Friday 11 February 2022

تفسير سورة البقرة ح 7 بداية ذكر من قصص بني إسرائيل

    
  

تفسير سورة البقرة- ح7 – قصة بني إسرائيل – ما العهود التي أخذها ربهم عليهم؟ وهل وفوها؟

 

محور مواضيع هذه الآيات:


- يذكِر ربنا تبارك وتعالى بني إسرائيل  وبعض مما كان منهم في هذه  السورة ؛ من آية ٤٠ – ١٢٣  

-تبدأ الآيات بتذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وأن ذلك يوجب عليهم طاعته .

-ويذكرهم ربنا بما ألزمهم به في التوراة من وجوب نصرة نبيه الخاتم محمد ﷺ، واتباعه، وأن الدين الذي يأتي به هو الحق، والمرضي عنه ؛ ( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ) (آل عمران ١٩)‏

-يردف بذكر مقابلة بني إسرائيل لنعم الله عليهم، بالتعنت والعصيان لما يأمرهم به.

التفسير:

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴿٤٠﴾‏ وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ۖ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ ﴿٤١﴾‏ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٤٢﴾‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴿٤٣﴾

قوله تعالى: ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ) المراد بإسرائيل: يعقوب عليه السلام، وتقدير  ىالكلام: يا بني العبد الصالح المطيع للّه، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق،  فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه ابن عباس قال: حضرت عصابة من اليهود نبيَّ اللّه ﷺ فقال:( هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟)، قالوا: اللهم نعم، فقال النبي ﷺ: (اللهم اشهد) وعن ابن عباس: أن إسرائيل كقولك عبد اللّه. وقوله تعالى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} قال مجاهد : نعمة اللّه التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجَّر لهم الحجر، وأنزل عليهم المن والسلوى، ونجّاهم من عبودية آل فرعون.

وقيل: نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل، وأنزل عليهم الكتب. قلت: وهذا كقول موسى عليه السلام لهم: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) (المائدة ٢٠) يعني في زمانهم.

 والخطاب موجه لفرق بني إسرائيل الذين بالمدينة وما حولها، ويدخل فيهم من أتى من بعدهم, فأمرهم بأمر عام، فقال: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها.

 والمراد بذكر النعم؛

 أن يكون  بالقلب اعترافا، وباللسان ثناء، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه. ( فمن قال الحمد لله ، بلسانه ولم يستشعرها قلبه، فما حمد الله)

( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) قال: بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي ﷺ إذا جاءكم أن تؤمنوا به وتتبعوه،  أنجزْ لكم ما وعدتكم بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم. قال تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )(الأعراف ١٥٧)

وقيل المراد بذلك: ما ذكره الله في قوله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (المائدة ١٢)

وقيل المراد بالعقد هو : (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ) ( آل عمران٨١)

( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) وهو المجازاة على ذلك، فإذا أوفيتم بعهد الله، فإنه تعالى ( أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) : أرضَ عنكم و أُدخلكم الجنة، وقوله تعالى: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي:  فاخشون، أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة، لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسولﷺ والاتعاظ بالقرآن وزواجره، وامتثال أوامره وتصديق أخباره، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

ثم قال: ( وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ)، يعني به القرآن الذي أنزل على محمد ﷺ النبي الأُمي العربي بشيراً ونذيراً، وسراجاً منيراً، مشتملاً على الحق من اللّه تعالى، مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل. قال أبو العالية: ( وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ)  ، يقول: يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم، يقول: لأنهم يجدون محمداً ﷺ مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل.

وأيضا فإن في قوله: (مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا به، عاد ذلك عليكم، بتكذيب ما معكم، لأن ما جاء به هو الذي جاء به موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء، فتكذيبكم له تكذيب لما معكم.

وأيضا؛  فإن في الكتب التي بأيدكم،  صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن والبشارة به، فإن لم تؤمنوا به كذبتم ببعض ما أنزل إليكم، ومن كذب ببعض ما أنزل إليه، فقد كذب بجميعه، كما أن من كفر برسول، فقد كذب الرسل جميعهم.

وقوله: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) أي: بالرسول والقرآن، فمن كفر بالرسول ﷺ فقد كفر بالقرآن، ومن كفر بالقرآن فقد كفر بالرسول ﷺ.

قال ابن عباس: ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم.

وأما قوله: ( أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) فيعني به أول من كفر به من بين إسرائيل، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنه أول من كفر به من جنسهم.

وفي قوله: ( أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ ) أبلغ من قوله: ( ولا تكفروا به ) لأنهم إذا كانوا أول كافر به،  كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به عكس ما ينبغي منهم، وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم.

ثم ذكر المانع لهم من الإيمان؛ وهو اختيار العرض الأدنى على السعادة الأبدية، فقال: ( وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا ) وهو ما يحصل لهم من المناصب والمآكل،  التي يتوهمون انقطاعها، إن آمنوا بالله ورسوله، فاشتروها بآيات الله واستحبوها وآثروها. يقول: لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية.

وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى: (ثَمَنًا قَلِيلا )قال: الثمن القليل الدنيا بحذافيرها.

ومن هذه الآية استنبط بعض الفقهاء عدم جواز أخذ المال على تعاليم القرآن، وحديث عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه ﷺ : (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه اللّه لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة) ""أخرجه أبو داود

القول بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن:

يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن والعلم، لأنه استئجار على عمل معلوم بعوض معلوم وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية والظاهرية وهو رواية عن أحمد وبه يفتي متأخرو الحنفية، وهذا المذهب الأخير هو الأرجح عند كثير من المحققين ولا سيما عند الحاجة والتفرغ،  ومنهم معاصرون خالفوا الألباني في المسألة ويدل له عدة أدلة منها ما رواه الشيخان وغيرهما من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: أن النبي ﷺ جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك، فقامت قياماً طويلاً، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة؟ فقال ﷺ: هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري، فقال النبي ﷺ: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئاً، فقال: ما أجد شيئاً، فقال: التمس ولو خاتماً من حديد، فالتمس فلم يجد شيئاً، فقال له النبي ﷺ: هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا وكذا يسميها، فقال النبي ﷺ: "قد زوجتكما بما معك من القرآن"  وفي رواية: "قد ملكتكما بما معك من القرآن". فهذا الرجل أباح له النبي ﷺأن يجعل تعليمه بعض القرآن لهذه المرأة عوضاً عن صداقها، وهو صريح في أن العوض على تعليم القرآن جائز ، ويؤيد ذلك ما ثبت في بعض الروايات في صحيح مسلم أنه ﷺ قال: (انطلق فقد زوجتكما) فعلمها من القرآن.

ويدل له أيضاً ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نفراً من أصحاب رسول الله ﷺ مروا بماء فيه لديغ أو سليم، فعرض لهم رجل من أهل الماء، فقال: هل فيكم من راق؟ إن في الماء رجلاً لديغاً أو سليماً، فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاء- أي على أن يجعل له شاء أجرا على الرقية-  فبرأ، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك، وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً، حتى قدموا المدينة، فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله ﷺ: "إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله."

 والحديث وإن كان سببه هو الرقية، إلا أن اللفظ هنا عام، وقد نص العلماء على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه، وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند ""مالك والشافعي وأحمد""وجمهور العلماء كما في قصة اللديغ: (إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب اللّه). ""رواه البخاري

( وَإِيَّايَ ) أي: لا غيري (فَاتَّقُونِ) ، كما قال تعالى في سورة الفاتحة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فجعل العبادة والإستعانة خالصة له وحده، وهنا التقوى منه وحده تبارك وتعالى.

فإنكم إذا اتقيتم الله وحده،  أوجبت لكم تقواه أن تقدموا الإيمان بآياته على الثمن القليل، كما أنكم إذا اخترتم الثمن القليل، فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.

ثم قال: ( وَلا تَلْبِسُوا ) أي: تخلطوا ، لبست عليه الأمر ألبسه، إذا مزجت بينه بمُشْكله وحقَّه بباطله قال الله تعالى (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ) (الأنعام٩)

وفي الأمر لبسة أي ليس بواضح ومن هذا المعنى قول علي رضي الله عنه للحارث بن حوط يا حارث (إنه ملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله)

( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ) فنهاهم عن شيئين، عن خلط الحق بالباطل، وكتمان الحق؛ فنهاهم عن الشيئين معاً، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به. ولهذا قال ابن عباس (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ): لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب.

والمقصود هنا من خلط الحق بالباطل هو تلبيس اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين اللّه الإسلام، وأن اليهودية والنصرانية هي شريعة ما هي بدين، وكل ما ينسبونه فيها لله ليس كذلك ، بل  بدع ابتدعوها ليست من اللّه.

لأن المقصود من أهل الكتب والعلم تمييز الحق وإظهار الحق ليهتدي بذلك المهتدون،  ويرجع الضالون، وتقوم الحجة على المعاندين؛ لأن الله فصل آياته وأوضح بيناته،  ليميز الحق من الباطل، ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل المجرمين، فمن عمل بهذا من أهل العلم فهو من خلفاء الرسل وهداة الأمم.

(وتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) : أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي محمد ﷺ وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم

ثم قال: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أي: ظاهرا وباطنا ( وَآتُوا الزَّكَاةَ ) مستحقيها، ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي: صلوا مع المصلين، فإنكم إذا فعلتم ذلك مع الإيمان برسل الله وآيات الله، فقد جمعتم بين الأعمال الظاهرة والباطنة، وبين الإخلاص للمعبود والإحسان إلى عبيده، وبين العبادات القلبية البدنية والمالية.

وقوله: ( وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ) أي: صلوا مع المصلين؛  ففيه الأمر بالجماعة للصلاة ووجوبها، وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلاة لأنه عبّر عن الصلاة بالركوع، والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها.

وقوله تعالى: ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ) أي: بالإيمان والخير (وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)  أي: تتركونها عن أمرها بذلك، والحال: (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) وأسمى العقل عقلا لأنه يعقل به ما ينفعه من الخير، وينعقل به عما يضره، وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به، وأول تارك لما ينهى عنه، فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه، دل على عدم عقله وجهله خصوصا إذا كان عالما بذلك، قد قامت عليه الحجة.

 

وهذه الآية وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل، فهي عامة لكل أحد لقوله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)  

وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أنه يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحدهما لا يكون رخصة في ترك الآخر، فإن الكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر، فليس في رتبة الأول، وهو دون الأخير، وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم الانقياد لمن يخالف قوله فعله، فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجردة.

 

وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴿٤٥﴾‏ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴿٤٦﴾

أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه، وهو الصبر على طاعة الله حتى يؤديها، والصبر عن معصية الله حتى يتركها, والصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطها، فبالصبر وحبس النفس على ما أمر الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من الأمور, ومن يتصبر يصبره الله، وكذلك الصلاة التي هي ميزان الإيمان, وتنهى عن الفحشاء والمنكر, يستعان بها على كل أمر من الأمور ( وَإِنَّهَا ) أي: الصلاة ( لَكَبِيرَةٌ ) أي: شاقة (إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ) فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ لأن الخشوع, وخشية الله, ورجاء ما عنده يوجب له فعلها، منشرحا صدره لترقبه للثواب، وخشيته من العقاب، بخلاف من لم يكن كذلك فإنه لا داعي له يدعوه إليها، وإذا فعلها صارت من أثقل الأشياء عليه.

والخشوع هو: خضوع القلب وطمأنينته، وسكونه لله تعالى وانكساره بين يديه ذلا وافتقارا إليه وإيمانا به وبلقائه.

والفرق بين الطمأنينة والخشوع في الصلاة هو :

إن الطمأنينة ركن لا تصح الصلاة بدونه وهو السكينة والتأني في أداء أعمال الصلاة القولية والفعلية. كما ورد عن النبي ﷺ أنه قال للمسيء صلاته: "اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً،، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك فيي صلاتك كلها".

وعنه ﷺ أنه إذا ركع يطمئن حتى تعود كل فقرة إلى مكانها، وإذا رفع استوى قائما حتى يعود كل فقير إلى مكانها، وإذا استوى السجود واستقام  حتى ترجع كل فقرة إلى مكانها ، وهكذا.

والخشوع  هو  مستحب في الصلاة، والذي هو حضور القلب في الصلاة يستحب عند الجمهور ولا تبطل الصلاة بدونه.

وقد بين الرسول ﷺ ما في حق ذلك: في قوله ﷺ: " إِنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ ، فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : انْظُرُوا هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَيُكَمَّلَ بِهَا مَا انْتَقَصَ مِنْ الْفَرِيضَةِ ؟ ثُمَّ يَكُونُ سَائِرُ عَمَلِهِ عَلَى ذَلِكَ ) (صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي)

وقوله (فَإِنْ انْتَقَصَ مِنْ فَرِيضَتِهِ شَيْءٌ) ، يمكن أن يكون المقصود منه: انتقص من فروضها شروطها وسننها و مستحباتها، أو الإنتقاص من أداء الفرائض فلم يصله، فيعوض عنه بالنوافل، والثاني أظهر.

قال العراقي : فَإِنْ قِيلَ فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ : مُحَاسَبَةُ الْعِبَادِ عَلَى حَقِّ اللَّهِ أَوْ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى حُقُوقِهِمْ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ هَذَا أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ ، وظواهِرُ الْأَحادِيثِ دالَّة عَلَى أَنّ الَّذِي يقَع أَوَّلا الْمحَاسَبَة عَلَى حقوقِ اللَّه تَعالَى قبْل حقوق الْعبَادِ "، وحقوق العباد تؤخذ منه لمن له حق عليه.

ثم يبين لنا ربنا سبب من أسباب الخشوع في الصلاة، قال: ( الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي: يستيقنون (أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ) فيجازيهم بأعمالهم ، هم موقنون بأنهم في صلاتهم هذه ملاقوا الله فيتحببون إليه ويتذللون له بما يقربهم إليه، وهم يوقنون أنهم كما إنهم يلاقوا ربهم في الصلاة ، لفغنهم ملاقوه يوم الحساب، ذلك  (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) فهذا الذي خفف عليهم العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات،ونفس عنهم الكربات وزجرهم عن فعل السيئات، فهؤلاء لهم النعيم المقيم في الغرفات العاليات.

 وأما من لم يؤمن بلقاء ربه، كانت الصلاة وغيرها من العبادات شاقة أعمال وحركاته تأخذ من وقته عما يشغله من أمور الدنيا المحببة إليه، فصارت الصلاة من أشق شيء عليه.

ومن أسباب الخشوع في الصلاة: إتمام الوضوء مع استحضار النية بالتطهر لمقابلة رب العباد،  واستحضار النية بالصلاة والتقرب بها لله، وأن يستحضر قلبه وهو يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم الذي جعل جل مراده  صرف المؤمن عن طاعة ربه؛ كما قال:  (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف ١٦)

‏ وأن يستحضر حاجته لهذا اللقاء مع رب العباد فيسأله ما يشاء من خيري الدنيا والآخرة، وأن يستحضر قلبه وهو يتلوا من القرآن ما يتخير، ولا يكرر دائما نفس الآيات، ويتدبر المعاني ويحاسب نفسه على أن العمل بها ووعيها.

ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته عليهم عظا لهم وتحذيرا وحثا لهم على التصديق بما أنزل عليهم ؛ ( يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴿٤٧﴾‏  فاستخدم معهم أسلوب الترغيب للحث على مقابلة إحسانه سبحانه وتعالى عليهم، بإخلاص العبادة له، وتصديق نبيه الذي وعدهم به، وبينه لهم في كتابهم.

وخوفهم بيوم القيامة وما هو حاصل فيه ومقبول، ومما هو لا يغني عنهم شيئا ولو قدموه فهو مرفوض؛ قال تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ ﴿٤٨﴾‏

حذرهم أن ينسوا أن ذلك اليوم الذي ( لا تَجْزِي ) فيه، أي: لا تغني ( نَفْسٌ ) ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين ، ولو كان من المقربين ، ومن له عليهم حق وواجب فلن يغنوا عنه شيئا، ( عَنْ نَفْسٍ ) ولو كانت من العشيرة الأقربين ( شَيْئًا ) لا كبيرا ولا صغيرا وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه.

( وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا ) أي: النفس شفاعة لأحد بدون إذن الله ورضاه عن المشفوع له، ولا يرضى من العمل إلا ما أريد به وجهه، وكان على السبيل والسنةز

 وقال أيضا: ( وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) أي: فداء، كما قال: (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ) ولا يقبل منهم ذلك، ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) أي: يدفع عنهم المكروه، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه، فقوله: ( لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ) هذا في تحصيل المنافع، ( وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ) هذا في دفع المضار، فهذا النفي للأمر المستقل به النافع.

(وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ) هذا نفي للنفع الذي يطلب ممن يملكه بعوض،  كالعدل – يعطي ما يعادل سيئته مال أو غيره- أو بغيره  كالشفاعة.

فهذا يوجب للعبد أن ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين،  لعلمه أنهم لا يملكون له مثقال ذرة من النفع، وأن يعلقه بالله الذي هو فقط الذي يجلب المنافع ويدفع المضار، فيعبده وحده لا شريك له ويستعينه على عبادته.

No comments:

Post a Comment