدة هذه الحياة مؤقتة عارضة ليست مسكنا حقيقيا، وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار، ولا تعمَّر للاستقرار.

( فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) أي: تلقف وتلقن وألهمه الله رَبِّهِ كَلِمَاتٍ وهي قوله: (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [ الأعراف٢٣] الآية، فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته فَتَابَ الله عَلَيْهِ ورحمه، لأنه تعالى: ( إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) لمن تاب إليه وأناب.

وتوبته جزءان: توفيقه أولًا، إذا أراد بعده خيرًا وفقه للتوبة.

ثانيا قبولها: إذا اجتمعت شروط التوبة في التائب. وشروط التوبة النصوح التي يكفر الله بها الخطايا ثلاثة:

الأول: الندم على ما وقع منه من السيئات والمعاصي.

والثاني: تركها والإقلاع منها؛ خوفًا من الله سبحانه وتعظيمًا له.

والثالث: العزم الصادق ألا يعود فيها.

وهناك شرط رابع لصحة التوبة، إذا كان الذنب يتعلق بالمخلوق؛ كالقتل والضرب وأخذ المال، ونحو ذلك: وهو إعطاؤه حقه، أو استحلاله من ذلك.

ثم هو سبحانه الرَّحِيمُ بعباده،  ومن رحمته بهم؛ أن وفقهم للتوبة، وعفا عنهم وصفح ومحى الذنب، إن علم فيه الصدق.

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 38 ) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 39 ) .

كرر الإهباط، ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) أي: أيَّ وقت وزمان جاءكم مني - يا معشر الثقلين- هدى، أي: رسول وكتاب يهديكم لما يقربكم مني، ويدنيكم مني، ويدنيكم من رضائي، ( فمن تبع هداي) منكم بأن آمن برسلي وكتبي واهتدى بهم، وذلك بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب، والامتثال للأمر والاجتناب للنهي، (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) .

نفي الخوف والحزن والفرق بينهما:

أن المكروه إن كان حدث ومضى؛ أحدث الحزن، وإن كان منتظرا، أحدث الخوف، فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا انتفيا، حصل ضدهما؛  وهو الأمن التام.

 وكذلك في موضع آخر نفي الضلال والشقاء: قال تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ) [طه ١٢٣]‏ ، من اتبع هداه  فلا يضل الطريق إلى الجنة، ولا يشقى ، وإذا انتفيا – الضلال والشقاء-  ثبت ضدهما، وهو الهدى والسعادة، فمن اتبع هداه حصل له الأمن والسعادة الدنيوية والأخروية والهدى، وانتفى عنه كل مكروه من الخوف والحزن ، والضلال والشقاء، فحصل له المرغوب، واندفع عنه المرهوب، وهذا عكس من لم يتبع هداه، فكفر به، وكذب بآياته.

)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( )٣٩( أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص. قال رسول اللّه ﷺ : أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة ""رواه مسلم. وذكرُ هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قم قم، وقال آخرون: بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض والصحيح الأول، واللّه أعلم.

   

No comments:

Post a Comment