Monday 21 February 2022

تفسير سورة البقرة ح 8 نعم الله على بني إسرائيل وكيف قابلوها

    


تفسير سورة البقرة – ح ٨- نعم الله على بني إسرائيل، وعصيانهم لربهم فشدد عليهم

 

محور مواضيع هذا الجزء:

- شرع ربي في تعداد نعم الله على بني إسرائيل ، من إخراجهم من بلد الطاغية كانوا يهانون فيه ويقتلون، إلى بر الأمان

- عدم انصياعهم لأوامر الله، انهم قوم لا تؤمن قلوبهم، بل هو خوف وتعنت في طلب البراهين.

- شدد الله على بني إسرلئيل بالتوبة، فليحمد المسلم ربه على أن جعلها بينه وربه، كلمات تخرج من القلب،ـ فيقبلها الرب ، فنتمحى.

 

التفسير:

وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿٤٩﴾‏

هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي: من فرعون وملئه وجنوده .

ومعنى (نجيناكم):  ألقيناكم على نجوة من الأرض وهي ما ارتفع منها هذا هو الأصل ثم سمى كل فائز ناجيا فالنّاجي من خرج من ضيق إلى سعة.

وقوله تعالى: (مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ)

آل فرعون : هم قومه وأتباعه وأهل دينه وملته.

 وكذلك آل الرسول ﷺ من هو على دينه وملته في عصره وسائر الأعصار سواء كان نسيبا له أو لم يكن. ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه. ولأنه لا خلاف أن من ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريبا له،  ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي ﷺ، قرابة ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح عليه السلام: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ ) (هود ٤٦)،  وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص قال: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ جِهارًا غيرَ سِرٍّ يقولُ: " ألا إنَّ آلَ أبِي -يَعْنِي فُلانًا- لَيْسُوا لي بأَوْلِياءَ، إنَّما ولِيِّيَ اللَّهُ وصالِحُ المُؤْمِنِينَ."

ويدل على هذا المعنى أيضا قوله تعالى: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ)، فأغرق تعالى من كان على ملته من الكفر، فهم آله، ولم يغرق من آمن من بيته، وقال تعالى: (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ ) (غافر٤٦)

واسم: (فرعون) قيل:  هو اسم كل ملك من ملوك العمالقة الذين حكموا مصر؛  مثل كسرى للفرس، وقيصر للروم، والنجاشي للحبشة.

 وأن اسم فرعون موسى قابوس في قول أهل الكتاب. وقال وهب بن منبه: اسمه الوليد بن مصعب بن الريان ويكنى أبا مرة ، وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام. قال السهيلي : وكل من ولى القبط ومصر فهو فرعون، وكان فارسيا من أهل اصطخر.

 قال المسعودي لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية،  فرعون لقب الوليد بن مصعب ملك مصر وكل عات فرعون،  والعتاة الفراعنة وقد تفرعن وهو ذو فرعنة أي دهاء ونكر. وفي الحديث (أخذنا فرعون هذه الأمة)

وكانوا قبل ذلك (يَسُومُونَكُمْ) أي: يولونهم ويستعملونهم، (سُوءَ الْعَذَابِ) أي: أشد العذاب ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب وقد يجوز أن يكون نعتا بمعنى سوما سيئا، فروي أن فرعون جعل بني إسرائيل خدما وخولا وصنفهم في أعماله فصنف يبنون وصنف يحرثون ويزرعون وصنف يتخدمون ، ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال ضربت عليه الجزية فذلك سوء العذاب، وكان قومه جندا ملوكا.

وسوء العذاب بأن كانوا (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ) خشية زيادتهم، وههنا فسر العذاب بذبح الأبناء، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال: (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ) ( إبراهيم ٦)، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل، ولذلك قال  قبلها: (وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ) (إبراهيم  ٥)‏، أي بأياديه ونعمه عليهم. وقال (يُذَبِّحُونَ) بالتشديد على المبالغةأ لكثرة ما ذبح منهم، فالذبح متكرر، فكان فرعون يذبح الأطفال ويبقي البنات وعبر عنهم باسم النساء بالمآل، وههنا فسر العذاب بذبح الأبناء.

( وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ) أي: فلا يقتلونهن، فأنتم بين قتيل ومذلل بالأعمال الشاقة، مستحيي على وجه المنة عليه والاستعلاء عليه فهذا غاية الإهانة، فمن الله عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم.

ويحكى أن فرعون مصر رأى في منامه رؤيا أفزعته فاهتمَّ لها واغتمّ، فقد رأى كأن نارًا قد أقبلت من جهة بيت المقدس حتى وصلت إلى بلاد مصر وأحاطت بدورها وبيوتها فأحرقتها وأحرقت الأقباط وتركت بني إسرائيل دون أذى، فلما استيقظ هالته هذه الرؤيا، لذلك جمع الكهنة والسحرة والمنجمين وسألهم عن تأويل هذه الرؤيا وتفسيرها، فقالوا له: هذا غلام يولد في بني إسرائيل يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، ويكون ذهاب ملكك على يديه أيضًا ويخرجك وقومك من بلدك ويبدل دينك، وقد أظلك زمانه الذي يولد فيه، لذلك أمر فرعون الطاغية أن يقتل كل غلام يولد في بني إسرائيل، فجمع القابلات وقال لهن: لا يولد على أيديكن غلام من بني إسرائيل إلا تقتلنه، فكانت القابلة تنفذ أمر فرعون فكانت تقتل كل مولود ذكر من أطفال بني إسرائيل خوفًا من فرعون وبطشه، وأما الإناث فكن لا يُقتَلن بل يبقين على قيد الحياة من أجل الخدمة والتسخير .

وأمر فرعون كذلك بقتل كل الأطفال الذين هم في زمانه وبقتل من بعدهم.

ولما كَثُر الموت في الشيوخ الكبار من بني إسرائيل دخل وجهاء الأقباط ورؤساؤهم على فرعون وقالوا له: إن الموت قد وقع في مشيخة بني إسرائيل ـ أي الكبار منهم ـ وأنت تأمر بقتل صغارهم لهذا يوشك أن يقع العمل والخدمة علينا ولا يبقى أحد للخدمة غيرنا، لذلك أمر فرعون أن يقتل غلمان بني إسرائيل سنة ويتركوا سنة حتى لا يهلكَ جميع أبناء بني إسرائيل الذين كان فرعون يستخدمهم في أعماله.

وقوله تعالى: ( وَفِي ذَلِكم بَلاءٌ)  قال ابن جرير: وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون، بلاء لكم من ربكم عظيم، أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك.

 وأصل البلاء الاختبار، وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ) (الأنبياء٣٥)‏، وقال: (وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ) (الأعراف ١٦٨)‏.

وقيل المراد بقوله: ( وَفِي ذَلِكم بَلاءٌ)، إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء، قال القرطبي: وهذا قول الجمهور والبلاء ههنا في الشر، والمعنى: وفي الذبح مكروه وامتحان.

وقوله تعالى: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ)

(وَإِذْ فَرَقْنَا):  فلقنا البحر فكان كل فرق كالطود العظيم أي الجبل العظيم.

  وأصل الفرق الفصل؛ ومنه فرق الشعر ، ومنه الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل أي يفصل ومنه . (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ) (المرسلات ٤)‏،  يعني الملائكة تنزل بالفرق ببن الحق والباطل ومنه (يَوْمَ الْفُرْقَانِ) (الأنفال٤١) يعني يوم بدر كان، فيه فرق بين الحق والباطل ومنه: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ) (الإسراء ١٠٦)، أي فصلناه وأحكمناه.

عن أبي إسحاق الهَمْداني، عن عمرو بن ميمون الأودي في قوله تعالى: ( وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ) قال:لما خرج موسى ببني إسرائيل، بلغ ذلك فرعون فقال:لا تتبعوهم حتى تصيح الديكة. قال:فوالله ما صاح ليلتئذ ديك حتى أصبحوا؛ فدعا بشاة فَذُبحت، ثم قال: لا أفرغ من كبدها حتى يجتمع إليَّ ستمائة ألف من القبط. فلم يفرغ من كبدها حتى اجتمع إليه ستمائة ألف من القبط ثم سار، فلما أتى موسى البحر، قال له رجل من أصحابه، قيل هو فتاه: يوشع بن نون: أين أمَرَ ربك؟ قال: أمامك، يشير إلى البحر. فأقحم يوشع فرسَه في البحر حتى بلغ الغَمْرَ، فذهب به الغمر، ثم رجع. فقال: أين أمَرَ ربك يا موسى؟ فوالله ما كذبت ولا كُذبت . فعل ذلك ثلاث مرات، ثم أوحى الله إلى موسى: (أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ ۖ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ( الشعراء٦٣) ، أي: مثل الجبل. ثم سار موسى ومن معه وأتبعهم فرعون في طريقهم، حتى إذا تتاموا فيه أطبقه الله عليهم فلذلك قال: (وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ )، وأغرقناهم وأنتم تنظرون، ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم.

وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء، لما روي عن ابن عباس قال: قدم رسول الله ﷺ المَدِينَةَ واليَهُودُ تَصُومُ يَومَ عاشُوراءَ، فَسَأَلَهُمْ، فقالوا: هذا اليَوْمُ الذي ظَهَرَ فيه مُوسَى علَى فِرْعَوْنَ، فقالَ النبيُّ ﷺ:" نَحْنُ أوْلَى بمُوسَى منهمْ فَصُومُوهُ." ( أخرجه أحمد ورواه البخاري ومسلم)

ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة.

والمواعدة إنما تكون من البشر فأما الله جل وعز فإنما هو المنفرد بالوعد والوعيد. على هذا يأتي في القرآن، كقوله عز وجل (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) (إبراهيم٢٢)، أي واذكروا نعمتي عليكم في عفوي عنكم، لَمَّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه، عند انقضاء أمَد المواعدة، وكانت أربعين يومًا، وهي المذكورة في الأعراف، في قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ) (الأعراف ١٤٢)، وقوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ) (الأنفال ٧).

والمواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد منهما يَعِد صاحبه. قال مكي : المواعدة أصلها من اثنين، وقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: داويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد. فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى قال مكي : وأيضا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله تعالى لموسى، وليس فيه وعد من موسى، قيل: إنها كانت ذو القعدة بكماله وعشر من ذي الحجة، وكان ذلك بعد خلاصهم من قوم فرعون وإنجائهم من البحر.

واسم {موسى} اسم أعجمي لا ينصرف للعجمة والعلمية،  وقيل أن تسميته ب( موسى) كان من القبط ، وهم على - ما يروى - يقولون للماء: مو، وللشجر: شا،  فلما وجد موسى في التابوت عند ماء وشجر سمي موسى.

 قال ابن إسحاق : وموسى هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام.

وقوله تعالى: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ)

في قوله تعالى: ( أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) لم خص الليالي بالذكر دون الأيام؟

 قيل له : اليوم يبدأ بليل ثم يتبعه نهار هذا اليوم، لأن الليلة أسبق من اليوم قبله في الرتبة، ولذلك وقع بها التاريخ فالليالي أول الشهور والأيام تبع لها. قال النقاش : في هذه الآية إشارة إلى صلة الصوم لأنه تعالى لو ذكر الأيام لأمكن أن يعتقد أنه كان يفطر بالليل فلما نص على الليالي اقتضت قوة الكلام أنه عليه السلام واصل صيام أربعين يوما بلياليها.

والأربعون كلها داخلة في الميعاد، يصومها كلها.

والأربعون في قول أكثر المفسرين ذو القعدة وعشرة من ذي الحجة وكان ذلك بعد أن جاوز البحر وسأله قومه أن يأتيهم بكتاب من عند الله فخرج إلى الطور في سبعين من خيار بني إسرائيل وصعدوا الجبل وواعدهم إلى تمام أربعين ليلة فعدوا - فيما ذكر المفسرون - عشرين يوما وعشرين ليلة وقالوا قد أخلفنا موعده. فاتخذوا العجل وقال لهم السامري : هذا إلهكم وإله موسى فاطمأنوا إلى قوله. ونهاهم هارون وقال: (و يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ ۖ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَٰنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي* قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ ) (طه٩٠-٩١).

قوله تعالى: (ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )

العفو عفو الله جل وعز عن خلقه:

 وقد يكون بعد العقوبة وقبلها، وكل من استحق عقوبة فتركت له فقد عفي عنه فالعفو محو الذنب أي محونا ذنوبكم وتجاوزنا عنكم مأخوذ من قولك عفت الريح الأثر أي أذهبته.

وعفا الشيء : أي  كثر ،  فهو من الأضداد  ( كلمة تعني الشيء وضده)، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا ) [الأعراف٩٥] ، أي بدلنا الحالة الطيبة ،  مكان الحالة السيئة الأولى، فأصبحوا في عافية في أبدانهم، وسَعَة ورخاء في أموالهم.

قوله تعالى: (مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ)  أي من بعد عبادتكم العجل ، وسمي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته. والله أعلم

والعجل ولد البقرة، والجمع العجاجيل والأنثى عجلة ، ( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، كي تشكروا عفو الله عنكم ، ولعل وهي للرجاء.

 وأما الشكر : فهو في اللغة الظهور من قوله: دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف.

 وحقيقته الثناء على الإنسان بمعروف يوليكه. قال الجوهري : الشكر الثناء على المحسن بما أولاكهُ من المعروف،  يقال : شكرته،  وشكرت له؛  وباللام أفصح.

 والشكران خلاف الكفران ، وتشكرت له مثل شكرت له، وفي الحديث عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: " مَن لا يشكرُ النَّاسَ لا يشكرُ اللهَ" ( الترمذي – حسن صحيح)

في معنى الشكر:  قال سهل بن عبدالله:  الشكر : الاجتهاد في بذل الطاعة مع الاجتناب للمعصية في السر والعلانية.

وقالت فرقة أخرى : الشكر هو الاعتراف في تقصير الشكر للمنعم ، ولذلك قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ ١٣) فقال داود : كيف أشكرك يا رب والشكر نعمة منك ؟ قال :  الآن قد عرفتني وشكرتني إذ قد عرفت أن الشكر مني نعمة.

قالوا في الشكر: حقيقة الشكر العجز عن الشكر ،

الشكر : التواضع والمحافظة على الحسنات ومخالفة الشهوات وبذل الطاعات ومراقبة جبار الأرض والسماوات.

 وقال ذو النون المصري: الشكر لمن فوقك بالطاعة ولنظيرك بالمكافأة ولمن دونك بالإحسان والإفضال.

في سورة البقرة هناك ثلاث آيات تنتهي بعبارة:  (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) هي:

(ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٢) البقرة

(ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٥٦) البقرة

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)  (١٨٥) البقرة

وقوله تعالى: ( وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )

الكتاب هو التوراة، قال عنه والفرقان؛ فرقا بين الحق والباطل أي الذي علمه إياه،

وقيل : الفرقان الفرج من الكرب لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط ومنه قوله تعالى : (إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا) (الأنفال  ٢٩) أي:  فرجا ومخرجا،  وقيل : إنه الحجة والبيان.

والواو صلة والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان،  والواو قد تزاد في النعوت كقولهم فلان حسن وطويل.

ودليل هذا التأويل قوله عز وجل: (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) (الأنعام ١٥٤)  أي بين الحرام والحلال والكفر والإيمان والوعد والوعيد وغير ذلك.

وقوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴿٥٤﴾

القوم : الجماعة، تغلب على أن تكون من  الرجال دون النساء، قال الله تعالى (لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ ) ،  ثم قال (وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ) (الحجرات١١)

وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، أي أسأتم إلى أنفسكم بعبادة العجل.

(فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ لما قال لهم فتوبوا إلى بارئكم قالوا كيف؟ قال (فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ )، قال أرباب الخواطر ذللوها بالطاعات وكفوها عن الشهوات ، والصحيح أنه قتل على الحقيقة هنا والقتل : إماتة الحركة. قال سفيان بن عينه التوبة نعمة من الله أنعم الله بها على هذه الأمة دون غيرها من الأمم وكانت توبة بني إسرائيل القتل.

وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده قال الزهري : لما قيل لهم (فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ)، قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم : كفوا فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحي ، قال بعض المفسرين : أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك، فلما استحر فيهم القتل وبلغ سبعين ألفا عفا الله عنهم .‏

( بَارِئِكُمْ )  البارئ الخالق ؛ وبينهما فرق وذلك أن البارئ هو المبدع المحدث من العدم ، على غير مثال، ولا شبه، والخالق هو المقدر الناقل من حال إلى حال.

برأ : أي تنزه وتباعد ،وفي حق الله سبحانه وتعالي معناه المنزه عن كل عيب، منزه عن كل نقص، وتقول مثلاً:  برأَ الرجل من هذا المرض ..برأ  أي:  أنه تعالج منه، برأ  تخلص منه وصار صحيحًا.

ورد هذااسم الله البارئ  ثلاث مرات، اثنتين في هذه الآية ، وثالثة: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ ۖ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ ) ( الحشر٢٤)

 والبرية : الخلق وهي فعيلة بمعنى مفعولة غير أنها لا تهمز.  قال تعالى: (ِ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)  [البينة ٧ ).

  فلم يتبع هارون ولم يطعه في ترك عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا فيما روي في الخبر. وتهافت في عبادته سائرهم وهم أكثر من ألفي ألف،  فلما رجع موسى ووجدهم على تلك الحال ألقى الألواح فرفع من جملتها ستة أجزاء وبقي جزء واحد وهو الحلال والحرام وما يحتاجون وأحرق العجل وذراه في البحر فشربوا من مائه حبا للعجل، فظهرت على شفاههم صفرة وورمت بطونهم فتابوا ولم تقبل توبتهم دون أن يقتلوا أنفسهم فذلك قوله تعالى (فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ)، فقاموا بالخناجر والسيوف بعضهم إلى بعض من لدن طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى فقتل بعضهم بعضا لا يسأل والد عن ولده ولا ولد عن والده ولا أخ عن أخيه ولا أحد عن أحد كل من استقبله ضربه بالسيف وضربه الآخر بمثله حتى عج موسى إلى الله صارخا : يا رباه قد فنيت بنو إسرائيل! فرحمهم الله وجاد عليهم بفضله فقبل توبة من بقي؛ (فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ)، وجعل من قتل في الشهداء.

( وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) وهذا غاية الظلم والجراءة على الله وعلى رسوله،  .وقال الربيع بن أنَس: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه، قال فسمعوا كلاماً فقالوا: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً ) ، قال: فسمعوا صوتاً فصعقوا، يقول ماتوا. قال السدي في قوله ( فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ) الصاعقة: نار تأتي مع الربق والصواعق، فماتوا، إما الموت أو الغشية العظيمة،  فقام موسى يبكي ويدعو اللّه ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ( قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ)،  فأوحى اللّه إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل، ثم إن اللّه أحياهم فقاموا وعاشوا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون؟ قال: فذلك قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) . وقال الربيع ابن أنَس: كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. 

والله أولى وأعلم ، وللحديث بقية .


No comments:

Post a Comment