Thursday 3 February 2022

تفسير سورة البقرة ح5 لماذا ضرب المثل بالبعوضة- فما فوقها

   
  

تفسير سورة البقرة- ح5 – لماذا ضرب الله  مثلا بالبعوضة؟- ثم قصة الخلق الأول

قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ۚ)

الله تعالى لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئًا ما، قلَّ أو كثر، ولو كان تمثيلا بأصغر شيء، كالبعوضة والذباب ونحو ذلك، مما ضربه الله مثلا لِعَجْز كل ما يُعْبَد من دون الله. فأما المؤمنون فيعلمون حكمة الله في التمثيل بالصغير والكبير من خلقه، وأما الكفار فَيَسْخرون ويقولون: ما مراد الله مِن ضَرْب المثل بهذه الحشرات الحقيرة؟  ويجيبهم الله بأن المراد هو الاختبار، وتمييز المؤمن من الكافر؛ لذلك يصرف الله بهذا المثل أناسًا كثيرين عن الحق لسخريتهم منه، ويوفق به غيرهم إلى مزيد من الإيمان والهداية،  والله تعالى لا يظلم أحدًا؛ لأنه لا يَصْرِف عن الحق إلا الخارجين عن طاعته.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾

تفسير الآية :

في سبب نزول هذه الآية : عن ابن عباس قال: لما ذكر الله آلهة المشركين فقال: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ) ( الحج ٧٣ )،  وذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، في قوله سبحانه وتعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّـهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ) (العنكبوت ٤٣)  قالوا:  أرأيت حيث ذكر الله الذباب والعنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد، أي شيء يصنع؟ فأنزل الله الآية.

وقال الحسن وقتادة: لما ذكر الله الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب للمشركين به المثل، ضحكت اليهود وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله، فأنزل الله الآية.

وقوله : (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا)

وأصل الاستحياء  في اللغة:
الحياء: الحشمة، ضد الوقاحة. وقد حيي منه حياء واستحيا واستحى فهو حَيِيٌّ،

وهو الانقباض والانزواء.

معنى الحَيَاء اصطلاحًا:

هو: (انقباض النَّفس مِن شيءٍ وتركه حذرًا عن اللَّوم فيه).

وقال ابن حجر: (الحَياء: خُلُق يبعث صاحبه على اجتناب القبيح، ويمنع مِن التقصير في حقِّ ذي الحقِّ).

وقيل هو: (تغيُّر وانكسار يعتري الإنسان مِن خوف ما يُعَاب به ويُذَمُّ، ومحلُّه الوجه)

وكل هذه المعاني محال على الله تعالى، فيصير إلى تأويل الإستحياء بـما جاء في معنى الحديث: في صحيح مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: جاءت أم سليم إلى النبي ﷺ فقالت:  "يَا رَسولَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ فَهلْ علَى المَرْأَةِ الغَسْلُ إذَا احْتَلَمَتْ؟" المعنى لا يأمر بالحياء في قول ما هو حق، ولا يمتنع من ذكره.

وقال سعيد، عن قتادة:أي إن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا ما، قل أو كثر، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت قال أهل الضلالة:ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنـزل الله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا )

 

حقائق علمية عن البعوضة:

 

ينتمى البعوض إلى رتبة الحشرات ذات ست أجنحة، ويوجد 3000 نوع من البعوض.

ينقل البعوض العديد من الأمراض الخطيرة للإنسان. حيث تقوم بعوضة الأنوفيلس بنقل مرض الملاريا للإنسان فى مناطق كثيرة من العالم وخاصة فى إفريقيا،  و حمى غرب النيل ، والتهاب الدماغ ، والحمى الصفراء وغيرها الكثير .

تتضمن  دورة حياة البعوض أربعة أطوار : البيضة ، اليرقة ، العذراء والحشرة الكاملة.

تلعب الأنثى الدور الرئيسى فى نقل المرض للإنسان والحيوان .

ترتبط البعوضة مع كثير من الكائنات  الأكبر أو الصغر منها بعلاقات متميزة  أهلتها للتواجد على الأرض منذ اكثر من 150 مليون سنة .

مميزاتها الخَلقية:

لها مائة عين في رأسها،  ولها في فمها 48 سناً .

لها ثلالثة قلوب كاملة في جوفها بكل اقسامها.

لها 6 سكاكين في خرطومها لكل واحدة وظيفتها.

لها ثلالثة اجنحة في كل طرف.

مزودة بجهاز حراري يعمل بنظام اشعة مثل نظام الأشعة تحت الحمراء وظيفته: يعكس لها لون الجلد البشري في الظلمة إلى لون بنفسجي حتى تراه.

مزودة بجهاز تخدير موضعي يساعدها على غرز إبرتها دون أن يحس الإنسان وما يحس به كالقرصة هو نتيجة مص الدم.

مزودة بجهاز لتمييع الدم حتى يسري في خرطومها الدقيق جدأً.

مزودة بجهاز تحليل دم فهي لا تستسيغ كل الدماء.

مزودة بجهاز للشم تستطيع من خلاله شم را ئحة عرق الإنسان من مسافة 60 متراً.

 

واغرب ما في هذا كله ان العلم الحديث اكتشف أن فوق ظهر البعوضة تعيش حشرة صغيرة جداً لا ترى الا بالعين المجهرية  وقيل : توجد طفيلية صغيرة .. وليست حشرة

 

وجه الإعجاز فى قوله: (بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)

 

في البحث عن المعنى اللغوي لعبارة (فَمَا فَوْقَهَا): ففي كتب التفسير ، قالوا : قوله تعالى(فَمَا فَوْقَهَا)  فيه قولان:

أحدهما فما دونها في صغر الحجم والحقارة ، ففي معنى الحقارة: كما إذا وصف لك رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت – وفي الحديث: «لو كانت الدنيا تَعدل عند الله جَناح بَعوضة، ما سَقَى كافراً منها شَرْبَة ماء». ( صحيح الترمذي)،  أي لحقارتها عند الله تعالى.

وفي معنى الصغر :قال الكسائي: وهذا كقولك في الكلام: أتراه قصيرا؟ فيقول القائل: أو فوق ذلك، أي هو أقصر مما ترى .

وتطبيق ذلك على البعوضة:

إن السبب فى قدرة البعوضة على نقل الأمراض  تكمن فى سر(فَمَا فَوْقَهَا)،  أى ما أصغر منها من كائنات، وهى البكتريا التى تعيش فى معدة البعوض إن هذه البكتريا  تدافع عن البعوضة ضد المسببات المرضية المختلفة التى تدخل مع وجبة الدم التى تأخذها من إنسان أو حيوان مصاب بالمرض. تحاول البكتريا  قتل المسببات المرضية ولكن إذا نجحت تلك المسببات فى القضاء على البكتريا المتعايشة مع البعوضة أو إضعافها، فإن تلك المسببات تتكاثر فى العدد وتسبب الأمراض . ولعل نتائج البحث قد كشفت عن بعض السر المعجز فى التعبير القرآنى ( فَمَا فَوْقَهَا) إن هذه الكائنات تحمى البعوضة والشئ المعجز أنها تحمى الإنسان أيضاً عن طريق قتل المسببات المرضية التى تنتقل إليه إذا تغذت على البعوضة على دمه .

وثانيهما: فإن قوله: (فَمَا فَوْقَهَا) قد يدل على ما فوق جسم البعوضة، فلقد  وجدت  كائنات دقيقة اصغر من البعوضة تعيش فوق جسمها من الخارج، تفترس البعوضة وتقتلها مثل: الفطريات وحشرات غيرها.

ومما ورد أيضا في معاني ( فَمَا فَوْقَهَا) بأنه ما أكبر منها فى الحجم،كما قال قتادة وابن جريج: المعنى- أي لعبارة ( فَمَا فَوْقَهَا) - في الكبر، أي : فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة، فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ، قَالَ : " مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً ، فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ "، فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلا ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة،  كما لا يستنكف عن خلقها ، كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت.

 فإننا سنجد أن البعوضة ترتبط بعلاقات معقدة مع الكائنات الأكبر منها وخاصة الإنسان والحيوان، أيضاً نجد أن البعوضة ترتبط مع معظم أفراد المملكة الحيوانية بعلاقات كثيرة.   مثل الاسماك والزواحف، والبرمائيات والثدييات.

 فلقد وجد أن البعوضة تصيب الإنسان والحيوان بالعديد من الأمراض. ولكن كل المسببات المرضية التى تسبب هذه الأمراض تقع تحت التفسير الأول لمعنى بعوضة ( فَمَا فَوْقَهَا) أى الكائنات الأصغر منها والتى سبق ذكرها. ولقد عبر القرآن الكريم عن كل تلك العلاقات سواء التى بين الكائنات الأكبر من البعوضة أو الكائنات الأصغر منها (المسببات المرضية) فى تعبير معجز: ( فَمَا فَوْقَهَا)

وقال قتادة: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي:يعلمون أنه كلام الرحمن، وأنه من عند الله. وقال أبو العالية: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) يعني:هذا المثل: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا) ، وكذلك قال هاهنا: ( يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ)

عن ابن عباس - وعن ابن مسعود، وعن ناس من الصحابة: (يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا ) يعني: المنافقين، (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا ) يعني المؤمنين، فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالهم لتكذيبهم بما قد علموه حقًا يقينًا، من المثل الذي ضربه الله بما ضربه لهم وأنه لما ضربه له موافق، فذلك إضلال الله إياهم به ( وَيَهْدِي بِهِ ) يعني بالمثل كثيرًا من أهل الإيمان والتصديق، فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيمانًا إلى إيمانهم، لتصديقهم بما قد علموه حقًا يقينًا أنه موافق ما ضربه الله له مثلا وإقرارهم به، وذلك هداية من الله لهم به (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ)،  قال:هم المنافقون .فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق، وقاموا بها أتم القيام، وأما الفاسقون، فقطعوها، ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة، والعمل بالمعاصي، وهو: الإفساد في الأرض.
الفاسقون :

هم أهل الكفر أو النفاق ، فسقوا فأضلهم اللّه على فسقهم، ويزيد ضلالة إلى ضلالتهم، لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه اللّه.
والفاسقُ في اللغة:

هو الخارج عن الطاعة. تقول العرب: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها، ولهذا يقال للفأرة (فويسقة) لخروجها عن جحرها للفساد.

وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللّهﷺ قال: "خمس فواسق يُقتلن في الحرم: الفأرة والعقرب والْحُدَيّا والغراب والكلب العقور".

  والفاسق يشمل الكافر والمنافق، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش، والمراد به من الآية الفاسقُ الكافر والله أعلم، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ)، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين.

كما قال تعالى في سورة الرعد: (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ..) الآيات، إلى أن قال: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ) [ الرعد ١٩- ٢٥] .

وقوله تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) إلى قوله: ( الْخَاسِرُونَ )

قال:هي ست خصال من المنافقين إذا كانت فيهم الظَّهْرَة على الناس أظهروا هذه الخصال: إذا حدثوا كذبوا،  وإذا وعدوا أخلفوا،  وإذا اؤتمنوا خانوا،  وإذا عاهدوا نقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل،  وأفسدوا في الأرض.
 وإذا كانت الظَّهْرَةُ عليهم أظهروا الخصال الثلاث: إذا حدثوا كذبوا، وإذا وعدوا أخلفوا، وإذا اؤتمنوا خانوا.

و قوله تعالى: ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) قال:هو ما عهد إليهم في القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.

وقوله: ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ) قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات، كما فسره قتادة كقوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد٢٢] ورجحه ابن جرير. وقيل:المراد أعم من ذلك فكل ما أمر الله بوصله وفعله قطعوه وتركوه.

 ما هو العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه؟  

 

قيل: هو وصية اللّه إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله، ونقضُهم ذلك هو تركهم العمل به.
وقيل: بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق، وعهدُه جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة على ربوبيته، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله، الشاهد لهم على صدقهم. ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق، وقد ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد بما يجدونه عندهم في كتبهم وهو أمر وصّاهم به ووثَّقه عليهم، وهو معنى قوله تعالى: ( وإذ أخَذَ اللهُ ميثاقَ النَّبيّتن لَما ءاتَيْتُكُم من كِتابٍ وحِكْمه ثمَّ جاءَكُم رَسولٌ مصدق لما معكم لتؤمنٌنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ) [ آل عمران ٨١]، إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم ، لذلك قال لبني إسرائيل : ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [ البقرة ٤٠]  

وقال آخرون: العهد الذي ذكر تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله: ( أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ...) [ الأعراف١٧٢] ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به، وكفرهم بربهم .
وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى
:( وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) قال: ما عهد إليهم من القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه.

والحق أن كل هذا مقصود، داخل فيه خيانة العهد.


-  في معنى قوله؛( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ):

 

 قيل: المراد به صلة الأرحام والقرابات ، وهذا الأوضح ، كقوله تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) [محمد ٢٢].

 وقيل: المراد أعم من ذلك، فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه هم محاسبون عليه ومؤاخذون به .
وقوله تعالى :
(أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) خسارتهم الكبرى هي في الآخرة، وهذا كما قال تعالى: (أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) [الرعد ٢٥]

والخاسرون؛  جمع خاسر وهم المنقصون أنفسهم حظهم من رحمة الله  بمعصيتهم إياه سبحانه وتعالى،  كما يخسر الرجل في تجارته، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته.

ثم قال تعالى: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)  

يقول تعالى محتجًا على وجوده وقدرته، وأنه الخالق المتصرف في عباده: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ) أي:كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره! ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) أي:قد كنتم عدمًا فأخرجكم إلى الوجود، كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ ) [ الطور٣٥-٣٦] ، وقال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ) [ الإنسان١] والآيات في هذا كثيرة.

وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) [ غافر١١] ، قال:هي التي في البقرة: ( وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ )

وقال ابن جُريج ، عن عطاء، عن ابن عباس: ( كُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ) أمواتا في أصلاب آبائكم، لم تكونوا شيئًا حتى خلقكم، ثم يميتكم موتة الحق، ثم يحييكم حين يبعثكم. قال:وهي مثل قوله: (قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ) [ غافر١١]

وقال الثوري، عن السدي عن أبي صالح: ( كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) قال:يحييكم في القبر ، ثم يميتكم.

والصحيح  هو كقوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)  [ الجاثية٢٦] .

وعبر عن الحال قبل الوجود بالموت بجامع ما يشتركان فيه من عدم الإحساس، كما قال في الأصنام:  (أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ..) [ النحل٢١] ، وقال تعالى: ( وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) [ يس٣٣] .

 

وقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ )

 

لما ذكر تعالى دلالةً مِنْ خَلْقهم وما يشاهدونه من أنفسهم، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه مِنْ خَلْق السماوات والأرض، فقال: ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ) أي:قصد إلى السماء، والاستواء هاهنا تَضَمَّن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بـــ( إلى) (فَسَوَّاهُنَّ) أي: فخلق السماء سبعًا، والسماء هاهنا اسم جنس، فلهذا قال: (فَسَوَّاهُنَّ) .

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: وعلمه محيط بجميع ما خلق . كما قال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك١٤] .

وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [ فصلت٩-١٢] .

ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولا ثم خلق السماوات سبعًا، وهذا شأن البناء الدنيوي أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك، وقد صرح المفسرون بذلك، كما سنذكره بعد هذا إن شاء الله. فأما قوله تعالى: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ) [ النازعات٢٧-٣٢] ، فقد قيل: إن (و ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر، لا لعطف الفعل على الفعل، وليس للترتيب.

للحديث بقية ، لله الحمد والمنة 

No comments:

Post a Comment